محمد يوب (باحث و ناقد أدبي من المغرب):
القصة القصيرة شكل من أشكال التعبير الحديثة؛ فرضتها ظروف سوسيوثقافية محددة؛ حيث الحاجة كانت ملحة لكتابة سردية جديدة تواكب العصر ومستجداته؛ لا تبدأ القصة القصيرة بفلان ولا تنتهي بعلان؛ وهي ليست مرآة تعكس الواقع وإنما هي وسيلة لإزالة الضباب عن الواقع؛ تستطيع احتواءَ همومه بالرغم من صغر حجمها، تتتبع تفاصيله المتشابكة ونفسيات شخصياته المختلفة والمضطربة، وتنقلها من واقع الواقع إلى الواقع المتخيل الذي يستقي منه القاص مادته القصصية؛ بأن يضيف إليها ما سماه رومان جاكبسون بأدبية العمل الأدبي.
من خاصيات القصة القصيرة أنها شكل تعبيري نقيٌّ؛ تتقوى بفعل تقاطعاتها مع أشكال تعبيرية مجاورة أو محاورة؛ وتموت عندما تتراجع باحثة عن جذورها وشجرة أنسابها؛لأنها تستمدّ أصالتها من كينونتها الذاتية التي كفلت لها التّميز داخل غابة السرد.
لم تخرج كما يقولون من معطف الرواية؛ ولم تكن بنتا عاقة لها؛ إنها تشبه نبتة الجذمور؛ وهي النبتة المائية التي تنمو في جميع الاتجاهات؛ بلا جذور ولا سيقان؛ تحطم الوحدة الخطية للسرد، وتكسر نظرية الإحالة على الوحدة الدورية للعَود الأبدي للكتابة السردية.
إنها لا تبدأ ولا تنتهي؛ وتعمل على خلخلة فعل الكينونة واجتثاثه؛ فهي موجودة دائماً في الوسط؛ بين الأشياء؛ لأنها كائن بيني؛ ترابطي وتعاطفي؛ يتحقق بين عنصرين متنافرين بتركيبة مفتوحة على كل التوليفات بطريقة أفقية؛ أي أنها تتحقق على مستوى البساط وليس على مستوى الجذور؛ إنها تتحالف؛ وتعتمد طريقة أخرى في السفر والتحرك؛ إذ إنها تنطلق من الوسط؛ ومن خلال الوسط تدخل وتخرج بشكل متفلت كالحرباء عندما تغير جلدها؛ وجلد القصة القصيرة بناؤها الفني وقدرة القاص على التخيل وابتكار عوالم فنية جميلة تتفاعل معها وتتأثر بها ذات القارئ.
إنها تتخلص من العضوية ومن الأصول الثابتة؛ ولا تتقبل الانتساب إلى أي نوع من أنواع السرد؛ لأنها تدور حول نفسها وتتفرع بكثرة؛ جانبياً ودائرياً؛ وتتوفر على مداخل متعددة؛ كما تتوفر على خط الهروب كممر للتنقل وتغيير المحطات؛ وتخضع للقانون التعددي الذي ينميها ويبعثها على التطور والتجديد.
بمعنى أنها تنمو من تلقاء نفسها وتتغذى من تجارب ونماذج إبداعية متنوعة، تأخذ منها ما يزيدها عمقا وقدرة على استيعاب خصائص هذه النماذج الإبداعية. تتغذى من خواص الشعر؛ لغتَه الشعرية؛ ومن المسرح أسلوبَه الحواري؛ وتستفيد من الفكر الفلسفي أثناء بحثها عن البعد الرؤيوي؛ ومن التجريب عندما تستفيد من الفنون التشكيلية ومن التداعيات النفسية القادمة من علم النفس… وتلتقي مع فن الرسم عندما يلجأ القاص إلى رسم ملامح شخصياته؛ فتشعر وأنت تقرأ عملا قصصيا؛ وكأن القاص يحيل القارئ على البعد البصري للتصوير القصصي؛ وتلتقي مع فن التمثيل والتشخيص؛ حين يقوم القاص بعملية نقل الشخصيات من الشخصيات الورقية إلى الشخصيات الحية الممثلة التي تؤدي أدوارها في فضاء العمل القصصي، فيصبح التمثيل نوعا من أنواع الصورة القصصية أو أحد وسائلها، وذلك بوصف الشخصيات والدخول في نفسيتها من خلال زاوية الرؤية.
ومن مميزات القصة القصيرة أنها دائمة التجريب؛ والتجريب رؤية فنية ذاتية وصيرورة فكرية شخصية؛ يصوغها القاص في مختبره أو مشغَلِهِ القصصي القصير، الذي يخضع باستمرار للتبديل والإزاحة والتحوير وتقليب القوالب الجاهزة.
فالتجريب ابتكار طرائق وأساليب جديدة لأنماط التعبير الفني المختلفة؛ فهو ممارسة فنية مؤطرة بأفق إبستيمولوجي غايته نقض التّكرار المُمِل. وخرق المتداولِ والمألوف في الكتابة القصصية القصيرة؛ يكسر نظرة الانبهار بالقديم؛ بابتكار سلسلة من التراكيب اللغوية؛ و جملة من فنون الخداع؛ والهياكل البنائية غير الدائمة؛ إنها باختصار رغبة قوية تشترك فيها ثلاث أياد، يدُ القاص ويد النصِّ ويد القارئِ الذي يُفعل عَملية التجريب ويترجم أبعادها ودلالاتها.