” .. انّهُ عشب الخليج الأصفر ، الذي ينشرُ على وجه الماء إشعاعات فوسفوريّة في الظلام .
و راحَ العجوزُ يحدّث السمَكة :
أيّتها السمَكة ، انّي أحبّك واحترمك كثيراً ، ولكنّي سأصرعُك حتّى الموت قبل أن ينتهي هذا اليوم .
وقالَ في حديثهِ :
لنتعلّقَ بهذا الأمل ..
و أقبلَ طائرٌ صغير من الطيور المُغرّدة ، قادماً من الشمال ، وحلّقَ على مقربةٍ من سطح الماء ، فأدركُ العجوزُ انّ الطائرَ قد بلغَ آيةَ العناء .
واستراحَ الطائرُ على صدرِ الزورق ، مستقرّاً عليه . ثم لم يلبث أن طار مطوفاً حول رأس العجوز . ثمّ راقَ لهُ أن يقفَ على الحبل .
و سألهُ العجوز :
ما عمرك ؟ .. أو هذه رحلتك الأولى ؟
و ظلّ الطائرُ يتطلّعُ لهُ اذ هو يتكلّم ، ثمّ راحَ يقبض بقدميه الرقيقتين على الحبل ، فقالَ لهُ العجوز :
انّه ثابتٌ كلّ الثبات . وما كان لك أيّها العزيز ان تتجشم كلّ هذا العناء في ليلةٍ كهذه ، بلا ريح .. ولكن حدّثني .. لماذا تأتي الطيورُ الى هُنا ؟
وحدّث العجوزُ نفسه :
ان الصقور تفدُ الى البحر لتلتقي بمثل هذا الطائر .
و لكنّه لم يقُل هذا الطائرُ شيئاً ، لأنّ الطائر لا يفهمُ لغته ، و لا بدّ ان يعرف قصة الصقور يوماً ما .
ثم قالَ للطائر :
خذ نصيبك من الرّاحة أيّها الطائر الصغير . ثمّ اذهب الى موعدك مع القدَر ، كأيّ انسان ، او أيّ طائر ، أو أيّة سمَكة
و راقَ للعجوز أن يثرثر ، لأنّ ظهره كانَ قد تصلّب و اشتد به الألم اثناء الليل .و عادَ يقولُ للطائر :
اغرب عن مأواي إذا شئت . و يؤسفني انني لا استطيع نشر الشراع لآخذك فيه مع هذه النسمة الخفيفة التي بدأت تهفو . على انّي أحسّ الآن أن معي صديقاً ..”
——————–
” .. كان الظلامُ قد ارخى سدله . إذ أنّ الظلامُ يهبطُ سريعاً بعد الغروب في شهر سبتمبر .
و مالَ العجوزُ الى الأمام فاستلقى على لوحةِ حنيّة الزورق قدرَ ما استطاع . وطلعت النجومُ الأولى في السماء .
ولمحَ العجوزُ بينها نجماً لا يعرفُ اسمه ، و ان كان يعرفُ من امره ما يُشير الى انّ هذه الوحدة تقتربُ من نهايتها ، ولن يلبثَ ان يجدَ نفسه بين أصحابهِ النائمين .
و قال العجوز :
هذه السمكة صاحبتي هي الأخرى . انني لم أرَ أو أسمع بمثلها في حياتي .. ولكن ، لا بدّ لي من قتلها . من حُسْن الحظ اننا لا نحاولُ قتلَ النجوم .
و جعلَ يُفكّرُ محدّثاً نفسه :
تصوّر .. لو حاولَ الناسُ كلَّ يوم ان يقتلوا القمر ! انّ القمرَ يستطيعُ أن يهربَ و يلوذُ بالنجاة و لكن .. تصوّر ، لو بذلَ انسانٌ جهدَ يومه ليقتلَ الشمس .. من حُسن الطالع أنّنا ولدنا هكذا .
ثمّ عاودهُ الرثاءُ للسمكةِ التي لم تُطعم شيئاً . على أنّ رثائه لم يُخفّف من حدّة شوقه الى قتلها .
و همْهمَ قائلاً :
كم من افواه النّاس سيأكلُ من لحم هذه السمَكة ؟ و لكنْ ، أهذهِ الأفواه أهل لأكلها ؟ .. لا . طبعاً لا .. انّ هذهِ السَمَكة بعظمَتها و براعة تصرّفها لا تجدُ من هو أهل لأكلها .. انّني لا أحسنُ فهمَ هذه الأمور . ولكن من حسن الطالع أن لا ينبغي لنا أن نحاولَ قتل الشمس و القمر و النجوم . حسبُنا أن نعيشَ على الماءِ و نقتل أخوَتنا الصادقين في الودّ .