ناصر السوسي:
توقفت في رصيف الشارع ريثما تخف حركة السير . لمحنى الطاهر من بعيد، فأسرع الخطى صوبي بهمة فائقة . لم يكن الطاهر يبالي بمنبهات السيارات، ولا بشتائم بعض السائقين وهو يخيط بخفة عجيبة المسالك الضيقة التي تفصل ، بالكاد، بين المركبات .
في كل مرة أصادفه فيها يكون الطاهر هو هو . في قسماته وهدوئه . في ملامحه ورنة صوته . قد متوسط.انحناءة طفيفة . سحنة ذهبية .سترة بنية داكنة.قميص أصفر. ربطة عنق قصيرة من جلد أسود. نظارات أطفال لدنية بلا عدسات. شعر طويل أشقر. تتخلله خصلات شيب فضية. بنطلون قزحي تقريبا …
اندفع الطاهر نحوي شاحب الوجه. كان يتصبب عرقا. من نصب تعلو أنفاسه وتنخفض كمن فاجأتـه أزمة ربو. حياني مثل دأبه بحرارة.ربت بلطف على كتفي. ابتسم. مددته بما تبقى في جيـبي من قطع نقدية.ضغط على يدي اليمنى بود . أحسست على غير المعتاد برجفة يديه، ثم انبرى يخاطبني بانجليزية رصينة كديدنه معي:
-
” وددت يا صديقي العزيز لو التقيتك في الأيام المنصرمة. لشد ما رغبت في الحديث معك .”
سعل الطاهر سعالا خفيفا.حك شحمة أذنه وأضاف :
-
” آه لو تعلم حاجاتي الملحة إلى تواصل إنساني ! “
نـــاولت الطاهر لفافة تبغ شقراء . أشعلها . أخذ منها نفسا عميقا. كان يرى إلى قبة السماء . عيناه تسرحان بعيدا في السحاب المتشظي في المجهول. لعلهما تخبئان سرا مكنونا، أو تحملان لوعة من جحيم مضى. التفت إلي، وزاد بنبرة الواثق:
-
” في جعبتي هذه المرة قصص من روائع مارك تويـن. سأحكيها لك قبل أن أسردها على وحيدتي” ميري” التي اشتقت إليها . وأنا الآن أتوقع وصولها بين لحظة وأخرى.سأقيم حفلا بالمناسبة وأنت أول المدعويـين . “
كنت أنصت له، وأتتبع حركاته حينما استدرك:
-” قد لا أستطيع اللحظة أن أطلعك على هذه القصص الجميلة ، ولا عن البرنامج الذي صممته احتفاء بمقدم “ميري” يبدو أنك منهمك. في رفقة .”
كان يومئ بسبابته إلى مرافقي والدخان يخرج ببطء من فمه.لذلك لم ينتظر كثيرا.سوى سترته. مرر يده اليسرى بتثاقل على شعره المصفف إلى الخلف. أخذ آخر نفس من سيجارته الأولى وقبل أن يرمي العقب أشعل به أخرى . استدار . أطرق ثم انسحب في صمت. كنت أرمق خطواته المتناسقة حتى اندس وسط الجمهرة .
تفرس مرافقي في وجهي . ابتسم ابتسامة خفيفة فقال:
-
” أرى أن صاحبك كان بالثقافة شغوفا . ذا همة ربما في زمن ما ، وها قد فقد كل شيء على ما يظهر ! “