المثقفون المصريون والسلطة: لا صوت يعلو على صوت الرئيس | أحمد دنا
أحمد دنا
في شهر مارس/آذار الماضي، اجتمع السيسي ببعض “المثقفين”. في الصورة الختامية للقاء، غامت كل الوجوه فكان من الصعب تبين ملامحها إلا بـ”بيريه” أحمد عبد المعطي حجازي وثلاث عكازات صارت مركز الصورة. بدت العكازات في الصورة هي “جسد” الثقافة في تمثّلها الأخير، الثقافة بما هي إنتاج تجميلي لخطاب السلطة، عجوز متهالكة بالكاد تستطيع أن تتمالك نفسها وانتصاب قامتها في الصورة الرسمية. بعض الوجوه الثقافية لم يتغير موقعها ولا لقاءاتها برؤساء مصر عبر ثلاثين عامًا وأكثر. ربما تغير وجه أو اثنان بعد أن مات سلفه فكان لا بد من إحلال وجوه جديدة تمثل الخيار الأكثر أمانًا، الأقل مشاغبة.
تساءل إدوارد سعيد يومًا: كيف للمثقف أن يخاطب السلطة؟ ويفرق سعيد بين المثقف الموظف الذي تزدهر أحواله بالركود وعدم الاشتباك مع المتغير المستفيد من مزايا السلطة وإن كان على هامشها.
مثقفو مصر، حاضرو اجتماعات الرؤساء ليسوا من هذا الصنف فحسب، بل قد تحولوا إلى جزء أصيل من خطاب السلطة عبر تاريخها الطويل، لأن “خطاب المثقَّف عادة ما يكون متميزًا عن خطاب السياسي لأن الأخير يخاطب الآني والعارض بخطاب متلون، أما المثقف فيرحل نحو الدائم، الأبدي والجوهري والعرضي”.
لا يمكن إذن اعتبار لقاءات الرؤساء بالمثقفين حوارًا، بل مونولوجًا طويلاً من رأس السلطة إلى بعض عناصرها، أي أن هذه اللقاءات ما هي إلا – بتجريد الأسماء – لقاء رئيس بموظفيه حصرًا، حيث الخلاف يكون في هذا السياق، لن يخرج عن إطاره.
في تعريفه للثقافة، يرى جي ديبور “المواقفي” الفرنسي في كتابه الأهم مجتمع الاستعراض أن “الثقافة، في المجتمع التاريخي المنقسم إلى طبقات، هي المجال العام للمعرفة ولتمثيلات ما هو معاش، مما يعني القول إنها هذه القدرة على التعميم، بوصفها تقسيمًا للعمل الذهني وعملاً ذهنياً للانقسام”. ويمكن فهم كل التاريخ الظافر للثقافة بوصفه تاريخ إيضاح عدم كفايتها، بوصفه مسيرة باتجاه كبتها الذاتي. الثقافة في موضع البحث عن الوحدة الضائعة، وفي هذه الوحدة، تكون الثقافة بوصفها مجالاً منفصلاً مضطرة إلى نفي نفسها.
حاول ديبور فهم “الدور التاريخي” للثقافة بما لها من دور وظيفي تاريخي، من موقعه كماركسي، كفعل مقاومة، مقاومة المنتج المعرفي والفني الكلاسيكي ومن تحويلها كسلعة في مجتمع الاستعراض. سبقه إلى ذلك غرامشي الذي رأى أن على المثقف مسؤولية ما، وبذلك تتسع دائرة تعريفه للمثقف إلى كل “حامل معرفة” ابتداء، لكنهم لا يملكون “الوظيفة الاجتماعية” للمثقفين ومن هنا خرج مفهومه الأشهر “المثقف العضوي”.
هذا التعريف كان محل وقوف عند إدواد سعيد في كتابه “المثقف والسلطة”، كما كان تعريف سارتر للمثقف ودور “وعيه الشقي” على حد تعبيره. استعرض سعيد التعريفات الكلاسيكية للمثقف بما هو تمثيل للمسكوت عنه ويمثل نبض الجماهير، حاملاً قيمًا كونية. رأى صاحب “الاستشراق” أن هذه “الكونية” فكرة أوروبية بامتياز، وقد تغير كثيرًا. فلم تعد أوروبا والغرب “حاملة اللواء”، إذ بعد الحرب العالمية الثانية فقدت أوروبا إشعاعها الفكري والثقافي لإنارة ما كان قد يسمَّى بالمناطق المظلمة على الأرض. فحسب سعيد، عندما نتحدث عن المثقفين اليوم نتحدث عن اختلافات وغيريات معينة ما بين المثقفين ذاتهم من أدباء وغيرهم ومن قارات ومن قوميات، فكل منها يتطلب بحثًا مخصوصًا بحسب رقعة الانتماء.
يبدو في العالم العربي خصوصًا أن دور المثقف هامشي، لأن السلطة هي سلطة المجتمع والسياسة وسلطة رجال الدين هي السائدة، هكذا يعبر إدوارد سعيد في فصله الثالث عن منفى المثقفين “المغتربين والهامشيين” الذين عاشوا حياتهم فرادى في مجتمعاتهم إذ يمكن تقسيمهم إلى منتمين وغير منتمين. أي بمعنى أولئك الذين ينتمون إلى مجتمعاتهم ويتكيَّفون في واقعها القائم والذي تزدهر أحوالهم فيه من دون الإحساس بالاختلاف والمغايرة وهم أولئك الذين هم من ناصية “نعم” أو أولئك الذين هم في شقاق مع واقع مجتمعاتهم والذين هم من ناصية “لا” والمنفيُّون من مزايا السلطة ومظاهر التكريم.
هكذا يتساءل إدوارد سعيد كيف للمثقَّف أن يخاطب السلطة؟ باعتباره المناشد لها أم الهاوي الذي لا يتلقَّى مقابلاً؟ ثم إنَّ المثقَّف الحقَّ، ليس ذلك الموظَّف الذي يطبِّق ما تفرضه الحكومات أو الشركات أو حتى النقابات التي تسعى للتنميط ولهذا يؤكِّد سعيد أنَّ المثقَّف الحقيقي هو الذي يستعصي على الحكومات والشركات استقطابه فهو الذي “لا يتسلَّق جبلاً ولا يعتلي منبرًا حتى يعلن ما لديه من الأعالي” لأنَّ خطاب المثقَّف عادة ما يكون متميزًا عن خطاب السياسي لأنَّ الأخير يخاطب الآني والعارض بخطاب متلون، أمَّا المثقَّف فيرحل نحو الدائم، الأبدي والجوهري والعرضي.
في حوار بين ميشيل فوكو وجيل دولوز، الفيلسوفان الفرنسيان، حول مفاهيم السلطة والمثقف، عزا فوكو إلى أن الجماهير لم تعد في حاجة إليهم (إلى المثقفين)، لتعرف. لأن الجماهير تعرف تمامًا، وبوضوح، وحتى أفضل منهم، وتقول ذلك بقوة. ولكنه يوجد نظام من السلطة يعيق ويمنع ويعرقل هذا الخطاب وهذه المعرفة. سلطة ليست فقط في الهيئات العليا للرقابة ولكنها في شبكة المجتمع بشكل عميق وحاذق ودقيق. والمثقفون أنفسهم يشكلون جزءاً من نظام هذه السلطة. ودور المثقف ليس أن يتموقع “هناك إلى الأمام قليلاً أو إلى الجانب شيئًا ما” من أجل أن يقول الحقيقة الخرساء، عليه بالأحرى أن يصارع ويناضل ضد أشكال السلطة حيث يكون، في نفس الوقت، موضوعًا وأداة: في نظام “المعرفة” و”الحقيقة” في “الوعي” وفي “الخطاب”. بهذا المعنى فإن النظرية لا تعبر عن شيء، ولا تترجم شيئًا، ولا تمارس تطبيقًا معينًا، إنها ممارسة. ولكنها ممارسة محلية وجهوية، وكما تقول: ليست كلية. الصراع أو النضال ضد السلطة، النضال من أجل إظهارها، هنالك حيث لا ترى وحيث تكون أكثر مكرًا ودهاء. صراع ليس من أجل “استرجاع الوعي” ـ “فمنذ زمن بعيد أو فترة بعيدة لم يعد الوعي بوصفه معرفة مكتسبة من قبل الجماهير وبوصفه موضوعًا، من اهتمام البورجوازية”ـ من أجل إسقاط وأخذ السلطة، مع، جميع الذين يصارعون من أجلها وليس بمسافة أو عن قرب من أجل توضيحها “النظرية “هي النظام المحلي أو الجهوي لهذا الصراع
عدد من المثقفىن اضطروا لتغيير معتقداتهم الفكرية، فقط ليكونوا قريبين من النظام، أو لامتيازات مادية ينعمون بها، والأمثلة على ذلك كثيرة، حتى طالب كثيرون بضرورة انفصال المثقفين عن السلطة، بل أن يكونوا هم صوت المعارضة، الممثل للشعب، ومشكلاته، وقضاياه، وليس مجرد جوقة للنظام.
لذا يطرح السؤال نفسه: هل دور المثقف مهمش فى مصر، ليكون مجرد أداة في يد السلطة، سواء كانت سياسية أو دينية أو مجتمعية، فعلى مدار فترات حكم رؤساء مصر، كانت علاقة المثقفين بالسلطة من القضايا المثيرة للجدل والبحث، خاصة لدورهم المهم في تغيير المجتمعات، إذا تضامنوا مع قضايا الشعب، وعبروا عنها في كتاباتهم.
عبر السيسي صراحة عن رأيه في مثقفي دولته، إذ وجه لكم كلمة –كما نقلتها حاضرة الاجتماع فريدة النقاش: “تميلون للتنظير، بينما الواقع أكثر تعقيدًا، أطلب منكم الالتحام بالواقع أكثر، وتنظيم ورش عمل وأن توسعوا قاعدة هذا اللقاء”. هكذا يرى السيسي في موظفيه بائعي سلعة الثقافة إنهم يميلون لإنتاج “كلام” منفصل عن الواقع، ولم يعارضه أحد، وكيف يعارض الموظف رئيسه؟
هل يدرك مثقفو الدولة أنهم بلا قيمة حقيقية وفاعلة غير تجميل وجه النظام؟ هل يدركون أن الصحف والمواقع لم تهتم بما قالوه للرئيس ولم يأخذوا منهم غير كلمته التي قيلت لتكون مانشيتَ صحفيًا “أنا لست رئيس مصر أنا ابنها” وأن وجودهم قيمته مضافة إلى الرئيس لا قيمة مضافة إليهم؟
لقاءات رؤساء مصر بمثقفيها، غالبًا ما يكون لقاء صوريًا، باستثناء جمال عبد الناصر الذي كان يسمح بلقاء متعمق مع المثقفين، ولكن من لا يقتنع برأيه كان يوفده فورًا في مهمة شاقة إلى معتقل الواحات. حدث هذا مع كل اليساريين ومنهم لويس عوض. الذي كان يكلف بحمل الأحجار والصعود بها، فلما سقط منه حجر قال للحارس مازحًا (شأني شأن سيزيف) فاعتبرها الحارس إهانة له وركله بقدمه.
أما في فترة حكم السادات، فقد توترت علاقته بـ”الأفندية الأرازل” كما كان يسميهم، خاصة بعد معاهدة السلام مع إسرائيل، والاعتقالات الواسعة في آخر أيام رئاسته دليل على موقفه من المثقفين، والموقف الشهير بينه وبين الدكتور جابر عصفور محترف اللقاءات الرئاسية، حين طالب عصفور الرئيس السادات بمزيد من الحرية فرد عليه السادات ساخرا “بتاكل مع الرئيس وبيقطع لك الأكل بإيده وعاوز حرية أكتر؟”.
عهد المخلوع مبارك شهد واقعة شهيرة في اللقاء السنوي الدوري بين الرئيس والمثقفين في معرض الكتاب، حين قام الباحث الراحل محمد السيد سعيد مطالبًا الرئيس بإصلاحات، فما كان منه إلا أن سخر منه مطلقًا عبارات نابية.
مثلاً.. صلاح عيسى مثقف السيسي غير صلاح عيسى كتاب “مثقفون وعسكر”، صلاح عيسى اليوم يرى” أنه لا يوجد ما يسمى بمصطلح “مثقفي السلطة”، فعباس محمود العقاد كاتب الوفد الأول، كان مقربًا من سعد زغلول بشكل كبير، وهذا لا يعنى أنه “مثقف سلطة”. مع أنه كان قد كتب يوماً ما “شهد جيلي هو والجيل السابق عليه، انقلابات فكرية بطريقة الانقلابات العسكرية، مفاجئة غير مبررة أو مؤصلة، نقلت البعض من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين ومن صلابة الاعتراض إلى مذلة التبرير”.
2017-01-03