هشام البستاني (الأردن ):
المُسلسل الذي لا تنتهي حلقاتُه؛ الفيلم القائم على الإفّيهات الساذجة؛ “التوك شو” وفيه يتحدّث مُقدّم البرنامج بلا توقّف لجمهورٍ مُتخيّل داخل الكاميرا أمامه؛ ضيف البرنامج الحواريّ إذ يُحلّل المغزى المُضمر لثنية كُمّ أحد السياسيين أو درجة ميلانِ عمامة آخر، بينما تهزّ المُضيفة رأسها بتجهّم يشي بجديّة الموقف.
باختصار: هذا زمنُ الثرثرة الفارغة.
والثرثرة الفارغة بيّاعة، لها سوقٌ وهي ابنته المخلصة. الوصفة سهلةٌ لا تحتاج دليل استخدام: ضع كلاماً فوق كلامٍ في ملعقةٍ وألقمه لمُتلقٍّ يريد أن يرتاحَ ويتسلّى بعد يوم عملٍ طويلٍ أجهد نفسه فيه ليُنتجَ بدورهِ ثرثرةً فارغةً بدورها: فالمتلقي عاد توّاً من كونه بائعاً في متجر الهواتف الخلوية، أو مُطوّراً محليّاً لبرمجيات شركة فيسبوك، أو مهندس صيانةٍ لأبراج البثّ. يريد هذا المتلقي أن يركن دماغه جوار باب المنزل، مُرخياً فكّه بلا كثير جهد، مُتحوّلاً إلى ما تصفه العبارة الإنجليزية بـ”كومة بطاطا جالسة في كنبة”، فتنطبع على وجهه الأضواء الملونة المُتغيّرة المُتتابعة. نَمْ نَمْ نَمْ نَمْ تقول الأمُّ فيتهلّلُ وجهُ الطفلِ ويتحلّبُ فمه باللّعاب، لكن القيمة الغذائية لمعجون السيريلاك أفضل بكثير: تبني الخلايا الدماغية بدلاً من أن تقتلها؛ والطفل كبر وصار مُتطلباً، وهو مُستعدٌّ للقتال حتى الموت إن طعن أحد بإمكانيّات فريق كرة القدم المسمّى على اسم مدينة برشلونة، رغم أنه لم يزُر تلك المدينة في حياته، ولا يعرف كلمة واحدة من لغتها (وهي ليست الإسبانية على أي حال).
لذا سيضع هذا المتلقّي -في حال قرّر أن يقرأ- الكتاب القصصي جانباً بعد أن يقطع الأسطر الثلاثة الأولى، وسيبحث عن رواية. فهو يقرأ غيرةً من أصدقائه، أو محاولةً لإغواء امرأة، أو بحثاً عن حياة اجتماعية مفقودة قد تتحقّق في مجموعة قراءة، أو لتزجية الوقت بدلاً من لعبة كوتشينة أعرضت عنها الشلّة،ولا يريد تعباً إضافياً على شكلِ اشتغالٍ على النص، بل يريدُ النصّ جاهزاً، مبسوطاً، مُنتهَكاً، منشوراً عرضه وطوله؛ نصٌّ سارت فوقه مدحلةٌ وفردته على أقصى اتساعه وبأقل سماكة ممكنة؛ نصٌّ يُلقيه في الميكروويف فيسخن على عجل ويزدرده في لقمة واحدة؛ نصٌّ مُريح لا مطبّات فيه ولا حفر، لا التفافات فيه ولا أجزاء مخفية؛ نصٌّ لا إشارات استدلالية فيه تؤشّر إلى “تحت”، بينما يقف هو –هكذا يظنّ- على أرض صلبة لا “تحت” تحتها.
في القصة “تحت” كثير: مستويات متعددة، زوايا رؤية مختلفة متغيرة، وأعماق ينبغي سبر أغوارها. في القصة يمرّ الطريق من النقطة “أ” إلى النقطة “ب” من كل الطرق الممكنة معاً، هي “مجموع التواريخ” التي تختلف مُحصّلتها عند كل قراءة، فليس ثمة طريق أُحادي المسرب يقودك في اتجاه واحد إلى هدف محدد لا ثاني له؛ ليس ثمة اطمئنان؛ ليس ثمة يقين. في القصّة يتكثّف الزمن ويتفجّر، ويسير الخط الحكائي بلولبية دون أن يحترم المَحاور السينيّة والصاديّة والعينيّة.
القصّة هي إعادة إنتاج لعلاقة النص مع القارئ وتحويلها من “التلقّي” إلى “الشراكة”، بالضّبط كدور المُشاهد في الحدث الفيزيائي الكُمومي: هنا المُشاهد فاعلٌ في الحدث، بل قادرٌ على تغيير ماضيه (ماضي الحدث) بملاحظةٍ مُستقبليّة.
لكنّ كومة البطاطا الجالسة في الكنبة حسبُها أن تَنْجَرّ. أن تتسلّى. أن تتململ حين تعلن الجوقة الإغريقية النهاية المأساوية قبل أن تبدأ المسرحية: فالفنّ يكمن في التعبير الفذّ عن الطريق، ويسقط إن اختطفه التشويق الذي يُشوّش تأمُّل الصيرورات وتحوّلاتها. أن تقرأ القصّة هو أن تقرأ الآن، أن تتأمّل الأزمة، أن تعلق في المصيدة، لا أن تلهث خلف ما سيصير لاحقاً، هارباً من عالم اليوم إلى حيوات شخصيات متخيّلة، هارباً من نفسك. القصّة تعيدك إلى نقطة التوتّر، وتجبرك على التفكّر فيها، لهذا يهربُ المتلقّي منها كهربه من الإعصار، ونسمع هجاءها: ليست بيّاعة.
لا يُروّج السوق “بضاعة” للتفكير والتأمل وتوليد الأزمات، بل هو يريد تصفيتها. فالمستهلك المثالي هو صديقنا ذاك الذي تركناه في الكنبة، كومة بطاطا عليها أن تتلقّى فقط، وتحلم بعالم آخر.
ما معنى أن تكون قاصّاً اليوم؟ أن تكون قاصّاً اليوم يعني أن تقفز في الأزمة، تلك مادة القصّ الأولى وطينتها البدائية، وحالما يبدأ ذلك الصراع الداخلي، تعرف تماماً أن أحداً لن يُشاركك ولادة الجمل المتتالية، لكنها بعد أن تخرج إلى الوجود، ستفقد السيطرة عليها، وستختطّ عالماً خاصاً بها، عالماً مُحرّضاً على التفكير، مُحرّضاً على استيلاد الجمال والفن، وسيبتسم القاص لكومة البطاطا، معلناً -بلا كثير أسف- أنّه سيتخلّى لها عن النجومية كلّها، والجوائز، والانتشار، فالقلم في جيبه مُتطلّب، وعقله يحكُّه كجربٍ لا شفاء منه.