الكاتب الذي أصيب بنوبة سعال طويلة | أسعد ساري – اليمن
أسعد ساري
السعال لم يتوقف وبدأت الشكوك تساورني بخصوص هذا المرض العادي .. ذهبت إلى مستشفى كبير وهناك أصرّ طبيب استشاري لم يسمع في حياته عن كلمة ” رحمة ” أصرّ على إحالتي إلى قسم الرقود فورا ، قال وهو يكتب على ورقة صغيرة باستعجال – حركات نص كم …قسم الرقود.. غرفة رقم 76 .
خلال يومين في قسم الرقود لم أتناول سوى رز صيني خالي من الملح ( لا أعرف لماذا يقدمون أرز صيني و خالي من الملح لمريض يمني مثلي ) . منعوني من التدخين بصرامة لكنني أقنعتهم ثاني يوم بفائدة الدخان المهرب واستطعت التدخين عند النافذة التي لا تبعد كثيرا عن السرير الطبي.
ابتداء من اليوم الثالث سمح ذلك الطبيب الذي لا يعرف معنى “رحمة” سمح بعد جهود مضنية بزيارتي من قبل الأقارب والزملاء والأصدقاء.
كانت نوبة سعال حادة و مسعورة عند النافذة قد جعلتني ألجأ إلى السرير .. غفوت قليلا ثم نهضت وذهبت إلى النافذة مجددا.
زارني كل الأصدقاء ، الاشتراكيون و الاصلاحيون والسلفيون والمؤتمريون ( الذين يحبون علي عبد الله صالح بدون سبب واضح ) أحد الأصدقاء الاشتراكيين دخل إلى الغرفة نصف مخمور ، اقترب من السرير وهو يترنح ممسكا بزجاجة خمر كبيرة عليها صورة ملكة إنجليزية ..ترنح وسقط مرتين وفي كل سقطة كان يرفع يده الممسكة بالزجاجة فلم تنكسر أبدا . كانت نوبة سعال جديدة قد عادت فكنت اسعل وأضحك وانا احاول ان انهض لمساعدة صديقي السكير.
في إحدى زيارات الأيام الأولى وكان من الواضح أن هناك فوضى بدأت تحدث ( فوضى من نوع غريب ) بسبب الزيارات . في احدى الزيارات المسائية فتح احدهم الباب بهدؤ.. وبدا كأن هناك شخص يقود شخص آخر أعمى ، من يده … سعلت مرتين وركزت نحو الباب ، كان صديقي مفصول ثابت يقود الفنان علي عنبة ( لا أعرف متى أصبح أعمى ) مفصول يتقدم علي عنبة بخطوات ممسكا له بيد بينما الفنان يمشي خلفه بحذر ورأسه مرفوع ماسكا عوده بيده الأخرى . جلسا يغنيان لوقت طويل ، وعلى واحدة من تموجات الفنان الصوتية التي لا تنتهي شعرت بالنعاس ثم نمت بسرعة.
لا أعرف ما حدث خارج المستشفى ولا داخله بحيث أصبح كل شئ تقريبا ممزوجا بالحلم .. بالخيال والسعال الذي لم يتوقف . الطبيب الذي لا يعرف معنى الرحمة لم يعد يدخل غرفتي منذ أيام ولا حتى الممرضات ، الرز الصيني أيضا استبدل بعصيد و مرق طبيعيتين ، اصدقائي الافتراضيين في الفيسبوك أصبحوا جالسين معي في الغرفة ، و يقال ان بعضهم أصبح مقيما في غرف مجاورة لغرفتي على الدوام، علي ثابت الذي يسمي نفسه مفصول ثابت كل مساء يقود علي عنبه إلى غرفتي .. يفترشا الارضية المبلطة ويغنيان طوال الليل ، صديقي احمد العروي جاء و معه رجال مسلحين من محافظة البيضاء ولا تمر ليلة دون سماع اصوات لطلقات من بنادقهم خلف الباب … يهرع هو بسرعة إلى الخارج ثم يعود و يطمأني ان كل شي على ما يرام رغم الطلقات .
صديقي إسماعيل الغزالي يدخل إلى الغرفة بعد صلاة المغرب مرتديا ثوب أبيض واسع.. وأحيانا يصلي في الغرفة ، وبعد الصلاة يقترب مني وهو يتمتم بدعاء بعد الصلاة ، يضع يده على جبهتي وهو يقرأ ما تيسر من آيات القرآن .
من الأشياء التي أصبحت مؤكدة أن كل الأطباء والممرضات والعاملين في المستشفى قد غادروا ، ومنهم الطبيب الذي أمر بإحالتي إلى قسم الرقود في الغرفة رقم 76 . ومن الأشياء الواردة ان الطبيب الذي لا يعرف معنى الرحمة قد أصيب بطلق ناري في صدره أثناء فض اشتباك حدث بالقرب من الغرفة رقم 76 . يقال انه يعيش الآن في قسم للرقود في إحدى المستشفيات المتواضعة.
احتل اصدقائي الافتراضيين والواقعيين غرف المعاينة وغرف العمليات وغرف التعقيم وغرف الرقود في المستشفى ، ويقال ان بعضهم استحدث جدران جديدة من أجل التوسعة.
لا جديد بخصوص حالة السعال .. غير ان النوبات اصبحت اطول قليلا وعادة ما تنتهي بإغماء مصحوب بعرق بارد يستمر لبعض الساعات احيانا . كان الأصدقاء يطلون برؤسهم من الباب نحوي ثم يدخلون .. يتبادلون النكت والمزح وكل انواع الملاطفات . كان البعض يسعل في الليل في احدى الدهاليز فتسمع صوت من تحت بطانية ” من ابن الكلب الذي يسعل هكذا…”
ماهر السليماني احتل طابقا كاملا وجلب معه ربع قبيلة من عنس ، ماجد السعيدي و بابتسامة لا تفارقة و سرواله الجنز الممزق يبحث عن علمانيين جدد لكي يفحصهم جيدا ، احمد مسعود ينتقل من طابق إلى طابق حاملا ربطة قات عنسي ، سفيان السالمي يجلس تحت جهاز بث الانترنت لكي يكتب للاصدقاء عن أهمية فن التعايش بين الأمم ، علي عطيف يتابع نتائج الدوري الكروي ويشعر بإرتياح ، خليل العكاد يحاول اقناع الأصدقاء بأهمية حقن الوريد بالعسل ، عز الدين يفكر بما هي الطريقة الأفضل للانتقام من مدرس التربية الإسلامية في الابتدائية ، عبداللطيف يحيى يراقب كل شئ بهدؤ ويعتقد ان جده محمد علي عثمان قد قام بدوره النضالي أمّا هو فعليه ان يرتاح فقط.
يزورني اشخاص من كل الأنواع ، وزراء ورؤساء حكومات سابقين لم يعد احد يتذكرهم ، اطباء بكل التخصصات العادية والنادرة . يعتقد الدكتور وليد ان السعال مرتبط بالسعادة والسعادة مرتبطة بالفشل بينما يعتقد الدكتور أشرف ان الثقة هي كل شئ وأن كثير من الأمراض التي تصيب فم الانسان سببها الرئيسي هو كثرة الكلام.
زارني الشاعر محي الدين جرمة و قرأ وهو جالس قريبا مني بعض مقاطع من قصيدته ” غيمة جرحت ماءها ” فهدأت نوبة السعال قليلا.
وجدي الأهدل ايضا زارني و سألني عن مغزى الثورة في القصة ؟ أخبرته أنني لا افهم بعض المصطلحات .. قلت وانا احاول التوقف عن السعال .. ” كانت قوارب جبلية تعاني من التوظيف والاسقاطات الحادة التي جرحت القارئ ..” ضحك ثم غادر بوداعة كبيرة.
الزائرون الجدد يزدادون كل يوم ، أصحاب الوطن كانوا يجلبون معهم تفاح اخضر ، الأجانب كانوا يجلبون معهم شوكولاته محشوة بكاكاو حقيقي ، الصحافيين العالميين كانوا حريصين على توثيق التجربة اليمنية الحديثة الخلاّقة ، كانت عناوين الصحف الأولى عالميا لا تخلو من عبارة ” الفوضى الخلاقة اصبحت واقع في اليمن ” ، رؤساء الدول العظمى حرصوا على الزيارة في بداية ولاياتهم الرئاسية.
لا شئ غير الفوضى الخلاقة الجميلة .. لم يعد يرى احد تصادم بين الدين و العلم ، تعليمات الدين وتطبيقات العلم تصب في مكان واحد هو ” الصواب “أو ” الأفضل”.
أسعد ساري القصة اليمنية اليمن 2017-04-12