د. أحمد زنيبر( ناقد وباحث أكاديمي من المغرب ):
“والحق أن القصة القصيرة لم يحدث أن كان لها بطل قط، وإنما لها بدلا من ذلك “مجموعة من الناس المغمورين”، وأنا أستعمل هذا التعبير غير الجيد لأنني لا أجد أجود منه. هذه “الجماعة المغمورة” تغير شخصيتها من كاتب إلى كاتب، ومن جيل إلى جيل… وهي دائما تبحث عن مخرج.”
(الصوت المنفرد. فرانك أوكونور)
تعرف القصة القصيرة، بوصفها فنا مراوغا يعنى بالسرد الوجيز، حضورا لافتا في مشهدنا الثقافي العربي، مشرقا ومغربا. وتبعا لذلك، لا غرابة أن تحظى، هذه الأخيرة، يوما عن يوم، باهتمام واسع من قبل الباحثين والنقاد، على حد سواء. فمع كل إصدار قصصي حديث تطالعنا، هنا وهناك، بعض التجارب التي نجح أصحابها في ابتكار أنماط مستحدثة في الكتابة، وفي اختراق آفاق بعيدة تتصل بالتخييل واللغة والمنظورات والقوالب المعمارية والتقنيات والأسلوب. وهي تجارب استندت إلى خلفيات ثقافية ومعرفية وحضارية، استدعت منا قراءة تأملية ومصاحبة متأنية.
ولعل أسئلة من قبيل: ماذا تقول القصة القصيرة العربية؟ وكيف تقال إبداعيا؟ وماذا عن حداثة الكتابة داخلها، بنية ودلالة؟ وبالتالي، هل يمكن الحديث عن مقومات جديدة، من خلال ما يقترحه كتابها وكاتباتها من موضوعات وإبدالات؟ أسئلة كثيرة، اقترنت بمدونة قصصية غنية، بالنظر إلى التجارب التي تم الإنصات إليها في هذا الملف، الذي يعنى بالقصة العربية الجديدة.
ولأن القصة القصيرة تنتمي إلى غابة السرد الكبرى، بتعبير أمبرطو إيكو، فقد أفردت لنفسها حيزا غير مرئي، داخل هذه الغابة، كناية على طبيعتها المجهرية وبنيتها التكوينية الدقيقة. الأمر الذي يستدعي متجولا / قارئا ذا عينين نافذتين وناقدتين في آن، يحسن التغوّل والتوغّل داخل المكان بحدسه وبصيرته، دونما الحاجة إلى خريطة أو دليل.
وفق هذا التصور تنفتح القصة القصيرة العربية الحديثة على عوالم إبداعية فسيحة تحفل بالأسرار والألغاز. فكل قاص يجتهد، ما وسعه التعبير، في بلورة رؤية قصصية تنسجم واختياراته الموضوعاتية والجمالية، سواء حين استحضاره للمواقف والأحداث أو حين استدعائه للأفضية والشخصيات. وفي مقابل ذلك، يجتهد القارئ/ الناقد، هو الآخر، في تأويل هذه العوالم القصصية المقترحة وتفسيرها، بما توافر لديه من آليات القراءة التي تتجاوز الظاهر والمرئي.
وتماشيا مع هذه الفرادة السردية، التي أصبحت تتمتع بها القصَة العربية الحديثة، فإن كل توصيف انطباعي، أو قراءة سطحية أو مباشرة لها، لا تستطيع سبر أغوار نماذجها التي تعزف بعيدا عن التقليد والتكرار، من جهة، كما لا تستطيع تمييز إبداعية القاص/ المبدع في طرق موضوعه وفرادة أسلوبه، من جهة ثانية. ولنا أن نتأمل مدونة القصة القصيرة الحديثة، في المناطق العربية المختلفة، لنتبين مظاهر التجديد والتجريب فيها، وهي متعددة ومتنوعة. وفي ذات السياق، لا يمكن إغفال الحديث عن حضور الصوت النسائي، باعتباره صوتا داعما وفاعلا في المشهد القصصي، كما لا يمكن إهمال حضور “القصة القصيرة جدا” باعتبارها شكلا فنيا جديدا/ قديما، له خصوصيته وذائقته الفنية.
تبعا لهذا الإنزال القصصي، تصبح الدعوة ملحة لاستدعاء رؤية نقدية تعتبر السفر في عوالم القصة القصيرة توغلا في غابتها اللامرئية الحبلى بالنفائس والدرر.
إن راهن القصة العربية هو ثمرة تحولات فنية مركبة في الرؤية والدلالة والجغرافيا، بما تنطوي عليه من حمولات سوسيو-ثقافية تختلف أنساقها ورؤاها الفنية، يجعلها تنتمي لغابة السرد الكبرى، المتجول فيها كأنه يستقرئ تجارب مختلفة، كل منها يستقر في ضفته، غير أن المجرى القصصي يوحد بينها. فاللغة والمتخيل والقضايا المطروقة والوجع العربي والإنساني ظل واحدا لدى كتابها.
لعل الإضاءات التي يمكن استخلاصها من سائر النماذج القصصية الجديدة، عبر سائر الأحداث ومختلف حالات ومواقف الشخصيات من الفئات المهمشة والمغمورة في المجتمع أساسا، لتقدم الدليل على أن هذا القاص(ة) أو ذاك كان حريصا على عدم الالتفات إلى الغابة التي يتنزه فيها جميع الناس. فكاتب (ة) القصة القصيرة حين يركز على الأقليات الأدبية أو على “الفئات المغمورة” من المجتمع، من ناس بسطاء وموظفين ومتسولين وسكارى وعمال وشخوص وحدانية ومن كان على طبقتهم الاجتماعية وشاكلتهم الوجودية، فلكي يبحث مع هذه الفئة عن حلول لمشاكلها اللامتناهية.