مريم عادل
يُعرف «إدوارد هوبر 1882 – 1967» أنه ذلك الفنان الذي استطاع أن يلتقط عبر الرسم لحظات الاغتراب والتيه والعزلة التي تواجه حياة الإنسان في المدن الحديثة. حتى الآن يظل تعريف هذا الاغتراب غامضًا وغير واضح، لكنّ الرسم في أمريكا في فترة ما قبل «إدوارد هوبر» يستطيع أن يخبرنا الكثيرعن ما الذي لا يعنيه الاغتراب.
في لوحة «إدوارد موران» «صباح باكرعلى شاطئ جزيرة ستاتن» كان الإنسان يَصّور على أنه مُهيمن على الطبيعة، السماء الممتدة بلا نهاية في اللوحة، تنقل شعورًا بالحرية غير المحدودة، اللوحة مغمورة بالدفء والسَّلام، لا توجد خطوط مستقيمة حادة أو ظلال قاسية؛ يقف الإنسان معتليًا الدابة وحوله الحيوانات؛ في إشارة الى سموه، إلى الأصل الروحاني فيه، يقفُ واثقًا متناغمًا مع بيئته مطمئنًا إلى عالمه، ومنخرطًا في عملٍ له.. معنى أبعد من مجرد كسب العيش.
في لوحة «دورية الإنقاذ» يصور موران القمر ساطعًا ومنيرًا يتسلَّلُ ضوؤه برقَّة من بين السحب لينير السماء، البحر هادئ والإنسان يمشي ببطء ويتأمله، لا شيء يدعوه للإسراع، فالوقت ممتد أمامه دائمًا، يحمل الإنسان في اللوحة مصباحًا مضيئًا ينير له الطريق مع ضوء القمر، فيصلنا شعوره الواثق باليقين في قدراته وفي معرفته وتجربته، فلا يبدو أنه يحمل الكثير من الشكوك والقلق.
في لوحة «صامويل كار» «الشاطئ في جزيرة كوني» الأم تقف وكأنها فخورة بأمومتها وحولها الأطفال على الشاطئ، يمتد اهتمامها بهم لشعور فائق بالقدرة على الحماية والسيطرة، (لا يوجد أطفال نهائيًا في لوحات إدوارد هوبر). وفي لوحة «إيستمان جوهانسون» «المحادثة» لا يهم كثيرًا ما الذي يقال في هذا الحديث، لكن الأكيد هو وجود علاقة إنسانية بين المرأتين، هناك تواصل مباشر وغياب للوحدة… لكن «عالم هوبر» مختلف تمامًا عن هذا العالم!
إنسان عصر الألة
الحق أن الآلات الأولى ساعدت الإنسان وخففت معاناته، لكن بعد 1880 استخدمت في خطوط التجميع والإنتاج الآلآت الضخمة التي يشعر أمامها الإنسان بالضآلة، وبسبب نظام الإنتاج الجديد، وجد الإنسان نفسه تابعًا للآلة، وملحقًا بها، ومجبرًا على العمل حسب السرعة التي تتطلبها، وبكل طاقته وتركيزه ومشاعره. أصبح الإنسان مقيَّدًا بفهم وإدراك أية مشاعر أو عواطف لا تساعده على اللحاق بالآلة على أنها غير ذات صلة بحياته ومشتتة لإنتاجه؛ وأصبح الإنتاج الماديّ والاستهلاك مركز النشاط الإنساني و«الكفاءة القصوى» هي المعيار الأوَّل، دون النظر لأية قيمٍ أخرى، فكل ما هو ممكن تقنيًا علينا القيام به، فإن أمكن السفر إلى القمر أو إنتاج القنابل النووية فعلينا القيام بذلك، حتى لو كان هذا على حساب الكثير من الاحتياجات التي التي يحتاجها الإنسان، ولم نلبها على الأرض.
وجد الإنسان نفسه وقد انخفض لمستوى الألة، فمعيار الكفاءة القصوى أنتج مبدأ الحد الأدني من الفردانية، فبقدر ما يستطيع المرء أن يقسِّم البشر إلى وحداتٍ صغيرة قابلة للتنبُّؤ، بقدر ما يسهل التعامل معهم، فالأرقام وبطاقات الكمبيوتر يلزمها القضاء على الفروق الفردية الدقيقة مهما كانت مهمَّة.
نجحت الآلة الصناعية في إنتاج نوعٍ من الإنسان هو «إنسان الآلة الذاتية automaton» بتعبير «إيريك فروم»، الإنسان الذي فرغت روحه من كلّ قوتها، وكفّ عن تصوُّر نفسه كمركز لنشاطه، وأصبح معتمدًا بالكامل في قدرته على الحب وقدرته على التفكير على قوى أخرى خارج نفسه. من هنا بدأت الغربة في التسلل والحضور، أصبح الإنسان غريبًا عن الطبيعة، وغريبًا عن أخيه الإنسان، وغريبًا عن نفسه.
حضورُ المدينة… بينما يغيبُ البشر في متاهاتها
في عيد الحب عام 1927 عُرضت لأول مرة لوحة «المطعم الآلي» لإدوارد هوبر، تصور اللوحة امرأة تجلس وحدها تتناول القهوة في وقتٍ متأخرٍ من الليل. في ذلك الوقت كان المطعم الألي هو مكان تقدم فيه – بطريقة آلية – وجباتٌ سريعة ورخيصة نسبيًّا للمسافرين أو القادمين الغرباء من خارج المدينة؛ يتناول الشخص فيه شطيرة أو حساء ساخن، دون حدوث أي نوع من التواصل أو التفاعل الإنساني بينه وبين العاملين في المطعم.
الكرسي المقابل للمرأةِ فارغ، يبدو أنها تنتظرُ أحدًا، أو أن أحدهم تركها ورحل. من القفاز الذي تلبسه في إحدى يديها نعرف أنها مازالت تشعرُ بالبرد، بالرغم من وجود مدفئة صغيرة بالقرب. ملابسها المرتَّبة بعناية وأحمر الشفاه القرمزيّ الذي تضعه يوحيان بأنَّها كانت أو ستكون في مناسبة اجتماعية تتطلب الظهور بمظهر معين. يظهر على وجهها بعض الخوف والتعب. تبدو في حالة وعي مكثف بذاتها، يبدو أن أمورها لا تسير على ما يرام.
المطعم في اللوحة واسع وفارغ بشكلٍ غريب، في الكثير من لوحاته يتلاعب هوبر بالمساحات الفارغة؛ لكي يخلق التوتُّر الدراميّ الذي يعدُّ السِّمة المميزة لأسلوبِهِ السرديّ. النافذة القاتمة التي تقع خلف المرأة لا تعكس أيّ شيءٍ في الداخل أو الخارج، سوى صفَّينِ من أضواء المصابيح المعلَّقة في السقف، هذا الانعكاس للضوء يعطي تأثيرًا غامضًا، كأنَّه نفقٌ يؤدِّي إلى لا شيء. عندما ينظر المشاهد إلى اللوحة يشعر على الفور بعزلتِهِ ووحدتِهِ هو! تدعو اللوحة المشاهد لكي يتخيَّلَ «حكايات» عن هذه المرأة، حكايات عن الفقد و الخسارة. هل هي هاربةٌ من شئٍ ما؟ ما الذي يدورُ في عقلها أثناء تحديقها في الفنجان؟ هل تنتظر لقاء شخصٍ ما وتشعرُ بالخوفِ من اللقاء؟ هل تلقَّت أخبارًا سيئة منذُ قليل؟ أم أنَّها تشعرُ بالحزنِ دائمًا؟
رُسمت هذه اللوحة من الحزن، لكنها لا تبدو لوحةً سوداوية، لديها نفس التأثير الرائع لمقطوعة موسيقة حزينة وعظيمة.
تستحضر لوحات هوبر مكانًا بعيدًا في ذاكرتنا، مكانًا يحفُّهُ السُّكُونُ والحُزن. تبدو شخصياته بعيدةً عن المنزل. يهيمون ليلًا في أماكن عابرة، في الشوارع والطرقات والمقاهي ودور السينما ومحطَّات القطارات. يظهر على وجوهم علامات الضعف والهشاشة، يبحثون عن عمل أو صحبة أو علاقة حميمة. في لوحة «غرفة في فندق» تجلس امرأة بمفردها في الغرفة وهي تمسكُ رسالةً أو كتاب. إنها ساكنة منطوية على ذاتها، الطريقة التى تجلس بها وكتفيها المنحنيان يوحيان بالاستسلام واليأس.
في لوحة «مقعد بالسيارة» يجلس الركاب بارتياح في عزلةٍ تامَّة عن العالم الخارجيّ، لا أحد منهم ينظر من النافذة المطلَّة على الحياةِ في الخارج، كأنهم فقدوا كلّ من في العالم. الأشخاص منعزلون عن بعضهم حتى عندما يجمعهم نفس المكان. إنهم حتى يتحاشون النظر إلى بعضهم، وكأن كلّ واحد منهم مضطرٌّ أن يعيش وحيدًا في كونه الخاصّ. كلُّ إنسانٍ لا يعرف شيئًا عن الآخر، فلا توجد أية إشارة عن حديثٍ يدور. المسافات بينهم ليست بعيدة، لكن دائمًا توجد مسافة، لا يجلس أي اثنين بجوار بعضهما البعض.
تشير رحلتهم في القطار إلى رحلةِ الحياةِ ذاتها، والتي أصبحت جامدةً وباردةً ومنفصلةً تمامًا عن كلّ شيء، فلا توجد أيَّة إشارة للحركة ولا مكان يمكن الخروج منه. إن عالم هوبر هو عالم المدينة بقيمها ونظمها المعقدة. المدينة المليئة بالحيوات المنسحبة والمتشظية.
يرى البعض أن لوحته المسمَّاة «صقور الليل» وهي أشهر لوحاته، تعبر عن الاغتراب والانفصال في زمن الحرب، انفصال الزبائن عن النادل، وعن العالم الخارجي يعبر عن مشاعر الكثير من الأمريكين خلال هذه الفترة. في الحقيقة هي تجسِّد جوهر الانفصال. الضوء الدافئ المحيط بالأشخاص في مقابل العتمة في الخارج يمنحنا شعورًا بأن ثمَّة حديثًا صغيرًا يدورُ في الداخل، ولكننا لا يمكننا أن نتأكد من هذا. لا يوجد للمقهى بابٌ ظاهر، لا نعرف كيف يمكننا الدخول، نحن أيضا مفصولون. بعد قليل سنشعر أننا وحدنا، وقد يتسرب إلينا شعورٌ مخيف، الرسم بطبيعته يستطيع أن يسهب أو يكثِّف الشعور بالصمت، كالذي نشعر به هنا. قد نستطيع تخيُّلَ الحياة خارج المقهي في وقت آخر من اليوم، ولكن الآن لا يوجد غير الصمت، يجعلنا هذا ننظر الى النوافذ عسانا نلتقط أيَّ نوعٍ من الحياة، ولكن لا يوجد شيء.
نسأل أنفسنا، هل أتى الرجل والمرأة سويًّا؟ هل تجمعهما علاقة ما، لماذا أتى الرجل الذي يجلس وحده في هذا الوقت المتأخر من الليل إلى المقهى؟ لا شيء واضح غير العزلة، العزلة هي الشيء الوحيد المشترك بين الجميع. يثير هذا تساؤلًا بشأن العام التي رسمت فيه هذه اللوحة، رسمت في عام 1942 في أوج اشتعال الحرب العالمية الثانية. أُفرغت في ذلك الوقت الكثير من المدن، وهاجر الكثيرون خارج البلاد، وأصاب الخوف الشديد والقلق الناس في ذلك الوقت في أمريكا. كان عنف الحرب قد بلغ ذروته، ولا أحد يعرف كيف ستنتهي هذه الحرب.
ربما ترجع شهرة وشعبية هذه اللوحة تحديدًا إلى النقد الواضح الذي تحمله بطريقة ما للحياة الحديثة التي نعيشها جميعًا، بالرغم من جمالها السطحي المُسكر. الحياة المشربة بالوحدة وبالعجز الذي يواجهنا عند محاولة الاتصال بمن هم حولنا. يهرب الناس في المدينة إلى ردهات الفنادق و«الكافيتريات» التي تعمل طوال اليوم، والمقاهي الموجودة في المحطات، حيث يمكن للمرء أن يخفف شعوره بالوحدة في وجود آخرين. الأضواء الساطعة والأثاث المجهول، يجعل إفساح المجال للحزن أسهل كثيرًا من غرفة المعيشة الدافئة وصور الذكريات الجميلة المعلقة في البيوت. لذلك أصبحت المقاهي والطرقات والفنادق هي ملجأ هؤلاء الذين لم يجدوا لأنفسهم مكانًا في العالم العادي.
لم أنظر إلى هذا العمل على أنه يمثل حالة خاصة من العزلة، لكني، ربما كنت، لا شعوريا، أصور العزلة الخاصة بمدينة كبيرة معينة *إدوارد هوبر
في لوحة «أناسٌ في الشمس» نرى مجموعةٌ من الناس يجلسون للاستمتاع بأشعَّة الشمس، لكنَّهم جلسوا وهم يرتدون ملابس رسمية، يظهر عليهم حالة من الذهول وشفاههم مزمومة بإحكام.. وكل واحد منهم منعزل عن الآخرين ومستغرقُ في ذاته، وبالرغم من أشعة الشمس التي تبدو أحيانًا دافئة، وأحيانًا مزعجة، إلا أن المشهد يتسم بالبرودة والعزلة، الصمت المفعم بالتوتر مهيمن تمامًا على المشهد، والتضاد القوي بين الظل والنور يعمق الإحساس بالخشونة والقمع والحصار. تبدو هذه الشخصيات مجهولة وغريبة ومنسحبة. فالشخصيات تبدو أشبه بالجثث المحنَّطة أو تماثيل الشمع.
وعلى الرغم مما في عالمهِ من غرابةٍ وعزلة، فيبدو أنه حاول أن يستكشف الجمال غير المتوقع في الحياة اليومية للبشر، الشمس التى تُضيءُ، بالرغم من غياب دفء التواصل بين الناس.
هل يتغلب الحب على الوحدة؟
في بداية الأربعين جدَّدَ هوبر صداقته مع «جوزفين نيفيسون»، التي كانت زميلة له في مدرسة الفنون، وفي السنة التالية على تجديدهما للتعارف، تزوَّجا، ولم يعد هوبر وحيدًا بعد الآن، ساعدته جوزفين كثيرًا في مسيرته المهنية، ودفعته للعمل بأشكالٍ جديدة ومتنوِّعة، وكانت الموديل الأساسية لمعظم الشخصيات الأنثوية التي رسمها، لكن – مثلما نكتشف جميعا – لم ينه الحبّ أو الزواج مشاعر العزلة والاغتراب، ظل شعورًا بالوحدة يلازمه. اكتشف هوبر أنه حتى لو أحبَّنا الآخرون كثيرًا، سيظلُّ هناكَ جزءٌ أصيلٌ فينا وحيدًا تمامًا، دائمًا. انعكس هذا بوضوح في لوحاته «رحلة إلى الفلسفة» و«الصيف في المدينة». هذه اللوحات التي تلتقط لحظاتٍ هشَّة جدًا وشديدة الرهافة، جعلت من لوحاته أعمالًا مقنعة وصادقة بقدر تقاطعها مع حالات الإحباط واليأس الجنسي التي قد يمر بها الإنسان.
بالرغم من ذلك، تحاول المرأة في لوحاته أن تظهر حيوية «إيروتيكية»، على عكس الرجل الذي تبدو عواطفه باردة. نرى هذا في اللون القرمزيّ والأحمر والألوان المُشرقة التي غالبًا ما تظهر في ملابس النساء، لكن هذه الحيوية لا تستطيع كسر الصمت والعزلة القاتلة. فالهشاشة واليأس والإحساس بالخواء صفاتٌ أصيلة لوجودهنّ المستلب. وبشكلٍ عام فإن شخوص هوبر سواءً كانوا رجالًا أو نساءً، هم مجرد ضحايا للنظم الاجتماعية.
في لوحة «حجرة في نيويورك» نرى زوجينِ من خلال نافذة كبيرة، الرجل مستغرقٌ في قراءة جريدته، بينما المرأة تلهو بأصبعها على «البيانو». وعلى الرغم من أنها تعزف على البيانو، إلا أن الجزء الأسفل من جسدها، يتَّجهُ نحو الرجل، فهي تحاولُ بشكلٍ ما لفتَ انتباهه، يظهر هذا أيضا في لون الثوب الذي ترتديه، بينما هو بلون بزته الداكن، يبدو غير منتبهٍ لها، وغير متجاوبٍ معها. في الوقت نفسه، نستطيعُ أن نرى من ارتخاء يدها اليسرى واتجاهها نحو الأسفل، أنها في الحقيقة فقدت الأمل في الاتصال منذ زمنٍ بعيد. يعيد هوبر بناء مشهدٍ مُشابه مرةً أخرى مع بعض الاختلافات القليلة في لوحة أخرى هي «فندق بجوار السكة الحديد». لا يوجد في هذه المشاهد سوى الصمت، ولوحة بعد أخرى يزدادُ الصمت.
مباني ذات طبيعة كاريزمية خاصة
كيف تمكَّنَ هوبر من جعل أشياء غير حيَّة كالمباني أن تعبِّر عن العاطفة إلى هذا الحدّ؟! في لوحة «منزل بجوار السكة الحديد» يبدو المنزل وحيدًا في عزلةٍ مُزعجة، ليس هناك طريقٌ يؤدِّي إليه ولا يوجد بيوت أخرى بجانبه ولا أشجار ولا جيران، ولا أحدٌ يسكنُ في ذلك البيت، لا يوجد سوى السكة الحديد التي تعمِّقُ الشُّعُورَ بالوحدة. لا توجد أيَّة إشارةٍ تدلُّ أنه آمن مثلما ترتبطُ لدينا البيوت بالذاكرة. يوحي البيت بالقِدَم كأنّ هناك من سكنوه وهجروه، لقد غادروه أو غادروا الحياة، بينما ظلّ هو شاهدًا على الخلاء والخواء. بإمعان النظر أكثر يّولد المنزل الحزين إحساسًا عميقًا بالتجاهل والتخلّي والفقد. اعتبر النقاد هذا العمل دليلٌ على ولعِ هوبر بالمنازل القوطية الصامتة. ألهم هذا المنزل بظلامه وظلاله المشئومة الكثيرين من مخرجي أفلام الرعب.
المنزل تشع منه رائحة الخاتمة.. مثل النعش *مارك ستراند
يستطيع هوبر بطريقةٍ ما أن يجعل المشاهد للوحاته يرى لحظاتٍ خاصَّة وسريَّة للشخصيات لا يمكنه أن يراها في الظروف العادية. يقال إن نكهة التلصُّص هذهِ هي التي جعلت للوحاته كل هذه الجاذبية لدى الناس. يتلصَّصُ هوبر على الأشخاص وعلى المباني أيضًا، فكما يلتقطُ لحظاتٍ سريَّة لشخوصِهِ، فهو يلتقط صورًا للمباني والحجرات الفارغة من منظور غير بشري، من أماكن لا يمكن أن تكون مشغولة بأناس حقيقيين. فالمشاهد غالبًا ما يجد نفسه في مكانٍ غير معتاد وغير مريح وهو ينظر إلى اللوحة. وفي لوحة «نوافذ ليلية» سيجد المشاهد نفسه معلَّقًا في الخارج، على مسافةٍ ليست بعيدة من نافذة إحدى الشقق، ليرى فجأةً مؤخِّرة مخفية بملابس قصيرة لسيدة لاهية وغير منتبهه. في لوحة «مكتب في الليل» سيجد المشاهد نفسه محلِّقًا قُرب سقف أحد المكاتب ليلًا، ليرى رجلٌ يجلسُ على مكتبه وبالقرب منه تقف زميلته.
من الملفت أن المعمار في لوحات هوبر له طبيعة خاصة بمعزل عن الأشخاص الذين يسكنون فيه، يصور هوبر المباني كوحداتٍ مجرَّدة لها حياةٌ خاصَّة بها، وهي كثيرًا ما تبدو أكثر حضورًا من الأشخاص الذين يسكنونها. تفرض المباني في لوحاته بفراغاتها الهندسية الهائلة سطوتها على البشر وتصيبهم بالضآلة، وأحيانًا بالتيه وفقدان الهوية، وفي بعض اللوحات الأخرى تبدو الجدران والحجرات أكثر حميمة من البشر أنفسهم.
يقول هوبر إن كل ما يريده هو أن يرسم النور والظل. في لوحة «الشمس في حجرة فارغة» يحضر الصمت والفراغ أكثر من أية لوحةٍ أخرى. ليس هناك سوى ضوء وظل، وحجرةٌ فارغة تعكس من نافذتها هذا الضوء. في لوحة «شمس الصباح» خيوط الضوء تنير وجه وجسد المرأة الغارقة في أفكارها، في الكثير جدًا من أعماله تنظر الشخصيات من النافذة، كمحاولة للتواصل مع العالم، ولكنه تواصل لا يتم. تُظهر معظهم شخصياته ميل إلي المزاج الإنطوائي التأملي، يقرأون الكتب أو ينظرون بإسهابٍ إلى شيءٍ ما أو شخصٍ ما لا يراه المشاهد.
يخطط هوبر لوحاته بطريقة شبه متقشفة، بحيث لا تحتوى إلا على كل ما هو جوهري، لذا نجد انتباهنا مكثفًا جدًا نحو لحظةٍ مُعيَّنة. ونادرًا ما نجد شخصيات هوبر تبتسم أو تعبس بوجهها أو تبدي ما يكشف عواطفها المخبوءة. كأن الفنان لا يثق في هذه الوجوه، إنها ليست كما تبدو، هو دائمًا ما يبحث عن ما وراء الوجه. ذكرت زوجته مرة أنه قال عن لوحة «ميلاد فينوس» لبوتشيللي: هي صورة لفتاةٍ أخرى جميلة غير الموجودة في اللوحة، وإن ما يبدو من جمالٍ وابتسامٍ، إنما هو قناعٌ يحيلُ إلى فتاةٍ أخرى قد تكون أكثر جمالًا أو أقل، أكثر ابتسامًا أو أقلّ، لكنها، يقينًا، أكثر تركيبًا وتعقيدًا في صدق عواطفها مما يبدو في اللوحة، وما اللوحة إلا قناعٌ يخفي ذلك الصدق وذلك الجمال. لذا يقول النقاد إن هوبر لا يرسم الناس جيدًا، ويقول كليمينت جرينبرج: إن هوبر مصوِّر سيئ، وهو لو كان مصورًا جيدًا، فإنه ربما لم يصبح ذلك الفنان الفذ.
عندما كان يقال إن لوحات هوبر تمثل المشهد الأمريكي المعاصر، كان هوبر يحتقر عبارة المشهد الأمريكي، ويرفض كثيرًا ما يقال عن أنه يصور مشاهد من أمريكا، ويؤكد أنه يرسم ذاته الداخلية في استجاباتها لهذه المشاهد. يصنف معظم النقاد هوبر ضمن التيار الواقعي، لكن نقادًا آخرين يصنفونه ضمن المذهب السريالي، ذلك الذي يحتفى بغرابة الحياة الواقعية لاغرابة الأحلام. قال أحد النقاد ذات مرة إن أعمال هوبر تحتوى على أعمق الاستبصارات السريالية الخاصة بأفضل السرياليين. استطاع هوبر أن يجعل من واقعيته شيئًا يفوق في جوهره أكثر اللوحات السريالية خيالًا.
لم يكن هوبر يثق أبدًا في الكلمات، وكان يقول إن ما يمكن قوله بالكلمات لن نكون في حاجة إلى رسمه، وكان يعتقد أن الصور المرسومة هي الأقدر على توصيل المشاعر والأفكار. لذا سيظل دائمًا في لوحاته شئٌ ما لا يمكن قوله ولا كتابته، شئٌ غامضٌ جدًّا، كوجودنا الغامض في هذه الحياة.