محمد سعود – المغرب
ولد الفنان التونسي الذائع الصيت نجا المهداوي بتونس العاصمة سنة 1937 وتابع دراسته الفنية في أكاديمية الفنون في روما ثم باريس لدراسة الآثار الشرقية باللوفر، لقيت أعماله الفنية شهرة واسعة في الدول الغربية وأيضا في لدول العربية استطاع بنبوغه الفني أن يستقطب أنظار كبيات شركات الطيران العربية لتزيين طائراتها في ومطاراتها، وعرضت أعماله في متاحف عالمية كمتحف الأرميتاج، والمتحف البريطاني في لندن ولودفيغ فى ألمانيا وجناح الفن الإفريقي، كما عرضت أعماله في كندا واليابان وفرنسا وهولندا وعدة دول عربية، حصل على عدة تتويجات تقديرا لقيمته الفنية.
كتب الكثيرون عن الفنان نجا المهداوي وكانت جل هذه الكتابات تنصب على مساره الفني دون أن تركز بقوة على سر نبوغه، واختلطت التصنيفات والتسميات من كونه خطاطا وحروفيا وغير ذلك، ولم تلامس هده الكتابات بجد أعماله الفنية.
Tunisie, Juillet-Aot 2009. Photo © Ammar Abd Rabbo
إن كل التسميات التي حاول البعض لصقها تعسفيا بشخصية الفنان لا تعبر بوضوح عن شخصية نجا المهداو ، فإذا تأملت أعماله لن تجده خطاطا ولا حروفيا. ويختلف عن بقية الفنانين الذين حاولوا توظيف البعد الواحد أي الخط العربي في أعمالهم، وإذا حاولت أن تقرأ ما تكتنزه أعماله من قيم فنية وتعبيرية، والتي يقول عنها الكثيرون أنها حروف عربية لن تقرا شيئا منها ـ صحيح أنه بأول نظرة سترى أنها حروف عربية تتشكل في ذهنك بطريقة عجيبة وتتلقفها وكأنها كتابات عربية ولكن بإعمال البصر فلن ترى أية كتابات، هي لعبة فنية برع فيها الفنان نجا المهداوي لعبة الخفاء والتجلي. واستلهم فيها فقط حركية وانسايبية الحرف العربي.
لا شك أن هذه اللعبة البصرية البديعة تستمد جذورها من التصوف، كما كنا نجد أيضا عند الفنان العراقي شاكر حسن آل سعيد الذي شكل قولة الحلاج ”أنا بالحق ما زلت بالحق حقا” بحذف الحروف وترك النقط دالة عليها. ولكن نجا المهداوي يختلف كل الاختلاف عن الحروفيين العرب، فأعماله لا يوظف فيها الخط العربي ببعده اللغوي كما هو الحال عند ضياء العزاوي قي اشتغاله على قصائد الشعر العربي، ولا كما عند شاكر حسن أل سعيد في استغلاله للكثير من الجمل للمتصوفة.
إن الخطوط التي نراها في أعمال نجا المهداوي مجردة تماما عن معناها اللغوي واللفظي والصوري، هي خطوط ذات بعد جمالي بصري يمنحها استقلالية ويشحنها بقوة بصرية خلاقة قادرة على لفت انتباه المتلقي، ويمكن أن نقول إن تشكيلاته هي أثر وعلامات لحروف خرجت من شرقنتها بانسيابية لتخلق لنفسها شكلا جديدا فلا هي حروف عربية ولا مخطوطات ولا عبارات لفظية إنها تشكيلات بصرية زاوج فيها الفنان بحرفية عالية وبالكثير من الخيال بين الأصالة والمعاصرة، فنان لم يتنكر لجذوره ولا لمعاصريه ، وبين هذا وذاك تكونت شخصيته.
إن تجربة الفنان التونسي نجا المهداوي فيها الكثير من التميز والتفرد، وفهم هده التجربة يحتاج إلى الكثير من التمعن لأعماله وبرؤية المتمكن بخبايا التشكيل البصري لسبر أغوارها، فهو لم يكتف من توظيف الحرف برؤية معاصره وتجريده من خصائصه اللفظية بل حول أيضا السند في الكثير من أعماله إلى مكون أساس من مكونات العمل الفني ، وبهذا الخرق والانزياح الفني استطاع ان يكسر علاقة اللوحة بالجدار ،، فالملاحظ أن كل شيء يتحرر في تجربة نجا المهداوي الفنية فالحرف العربي ينعتق من شكله ومضمونه، والسند يتخذ أشكالا متعددة.
وبهذا الانزياح الفني والانسيابية الفنية استطاعت أعماله أن تجد لها مكانا في ما له علاقة بالانسيابية كالطائرات والمطارات ،و باختصار شديد هو خلق للحرف أجنحة حررته من كل القيود، وبرهن الفنان التونسي نجا المهداوي على قدرته الكبيرة في تطويع الحرف العربي ومنحه أبعادا دلالية وجمالية جديدة في معزل عن الجهود الكبيرة التي بذلت في تطويعه مند عدة قرون دون التجرؤ على تجريده من مدلوله اللفظي.
وهذه الوثبة الخيالية والطاقة الإبداعية الخلاقة اللتين يتمتع بهما الفنان التشكيلي نجا المهداوي منحتا تونس فنانا كبيرا استطاع بوعي أن يخلق لنفسه أسلوبا لا شك انه سيلهم الكثير من الأجيال في طريقة التعامل مع الأعمال الفنية ، وهذا الإلهام الفني يمكن أن نلاحظه في بعض أعمال النحات التونسي عبد الله ابو العباس الذي يستلهم الخط القيرواني في منحوتاته بمفردات وجمل مجردة من معناها ،وبهده النوع من التجارب يمكن للفن أن يسمو، لأن الفن ليس ارتجالا كما بفهمه بعض الشباب ولا صدمة سلبية يتقزز منها المتلقي بل هو رؤية فكرية ,ووثبة خيالية تحقق إمتاعا بصريا ينتج عن تجارب راكمها الفنان بعد جهود مضنية من البحث الجمالي.
عن مجلة مجلة صدانا
