لطيفة باقا (المغرب ):
الزقاق موحش و بارد.. أجرّ خلفي عربة الخضر الفارغة فتصطدم عيني بمشهد القطة الهزيلة متكوّمة على نفسها في شقّ الجدار المطلّ على مقهى الحيّ..
تتقدّم أمامي السيدة “فيونا” جارتي القادمة من إحدى تلك المدن البعيدة و الباردة أراها تتحرك داخل ثوبها البرتقالي المتصلّب..أراقب مشيتها الخفيفة و أتذكر أنّ زوجي لا يحبّها:
“هذه المرأة العجوز أفسدت حياة زوجها.. السكير الطيب, وحياة ابنتها التعيسة، وأيضا حياة حفيداتها الهادئات أكثر من اللازم…لأنّها من برج العقرب..”
تلتفت إليّ و تهزّ لي رأسها الأحمر المصبوغ بالحنّاء..أحيّيها و أحيّي زوجها الذي كان يتقدّمها بخطوات قليلة.. أفكّر أنّهما بصدد الجولة الصباحية الأولى لهذا اليوم: يستيقظان في الثالثة صباحا، يتناولان فنجان القهوة الأوّل وبعده تتوالى الفناجين ثمّ تبدأ الجولات..أنظر إلى ساقي زوجها المشعثين الخارجين من سرواله القصير و الداخلين في حذائه الرياضي الأبيض..ثمّ أراه ينتظر وصولها مبتسما.. ليلفّ كتفها بذراعه، بفعل العادة، ويمضيان صامتين..
أبتسم رغما عني، لأوّل مرّة في هذا اليوم الجديد من حياتي القديمة، وأنا أتذكر جوابه عندما سألته ذات مساء عن موعد نومهما:”المسألة تتوقف على البرنامج الجنسيّ عموما” أجابني بجدّية تليق بالموضوع..
ماذا سأعد لطعام الغذاء؟
أرجو ألاّ تصطدم عيناي بوجه أعرفه.. أستطيع أن أتخيّل رأسي الآن : عيناي منتفختان،أنفي أحمر و شفتاي مشدودتان إلى أسناني..ما يكفي حتى لا تنفلت مني أيّة كلمة..
ريح باردة مفاجئة تمسح وجهي في نفس الأثناء كانت قد بدأت تصلني تلك النغمة الأليفة من مذياع مقهى الحيّ..أغنية شعبية قديمة و حزينة..
لله يا العطار اعطيني دوايا
كالو لي دوايا عندك نصيبو..
عطار كيداوي فراق حبيبو
..زبيدة عمتي
..زبيدة عمّتي.. كانت تشدوها..كانت تشدو هذه الأغنية في المناسبات العائلية..أحسّ مرّة واحدة بشحنة من المشاعر المبهجة تتدافع داخل جسدي..
آه يا زبيدة..” فينك الآن..و فين أيامك؟
“أتذكّر وجهها الصغير المشرق وعينيها الشبقيتين..أفكر أنّها كانت في نهاية الأمر مومسا طيبة من مومسات مغرب السبعينات الأصيلات اللواتي لا يشبهن في شيء مومسات هذا الزمن..كانت مهنتها هذه تجرّ عليها الكثير من المشاكل مع الكبار في العائلة ليتمّ نبذها في النهاية..و مع ذلك كنت في طفولتي أنجح دائما في زيارتها أنا و حليم أخي الأصغر خفية عن أبي و أمي..لنأكل عندها أطباق الحلزون اللذيذة.. التي كانت تعدها لأجلنا.. بالزعتر وقشور البرتقال.. فنجلس حول ذلك الطبق الطيني الكبير و البخار يتصاعد منه, مدججين بدبابيسنا..
“حلزون عمتي زبيدة كان بالفعل ألذّ حلزون سوف أتناوله خلال حياتي” لا زال حليم يردّد إلى اليوم..
تتعقبني الأغنية القادمة من المقهى..القادمة من حياة بعيدة جدا عشتها..أكاد أشكّ في هذه الحقيقة من فرط التباين الحاصل بين حياتي الحالية في هذه المدينة و بين تلك الحياة الأخرى في تلك المدينة البعيدة..تلك الحياة الأخرى الساكنة رغما عنّي داخل جسدي..
لله يا العطار
اعطيني دوايا
كانت زبيدة تستجدي عطارا مجهولا بصوتها الحزين و الجميل..بلوعة خاصّة بها..أتذكر ذلك جيدا..
… وكنت أظلّ قابعة في غرفة التلفزيون في منزلها..دائما رفقة بعض النساء اللواتي لا أعرفهن وبجانبي كان يقرفص حليم الذي كنت أتوقّع له مستقبلا واعدا في التطرف اليساري.. كنّا صغيرين و مراهقين.. وكان عالم الكبار التقليديين لا يعجبنا.. لأنّه لم يكن يشبه في شيء العوالم الرائعة التي كنّا نجدها في الكتب الكثيرة التي كنّا نبتلعها.. أوفي الأفلام المبهرة التي كنا نشاهدها في سينما صباح الأحد بالنادي السينمائي..عمتي كانت الأقرب من كل كبار العائلة إلى تلك العوالم حتى وإن كانت منبوذة من طرفهم..ربما لهذا السبب بالتحديد كنا نواظب على زياراتها خفية..
أنظر إلى جلبابي النظيف وأتذكر “الجينزات” المتّسخة التي كنا نرفض نزعها يوم الغسيل، حليم وأنا.. حتى تنسجم أكثر مع رؤِيتنا وتصورنا للعالم..
الريح الباردة لا تزال تداعب وجهي.. وتنشط ذاكرتي..
كلّ تلك الأفكار المهربة كانت تمنحنا، ونحن نشاهد التلفاز في بيت عمتي, ما يكفي من مشاعر التسامح حيال ما يحدث في الغرفة الأخرى.. حيث توجد زبيدة صحبة أحد زبنائها الغامضين..
أفكر الآن أنني لم أر أبدا أيّ واحد منهم….مع أنني كنت أجلس دائما هناك في غرفة التلفزيون.
كانوا كثيرين، لم أستطع أن أعدهم..كنت فقط أسمع طرقات على باب المنزل ثمّ أسمعه يفتح ثمّ يقفل..
فهمهمات تكاد لا تسمع.. ثمّ صمت.. ثمّ صوت أقدام على السلم فيفتح الباب ويغلق..و هكذا.
مجرد أشباح لا يراها أحد.. لم يكن لوجودها أن يوقف أحاديثنا أو تتبعنا للمسلسل العربي.. الحياة كانت تمضي عادية و مملّة والحرارة كانت غير محتملة في أصياف تلك الحياة..رغم الحركة الدؤوبة القائمة.. بالغرفة المجاورة.
كنت أرى عمتي تتحرك بنشاط غريب داخل المنزل.. تأخذ دشا باردا، تغير ثوبها، تعد شايا أو قهوة، تبدأ حديثا..تمضي ذهابا وإيابا أمام الغرفة و تبتسم لنا كلّما التقت عيوننا بعينيها الحزينتين..فجأة نسمع طرقا على الباب.. تبتسم لنا معتذرة عن شيء لم نكن نفهمه آنذاك..ثم تغيب لفترة قد تطول وقد تقصر..
الجوّ كان حارا.. و المدينة كانت مقفرة و شوارعها مصابة بالقرف.. لم يكن لدينا مكان ألطف من منزل عمتي نلتجىء إليه..كنا نشعر بالغضب لأنّ لا أحد نجح حتى ذلك الحين في قلب النظام وتعويضه بنظام اشتراكي تروتسكي كما يحدث في أفلام سينما الأحد جميعهم انتهوا في زنازين بعيدة و مجهولة, كنا نحلم بالثورة وبالحبّ الملتزم.. وبالحرية.. كنا بحدسنا الطفولي نفهم أن أحلامنا ممنوعة لهذا كنا نهربها إلى بيت عمتي التي كنا نشعر بحدسنا الطفولي دائما أنه كان بيتا متسامحا معنا كما كنّا متسامحين معه أيضا..
عندما كان يأتي الليل إلى بيتنا وتأمرنا أمّي بالتوقف عن القراءة حتى لا نؤذي عيوننا وأدمغتنا و تطلب منا الذهاب إلى غرفتينا. كان حليم يطلب مني المكوث معه بعض الوقت و التحدث عن العالم الجميل الذي كنا سنِؤسس له مع حلول الثورة.. كنت أحكي له حكايات من خيالي أنسبها في النهاية إلى اسم كاتب كبير ينتهي اسمه ب”سكي” أو ب”كوف”..عندما أفرغ من الحكي وأستعد للنهوض إلى غرفتي كان يداهمني بالسؤال:
-هل الله موجود أم لا؟
أمّي كانت تقول إنّ زبيدة عمتنا لم تطلق من زوجها سلام (زوجها الأوّل الذي زوّجت له في سن الثالثة عشر و الذي قفزت من نافذة منزله هاربة بعد شهر من الزواج)..تقول أمّي إنّه لم يطلقها لأنّه لم يعثر عليها ليفعل.. أو لأنّه لم يبحث عنها أصلا
كنت أحب سماع هذه الحكاية..
عدم طلاقها لم يمنعها طبعا من الزواج “عليه” بالكثير من الرجال. كانت لأحدهم دمالة كبيرة جدا في فخده و كانت تداوم على تنظيفها بالكحول والضمادات إلى أن قرفت منها ذات صباح فطردته من منزلها..
أستطيع أن أتذكر أزواجا آخرين، لكنّهم كانوا أيضا مجرد أشباح تدخل المنزل، تلتهم الأطباق الشهية التي تعدّها عمتي بكثير من المهارة.. تنام..تشخر..ثمّ في صباح ما تدفع خارج الغرفة.. ثمّ خارج المنزل.. لتستأنف الغرفة نشاطها المعتاد ثانية..
كان المنزل من طابقين.. الطابق السفلي يكتريه تجار أسبوعيون يبيتون فيه كلّ ليلة خميس, يحملون سلعهم ويغادرون في اتّجاه أسواق أخرى.. الطابق الأول كان يتكوّن من غرفتين، كنّا نقبع حليم وأنا، رفقة بعض أطفال العائلة الذين كانوا يحبّون العمّة مثلنا، في غرفة التلفزيون.. هاربين من حرارة الصيف.. كان يحضر معنا غالبا بعض الضيفات الغامضات اللواتي سوف أفهم فيما بعد أن العجوزات منهن مومسات متقاعدات، في حين كانت الصغيرات فتيات حديثات العهد بالدعارة.. كانت زبيدة تحتضنهن في بداية مشوارهن المهنيّ في انتظار أن يصلب عودهن ويحققن بالتالي استقلالهن المادي والمعنوي و يخرجن إلى الحياة معوّلات على سواعدهنّ.. أقصد على أجسادهنّ بأكملها وليس السواعد فقط..
أتذكر أنّهن كنّ جميعهن بيضاوات بشعور منسدلة على أكتافهنّ.. أثوابهنّ كانت مطرزة وتكشف عن بياض سيقانهنّ و صدورهنّ.. أتذكر أن شفاههن و أظافرهن كانت حمراء..دائما. كنّا نحن الأطفال نتحدّث كثيرا و نلعب الورق.. في الوقت الذي كانت فيه الضيفات الغامضات يمكثنّ صامتات منتظرات شيئا ما لم يكن بوسعنا إدراكه..
و كانت هناك الغرفة الأخرى..
لم أدخلها أبدا.. كنت أمرّ من أمامها فلا ألتفت. كنت أعلم أنّها هي و لا شيء غيرها تقف وراء مقاطعة الكبار في العائلة لعمتي و كنت أستطيع أن أحس أيضا إلى أي حد كان ذلك مؤلما بالنسبة لها..
بسبب تلك الغرفة،إذن، كان ممنوعا علينا زيارتها و مع ذلك كنّا نحبها و نفضلها على كل الخالات و العمات القاسيات اللواتي لم يكنّ يتوفرنّ على غرف غامضة ولا على أطباق لذيذة من الحلزون..
أقول إنني لم أدخلها أبدا و مع ذلك أتذكر بالأحرى أنّها فتحتها ذات مساء في وجهي مباشرة و بدون سابق إنذار..كانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة..
فتحت الدولاب وأخرجت قنينة عطر من الحجم الكبير من النوع الذي يسوّق بطريقة الكونتر بوند.. وأخذت ترش ثيابي و شعري.. أعادت القنينة إلى الدولاب و أقفلته ثم علّقت المفتاح في خصرها..استرقت النظر إلى الداخل ورأيت السرير..
كنت أشعر أنني ما دمت لم أدخل تلك الغرفة فوالدي لم يكن لهما سبب مقنع في منعي من زيارتها. كأنّ عمتي كانت تتوفّر في تقديري على بعدين اثنين..و كنت أنا أتعامل فقط مع البعد المتعلق بالحلزون.. بحكايات أزواجها الغامضين المسلية.. بحكاية سلام زوجها الأوّل.. بالمستملحات المرتبطة ببعض صديقاتها المومسات المعتوهات الطيبات: “بنت العسكري” التي اشترت لابنها الحشاش قردا بسلسلة من ذهب ليِؤنسه في وحدته إلى حين عودتها من “السربيس”..” بنت ماضي” السيدة العجوز بجسد طفلة ذات الشعر القصير المصبوغ بالأصفر، و التي كنّا نتربّص مرورها بساحة النافورة متأبطة كل مساء قنينة نبيذها الأحمر اليومية، ملفوفة داخل جريدة، قاطعة الطريق من “البيسري” إلى بيتها مشيا على الأقدام. كانت بنت ماضي توزع تحياتها الحارة على كل معارفها الذين تصادفهم في طريقها..وإذا اقتضى الأمر كانت تدسّ قنينتها تحت إبطها لتنهال على أصدقائها بالقبل..وقد تتوقف لتبدأ حديثا ما..أمام النافورة..
هِؤلاء النسوة الظريفات كنّ كلّ عائلتها..بالإضافة إلينا نحن أطفال العائلة..طبعا..
الأغنية لم تعد تستطيع اللحاق بي.. ابتعدت كثيرا فيما يبدو..جسدي المصاب بالحزن وبالحنين المؤلم.. يدبّ الآن فوق أرض أخرى..
الرّيح الباردة هذا الصباح حنونة تماما..
أغمض عيني و أتحسّس وجنتي و عنقي..
“ الخضرة جديدة.. آش حب الخاطر؟”.. بائع الخضر الذي يبدو أنّني لم أنتبه إلى وقوفي أمام دكانه، يوقظني بسؤاله المعتاد..
أش حب الخاطر؟
لا يمكنه طبعا، إدراك ما يحبّه الخاطر في هذه اللحظة..
هل عندك حلزون بالزعتر و قشور البرتقال؟