حاورته: ديمة الشكر
أنت هنا في لندن، بدعوة من مكتبة الساقي، بمناسبة ترجمة كتابك “عن أمي” إلى اللغة الإنكليزية، حيث تروي فيه سيرة حياتها. هل أردت من خلال الكتابة عن أمك أن تكون سيرتها ممثلة للنساء المغربيات وحياتهن المليئة بالصعاب؟
لا ليس الكتاب عن أمي وحدها، إذ حين نتطرق إلى مواضيع كالشيخوخة والمرض، فإن الأمر لا يتعلق بأمي فقط. لقد ترجم الكتاب إلى عشرين لغة، الأمر إذن يعني أن عشرين مجتمعًا يهتمون بأمور مماثلة.
انطلقتُ من فكرة؛ ملاحظاتي عنها، ما شهدته وما أدركته، ومن ثم انتبهت أنه عمليًا، الأمور متشابهة بين مجتمع وآخر، بين أمي وغيرها من الأمهات.
في النهاية كانت “سيرتها” نقطة انطلاق شرارة لو شئتِ، إذ كانت حياتها استثنائية بعض الشيء. كان علي “إعادة ابتكار” حياتها. إذ ما كانت ستروي لي بدافع الخفر. فالأهل لا يقصون حيواتهم علينا. لا يروونها. ولدت أمي عام 1915 وتوفت عام 2002، إذن رغم أنها شهدت الكثير من التطورات في المجتمع، فإنها لن تتغير، ولن تروي لي لا حياتها الخاصة ولا حياتها الحميمة، لذا خمنت قليلًا حياتها.
بدأت مسيرتك “المهنية” أستاذًا للفلسفة في مدرسة الشريف الإدريسي بتطوان. هذا الجانب التربوي لديك، هل “استعدته” عندما ألّفت كتبًا “تربوية”: “شرح العنصرية لابنتي”، و”شرح الإسلام للأطفال” و”شرح الإسلام لأولادنا”. أمن أجل هذا جاءت كلها على شكل سؤال وجواب؟
صحيح، فقد كان تكويني الجامعي الفلسفة. أقرأ كثيرًا في الفلسفة، كنت على وشك التقدم لشهادة التمكن من الفلسفة وتدريسها. هذا ما أردت فعلًا القيام به، لكنني لم أستطع بسبب ظروف خارجة عن إرادتي. بيد أني ما زلت أهتم بها كثيرًا. أنا من أنصار تعليمها للأولاد. لا يجب الانتظار حتى المرحلة الثانوية لتدريسها. حين أقول الأطفال، فطبعًا لا يمكن مثلًا أن نختار لتدريسهم مفهومًا فلسفيًا معقدًا مثل مفهوم “التجاوز” (Transcendance) كما لدى إيمانويل كانط أو مارتن هايدغر، أو أي مفاهيم أخرى معقدة من هذا القبيل. إلا أنني أؤمن بوجوب “تسريب” بعض المفاهيم الفلسفية أثناء تعليم الأولاد، وتدريسهم إياها.
لقد قمت بذلك مع أولادي، كنت أفعل ذلك وأنا أقودهم بالسيارة إلى المدرسة كل يوم. كان الطريق يستغرق حوالي عشرين دقيقة. دائمًا ما كنا نأخذ مصطلحًا ونحاول “تقشيره” أو تفكيكه. لم تكن أعمارهم تتجاوز العاشرة، ربما كانوا أكبر بقليل. كانت تلك طريقتي للتواصل معهم، وأيضًا لئلا نهدر الوقت. أتذكر يومًا، وكنا نستمع إلى الراديو، أن مذيعًا قال: هذه مشكلة أخلاقية مستعملًا كلمة : Déontologie، (علم الأخلاق).
شرح معنى هذا المصطلح لأطفال في عمر العاشرة ليس أمرًا سهلًا. قلت لهم، علم الأخلاق هو احترام قواعد وقوانين معينة. على المرء ألا يغلّب مصلحته الشخصية على مصلحة الوطن أو القضية الخ.
لكنهم لم يستطيعوا الفهم. يحب الأطفال ضرب الأمثلة كثيرًاً، لذا خبرتهم كيف أن صحفيًا تمت إدانته لأنه استغل مهنته من أجل الحصول على إجازات وعطل دفعت تكلفتها له شركة. إذن، هذا أمر غير أخلاقي، لقد تم إفساد الصحفي. ومن هنا أنطلق إلى “الدرس التالي” عن الفساد كمفهوم، وهكذا.
* كانت أسئلة الأطفال إذن، دافعك، أو ما ألهمك، لكتابة هذه الكتب التربوية؟
نعم صحيح. ولكن أيضًا لأنني فهمت منذ زمن طويل جدًا، وأجهل كيف لا يدرك البعض ذلك، أن كل شيء يتم في المرحلة الابتدائية، كل شيء يتكون لدى الأطفال في سنواتهم الأولى. لذا إن لم نقدم لهم أساسًا جديًا، ولا “العناصر” من أجل الفهم والتفكير، سيكبرون جاهلين و”غير أذكياء”، من أجل هذا قمتُ بتأليف هذه الكتب.
أتذكر كيف ألفت كتاب “شرح العنصرية لابنتي”. كانت وقتها في التاسعة من عمرها. كنت أطرح الأسئلة عليها وعلى أترابها، قبل أن أنصرف للتأليف وحدي واتمام العمل. إنه عمل حقيقي عن طرح الأسئلة.
وينطبق الامر نفسه على كتابي عن الإسلام. فبعد اعتداءات أيلول في نيويورك، جاءت ابنتي الصغرى، التي كانت صغيرة جدًا، عمرها حوالي سبعة أعوام، وقالت لي بعدما شاهدت ما جرى على التلفاز: “بابا هؤلاء المسلمين أشرار حقًا. غدًا حين سأذهب إلى المدرسة سأتناول لحم الخنزير”. لم أكن مرة قد ذكرت شيئًا عن الأمر، إلا أن الإسلام ارتبط في ذهنها، وهي الطفلة الصغيرة، بعدم تناول لحم الخنزير. كانت من خلال كلامها تريد قطع كل علاقة لها بالإسلام. لذا، شرحت الأمور لها، وألفت الكتاب وأهديتها إياه. واليوم هي مؤمنة بالله تعالى، مسلمة وتصوم في شهر رمضان. هي شابة عصرية جدًا ومنفتحة ومستقلة تعتمد على نفسها، بيد أنها تحس نفسها معنية بالإسلام.
* حصلت عام 1987 على جائزة الغونكور عن روايتك “ليلة القدر“، ومن ثم في عام 2008، تم انتخابك عضوًا في لجنة الجائزة. إذن مرة كنت مرشحًا لنيلها ومرة أخرى كنت عضوًا في تحكيمها. كيف ترى الأمر ذاته من الجهتين؟
أظن أنه من الجيد أننا لا نحوز جائزة الغونكور إلا مرة واحدة، فلا يتوجب علينا القلق ثانية بشأن حصول ذلك. أشفق الآن فعلًا على المرشحين لنيل الجائزة. اجتمعنا نحن أعضاء لجنة التحكيم الأسبوع الماضي، لاختيار المرشحين في اللائحة القصيرة. أشفق على المرشحين الأربعة، إذ سيمضي هؤلاء المساكين أيامًا رهيبة. وسنجتمع بعد الغد، أي الخميس من أجل إعلان الفائز. لا شك في أن المرشحين متوترون الآن جدًا.
جائزة الغونكور لا مثيل لها. إذ لا يوجد اليوم في العالم جائزة أدبية رفيعة مرموقة مثلها، وفي الآن نفسه، يهتم الإعلام بها على هذا النحو. ففي يوم إعلان النتيجة تجدين حوالي ثلاثمائة مصور وصحفي، بل يمكن حتى أن تجدي رئيس الوزراء. هذا أمر جيد. ثمة اهتمام كبير بها. لطالما كنت عضوًا في لجان تحكيم جوائز عديدة في كل مكان في العالم، إلا أن جائزة الغونكور مختلفة. يتم الإعلان عنها مباشرة عبر الإذاعة. تتكهن الصحافة بنتائجها، الاهتمام الإعلامي بها كبير جدًا.
* لعلنا نستطيع مقارنتها بنوبل للآداب إذن؟
لا لا أبدًا، جائزة نوبل للآداب خسرت كثيرًا من رصيدها. اليوم يتم الأمر فيها كيفما اتفق، عشوائيًا. بينما جائزة الغونكور، دقيقة جدًا في اختيار الكتاب. إذ يجب أن يكون كتابًا جيدًا وفي الآن نفسه يجب أن يكون كتابًا للجمهور الواسع. أحيانًا تعطى الجائزة لكتاب لا يلقَ انتشارًا، وعند ذاك تنتقد الجائزة. رواية ماتياس إينار”بوصلة” التي حصلت العام الماضي على الجائزة، رواية ممتازة مدهشة أحببتها كثيرًا. إلا أن بعض الجمهور وجدها طويلة جدًا ومعقدة.
* حين تتطرق إلى الانتشار الواسع أفكر بكتابك “تلك العتمة الباهرة“، الذي يعد من أشهر الكتب الخاصة بأدب السجون العربي. فيه استطعت “الالتفاف” على العنف والقسوة الكبيرين بأسلوب شاعري جميل لكن دقيق، في وصف حياة السجين في معتقل تازمامرت. هل البلاغة برأيك يمكنها “حجب” قسوة الواقع في السجون، في المعتقلات؟
هذا كتاب خاص جدًا، لقد تسبب لي بمشاكل كثيرة. أحيانًا أقول لنفسي، ربما كان من الأفضل لي لو لم أكتبه. لكن ها هو الآن موجود. هو مهم صحيح، بيد أنني كتبته بكل جوارحي، كتبته بقلبي. كتبته بالاستناد إلى معلومات قليلة جدًا. فالسجين الذي أرويه في الكتاب، لم يتكلم أكثر من ساعتين تقريبًا. كنت أدون بعض ملاحظات أثناء حديثه. فهمت الأمر، أدركته. قمت بـ “إعادة خلق” كاملة. فقد كنت مؤمنًا بالموضوع، بالقضية التي كتبتها. أنا كائن نهاري في الكتابة، لا أكتب إلا نهارًا. لا أكتب بعد الظهر ولا في المساء. إلا انه لإنجاز هذا الكتاب، رحت أكتب ليلًا نهارًا. طوال الوقت كنت أكتب، بلا انقطاع. وقد استغرق تأليفه أربعة أشهر من الكتابة الكثيفة المركزة. كنت أكتب يوميًا في الليل والنهار. أتذكر وقتها أني كنت أستعمل الورقة والقلم.
* سألتك عن البلاغة.
البلاغة هنا، أي أنني وضعت نفسي مكان السجين. أتعلمين؟ وقتها تذكرت أمرًا آخر. كان لدي صديق في الجامعة، اعتقل وعُذِّب. حين خرج من السجن، سألته ولكن كيف استطعت احتمال جلسات التعذيب؟ قال لي أثناء جلسات التعذيب، كنت أركز انتباهي إلى حد كبير، وأرحل. أذهب نحو عالم روحاني. وهذا ما أعطاني مفتاح “تلك العتمة الباهرة” وأسلوبها. في الحقيقة، من أجل التغلب على هذه القسوة وهذا العنف يتم ذلك ذهنيًا، بقوة الروح، هذا مفتاح الكتاب.
* بما أنك كاتب فرانكفوني، غالبًا ما تسأل عن خيارك الكتابة باللغة الفرنسية. سؤال يتجاوز الاختيار من حيث يسائل الهوية. لكن ألا نستطيع القول إن العربية والفرنسية متعايشتان في ذهنك؟
بالطبع صحيح، بل ربما لغات عديدة تتعايش في ذهني. إذ ثمة العربية الفصحى، والعربية الدارجة، و”عربية” أمي. الفرنسية موجودة بالطبع. لكن أيضًا بعض من الإسبانية وبعض من الإيطالية. يعود الأمر إلى أنني كثير الأسفار، أذهب إلى أمكنة عديدة. ثم إنني فضولي جدًا في ما يخص الناس، كيف يمضون حياتهم؟ كيف يعيشون؟ لأنني فضولي جدًا أقول إنني متشرب جميع اللغات.
* لكن حين تفكر، أيكون بالعربية أم الفرنسية؟
أقرأ بالفرنسية. اقرأ الإسبانية قليلًا، مثلاً حين قرأت كتاب ميغيل دي ثربانتس “دون كيخوته” بالإسبانية كان الأمر شاقًا بالنسبة لي. تعذبت فقد استعمل كلمات صعبة بالنسبة لي. إلا أن عالمه، عالم ثربانتس، وعالم خورخي لويس بورخيس، وعالم غابرييل غارسيا ماركيز، عوالم أليفة جدًا، أحسها كما لو أنها تقربني كما لو أنه أخ أو قريب لي. اللغة تأتي بعد ذلك، العالم أولًا، العالم الذي تشيعه.
لو نظرنا في قائمة مؤلفاتك، لوجدنا الرواية والشعر، وأيضًا كتبًا تربوية، وكتب مقالة، وكتب فن، لديك كتاب عن ألبيرتو جياكوميتي. وأنت ترسم. أتتبع خطةً حين تنقل من جنس لآخر؟ ما دافع الاختيار لديك؟ الشعر مرة ثم الرواية ثم اللوحة؟
فعلت كل شيء، كما لو أنني مصنع أو معمل. لكن ثمة أجناس غير قابلة للتخطيط، لا يمكن أن تخضع لخطة، وثمة أجناس يمكن أن نخطط لها.
مستحيل. لا يمكن مطلقًا التخطيط للشعر. فإما أن تشعري أو لا تشعري بالحاجة إلى كتابته. تلك الحاجة تظهر على شكل قصائد. لكنني لا أعرف. لا أكون مرةً متأكدًا أن هذا شعر. لأن الشعر مثل القداسة، لا يمكن إدعاؤه. حين يقول أحدهم عن نفسه إنه شاعر، فإنه قد ارتكب خطأ. لأنك لستَ أنتَ من تكتشف الشاعر فيك، هذا ليس من شأنك. لست أنت من يكتشف ذلك، هذا شأن الآخرين، هم الذين يكتشفون الشاعر فيك، ويحكمون إن كنت شاعرًا أم لا. الشعر إذن، إما أن يأتي أو لا.
* إلهام صافٍ؟
لا لا، إنه عمل أيضًا. لا أعرف كيف أقول لك. منذ فترة، تعرض صديق لي لمحنة فظيعة، إذ فقد ابنه في حادث أليم. مأساة مطلقة. لم أكن أعرف ما أقول له، ولا كيف أمنحه التعاطف، “أعالجه”. لذا كتبت قصيدة قصيرة، قلت له فيها الأشياء التي حين يقرأها، ربما تهدئ روعه، وتعينه على احتمال المصيبة، فهي مصيبة مطلقة. الشعر يأتي أحيانًا حين يكون علينا التعبير عن أمر من الصعب قوله بشكل مختلف، فلا أكتب حينها رواية ولا قصة، لكنني أفعل أمرًا آخر: أكتب الشعر. لعل هذا سبب وجود الكثير من قصائد الحب. فنحن عندما نريد إثارة إعجاب أحدهم، نبدأ بسرد “غزليات” عن طريق الشعر. لا أعرف، لا أعرف ما الشعر.
الرواية أمرها مختلف، فالفكرة تنمو، تستغرق زمنًا لتختمر. أبدأ بالتفكير: كيف سأفعل هذا؟ كيف سأقوم بذاك؟ هذا عمل مستمر ليل نهار. يستغرق زمنًا طويلًا لينبثق ويطلع. وكثيرًا من الوقت. ليس الأمر آليًا، إنه عمل، أو مهمة تتطلب تنظيمًا للأفكار. وما زلت إلى الآن أخشى الصفحة الأولى في الرواية، أروح أفكر: يجب أن أبدأ بشكل جيد، يجب أن تكون الصفحة الأولى جميلة.
* أكثر من مرة بدأت بـ” كان يا ما كان”. لا ريب في أن الحكاية تفتنك. لكن في رواياتك أيضًا نجد مصاعب الحياة، مشاكلها شجونها، أحيانًا تطرح مسائل وجودية. أنت تزاوج بين الإمتاع والإخبار، لعل الأمر قادم من التراث العربي، من “ألف ليلة وليلة” أو” الامتاع والمؤانسة”، الحكاية تفتنك، ولديك كتاب فيه “تعريب” لو جاز القول، لقصص الجنيات كما دونها شارل بيرو.
نعم نعم صحيح. في جميع الأحوال، أرى أن علينا أن نروي ونقص، فالعالم فظيع جدًا، مروع جدًا، ثم إن التحليلات السياسية دائمًا خاطئة. أمّا التاريخ فله أسراره، إذ لا يخبر عن كل ما جرى، لذا يجب كتابة الروايات، فإننا في النهاية حين نكتب رواية، لدينا حظ أفضل للتوصل إلى شيء ما.
* قلت توًا إن التاريخ لا يروي كل ما جرى؟
نعم نعم بالطبع. أوتظنين أننا نعرف كل ما يجري اليوم بين بشار الأسد وفلاديمير بوتين مثلًا؟ نعرف أنهما مجرمان، لكن ما الذي يدور حقًا بينهما؟ ما حواراتهما؟ ما أحاديثهما؟ لن نعرف ذلك أبدًا. كما أننا لن نعرف ما فعلته الولايات المتحدة، نكتشف ذلك اليوم عبر الأفلام، حيث الجريمة غالبًا ما تنسب لمعتوه ما أو متشرد.
كل هذا أسرار لن نعرفها أبدًا. لذا فإن الروائي سيخبر الأمور وسيبتكر، كي يعبر عن الواقع بشكل أفضل. لو نظرنا اليوم إلى ما يحدث في العالم العربي صراحة. يخطر لي المخرج المصري محمد دياب الذي عمل فيلمًا رائعًا: اشتباك. أجد الفيلم مدهشًا ممتازًا. لأنه وضع المجتمع المصري، أو جزء منه، – بصورة مركزة – في عربة ترحيلات تابعة للشرطة أو الجيش. عربة لا تتجاوز مساحتها عشرين مترًا مربعًا، فيها تقريبًا المجتمع المصري كله أو جزء كبير منه. أعني قام بالثورة: ثمة الإخوان المسلمون، امرأة محجبة، وأخرى سافرة. رجل قبطي، مثقف ناصري، الخ. وهذا أسميه “بناء”. لو أردتُ اليوم الحديث عن العالم العربي، فلن أختار عربة ترحيلات، بل سأختار مستشفى الأمراض العقلية. فنحن مجتمع مريض، مريض بالكامل. ثمة أفراد ناجون، لعلهم المقيمون خارجه. أتصور لو أنني أعيش اليوم في القاهرة لا باريس، لصرت مجنونًا منذ زمن طويل. أختار مرضًا عقليًا، إذ إنني أجد الوضع اليوم كارثيًا في العالم العربي، نعيش في خضم عنفٍ مستمر. أقول ليس داعش هو الدولة الإسلامية، لكن ليس مصادفة أن الدولة الإسلامية موجودة لدينا. لماذا لا توجد “دولة مسيحية” في ستوكهولم أو الدنمارك؟
* لكن، يتم وصم الإسلام واستهدافه
لا لا، هذا أمر مختلف. دعيني أوضح لماذا توجد الدولة الإسلامية / داعش لدينا. لأن الدول العربية كلّها مهدت لها وحضّرتها، من حيث أوجدتها ضمن واقع أن لا دولة عربية واحدة تثق بشعبها. لم توجد الديمقراطية أبدًا لدينا، لا في مصر ولا سورية ولا العراق، ربما وجدت “قليلاً” في لبنان، لكن لا تنسي الحرب الأهلية اللبنانية. غياب الديمقراطية في رأيي أدى إلى داعش، الدولة الإسلامية تشبه القذافي: النظام المنتهية صلاحيته نفسه، النظام ضد الإنسانية نفسه. ولم كان ذلك ممكناً؟ لأنه تم التمهيد له من خلال سنوات طويلة من الحكم السياسي المطلق، والدكتاتورية والقمع وما إلى ذلك. داعش جزء من المشهد.
* لكنك قلت إن ما يحدث اليوم في العالم وفي فرنسا تحديدًا ليس رهاب الإسلام بل كراهية الإسلام. أنت تدافع عن الدين لإسلامي أمام المجتمع الفرنسي أم العربي؟
لا أنا لا “أدافع” عن الدين الإسلامي بهذا المعنى، فأنا لا أقول إن الإسلام دين “جيد”. إذ ليس لأحد الحق أصلًا في مجتمع ما، بأن يصم مجموعة أو يستهدفها، لا حق لأحد بذلك مطلقًا. اليهود حساسون جدًا تجاه مسألة اللاسامية، لذا أجد أنه من الطبيعي بالنسبة للمسلمين، أو ذوي الأصول الإسلامية، أن يكونوا معنيين برهاب الإسلام أو كراهية الإسلام. لا يتعلق الأمر بالمؤمنين منهم أو الممارسين للشعائر الدينية فحسب، بل بهم جميعًا. الأمر مبدئي. أقول إنه لا يحق لأي رجل سياسي أن يصم الدين الإسلامي، ويعده مسؤولًا عما يحصل.
* لكن بما أن الإسلام مستهدف، فهذا يترك حيزًا صغيرًا للعمل والقول. أعرف إنك تقول إن لإسلام ليس داعش.
نعم قلت ذلك وأقوله، داعش ليست من الإسلام، الإسلام كما أعرفه وكما درسته. لكن لا تنسِي، مرّت في التاريخ أيضًا حروب دينية بين البروتستانت والكاثوليك، وفيها أيضًا تم ذبح وحرق وما إلى ذلك من أهوال وفظائع، الأديان كلها تفضي إلى شغف مدمر دائمًا. لطالما كان الدين شغفًا. اليوم نحن لا نستطيع النقاش مع رجال الدين، أقول النقاش وأعني به تبادل الأفكار المتضادة. لا أستطيع اليوم مثلًا أن أجلس في مقهى وأسأل شيخًا في ما لو كان القرآن الكريم قد أنًزل أم كُتب. سيترك المقهى فورًا. لا نقاش إذن في النتيجة.
* أو تظن أن الرواية، من خلال الكتابة، يمكن ان تؤدي دورًا وقائيًا لمواجهة الإرهاب أو العنصرية؟
تؤدي الرواية دورًا صغيرًا جدًا، ليس أساسيًا في نهاية المطاف. لا تغير الرواية المجتمع، لكنها تساهم ربما في رؤية الأمور بطريقة مختلفة لعلها تدفع إلى التفكير، إذ إنها مقروءة.
* وماذا عن الكتب التربوية؟
نعم، تؤدي دورًا.
* والكتابة عموماً؟
نعم بالطبع يمكن أن تساعد وتؤدي دورًا.
* لكن، هذا الوضع، ألا تظن أن الهويات “المختلطة” ثمرة عصرنا، عصر الهجرة والعولمة؟
ماذا تقصدين بالهويات المختلطة؟
* كأن يكون المرء مسلمًا وفرنسيًا مهاجرًا مثلًا.
لا لا يمكن بسط الأمر على هذا النحو، بسبب بعض المهاجرين في فرنسا أو غيرها، فالعالم كله يهاجر ويتحرك. لطالما هاجر الناس، إلا أننا ننسى. الفرق أن الاتصالات اليوم أسهل، حتى التجارة اليوم، تتم عبر الإنترنت، لقد تغير الإيقاع، لم يعد للزمن الإيقاع ذاته الذي كان. في الماضي، كان الذهاب إلى مكة بامتطاء جمل مثلًا يستغرق ربما ثلاثة أشهر، اليوم يتم الأمر بثلاث ساعات. تغير الزمن، وهذا ما أدى إلى اختلاط الناس. لكن لا تظني أنه لأن الناس يأتون عندك فأنك ستتشربين ثقافتهم تلقائيًا. يصل مصر ملايين السواح، أيغير هذا شيئًا؟
* لم أقصد السواح بل المهاجرين.
تقصدين “المهجّرين”، أهل الاغتراب والرحيل عن الوطن. من الذي يهاجر؟ من الذي يرحل عن وطنه؟ العمال الذين لم يتموا غالبًا تعليمهم، لم يذهبوا إلى المدرسة، لم ينالوا نصيبًا من التعليم، وتم إفقار ثقافتهم وإضعافها. هم يهاجرون في ظروف صعبة، ولا يستطيعون الاندماج، لا يشعرون أنهم في بيتهم مطلقًا، يحنون إلى أوطانهم. هذا ما عنيته حين قلت إن لا تبادلًا أو تفاعلًا في الواقع، خصوصًا لدى جيل الستينيات والسبعينيات، لا لا يوجد اختلاط يؤدي إلى تجانس. ربما تسمح الموسيقى والرقص بقليل من الاختلاط والتبادل، وربما السينما وإن بصورة أقل. أما الادب فلا يؤثر إلا قليلًا، خاصة وأن الشباب اليوم لا يقرأون. الرحيل عن الوطن، لحظة محنة، فالناس تهاجر كي تنجو، كي تجد عملًا.
* منذ فترة بسيطة صرت عضوًا في “مؤسسة إسلام فرنسا”، أهو جانب المثقف الملتزم لديك؟
صدقًا لا أعرف ماهية هذه المؤسسة رغم أنني عضو فيها. عما قريب سنجتمع، وعندها سأعرف أكثر.
* كيف تم اختيارك؟
كتبت مقالًا في جريدة “لوموند”، أثار ضجة كبرى. إذ طلبت فيه من المسلمين في فرنسا أن يكفوا عن التذمر. كتبته تحديدًا بعد الاعتداء في نيس وذبح الكاهن الفرنسي المسكين.
ضقت ذرعًا من الذين يقولون الإسلام براء من ذلك ولا يفعلون شيئًا، ودعوتهم للنزول إلى الشارع والتظاهر ضد ما يحصل. كنت قاسيًا جدًا في المقال، تمت إعادة نشره واقتباسه في منابر عديدة. بعد ذاك اتصل بي وزير الداخلية وطب لقائي، ذهبت وتناقشنا، وعرض علي الأمر. لكن “مؤسسة إسلام فرنسا” ليست جديدة، بل تم انشاؤها عام 2005. كانت مؤسسة
“نائمة” هادئة. الآن يريدون “إيقاظها” سنرى ما سيحدث.
* في روايتك الأخيرة “زواج المتعة” هل استعملت الحب ذريعة لانتقاد الزواج التقليدي والعنصرية؟
آه هذا مثال عن رواية تعيد التوازن، الرواية قصة حب جميلة، لكنها في الآن نفسه قصة حب تضع الإصبع وتشير إلى أمور لطالما صدمتني بشكل شخصي: احتقار ذوي البشرة السوداء في المجتمع المغربي. يذكرني ذلك باحتقارهم في الولايات المتحدة الأميركية، كانوا العبيد وقتها. الأمر عينه حاصل في المجتمع العربي. انطلقت في كتابة هذه الرواية مما شاهدته في الشارع: كنت أرى هؤلاء المساكين، لائبون في الشوارع. لديهم ملكات هم ليسوا متسولين. يبحثون عن العمل، عن أي عمل، أي شيء.
* يحلمون بالهجرة إلى أوروبا
نعم صحيح. احتال عليهم نصابون، لذا تجدينهم في الطرقات، مجردين من كل شيء. لحسن الحظ أن الملك محمد السادس، نظم أوضاع عشرين ألفًا منهم. بيد أني كنت أقول لنفسي وأنا أشاهدهم، كم الأمر سيء حين يكون المرء من ذوي البشرة السوداء في مجتمعنا. مصيبة، أن يكون المرء أسودًا وفقيرًا ومهاجرًا منفيًا، إنها عقوبة مزدوجة. هذه كانت نقطة انطلاق الرواية، لذا فكرت أن أرويها بشكل جميل، أن أقص رواية جميلة، لذا بدأت بقصة الحب.
* في الرواية أيضا متلازمة داون؟
إنه ابني أمين. منذ زمن وهو يقول لي: ألن تكتب شيئًا عني؟ كتبتُ أولًا نصاً مطولاً عنه، لكنه أراد أن يكون في رواية، شخصية في رواية. أراد أن يكون شخصية روائية، فوضعته في الرواية، وهو الآن سعيد جداً بذلك. ابني لا يقرأ، أعني أنه لا يقدر أن يجد العلاقة بين الكلمات، بيد أنه استثنائي، لديه مواهب كثيرة: هو بطل في السباحة، وعازف بيانو، معتمد على نفسه، إذ إنه يعمل، وهو أيضًا عاشق. ابني مليء بالمواهب، أمر يفوق الوصف. وصديقته مثله لديها متلازمة داون، لكنها تقرأ وتتكلم بطلاقة مثلي ومثلك. ذاك النهار كانت تناقشني عن الفيلسوف الأندلسي موسى بن ميمون. أين “إعاقتها” إذن؟. صحيح أن ابني لا يستطيع النقاش مثلها لكن لديه مواهب أخرى، فقد كاد أن يمثل فرنسا في بطولة للسباحة في مكسيكو منذ عامين. كل واحد من الذين لديهم متلازمة داون، عنده “إعاقة” مختلفة. بيد أنهم جميعًا يشتركون بأمر واحد: هم فائقو اللطف، هم ملائكة. لا يعرف ابني ما هو الشر، لذا أخاف عليه، أخاف على كل أولادنا الذين يشبهونه، لأننا نعيش في عالم شرير.
* “الشرارة، ثورات في العالم لعربي”، هو كتابك عن الربيع العربي، فيه وقفت إلى جانب المثقفين العرب، إذ تعرضوا للسجن والنفي والتعذيب والقتل، أكان “تلك العتمة الباهرة” حاضرًا في ذهنك حين كتبت عن الربيع العربي؟
حين كتبته، دخلت إلى عقل حسني مبارك وزين العابدين بن علي، حاولت أن أفهم، لماذا لم يفهم هؤلاء أن الحكم يعني المشاركة؟ وأن الحاكم يكون في خدمة الشعب لا مصالحه الشخصية. أثناء تأليفه كتبت كتابًا آخر عنوانه “بالنار”.
* كتابك عن محمد بوعزيزي؟
تمامًا. إنه كتاب تخييلي، روائي. فمن دون أسمي بوعزيزي، أرويه. لقد دخلت إلى عقل هذا الشاب وبنيت حياته التي لم يعشها، لأنني تخيلتها. إنه نص أدبي قصير، وتم اقتباسه للمسرح ونشر كاملاً في جريدة “النيوركر” وقرأه مليون شخص. إنه نص أدبي، وهو في رأيي يعبر بشكل أفضل عن بداية الربيع العربي، عن تلك الشرارة. فعالمنا العربي لم يحظَ بأي فرصة قط. لطالما حكمه المجرمون كصدام حسين والقذافي إلى آخر السبحة. أمر لا يصدق. إجرام غير مسبوق، أتساءل دائمًا، كيف يستطيع الطغاة النوم؟ كيف يصلون إلى هذا الدرك من العنف والتوحش تجاه الناس، لكأنهم جميعًا يريدون أن يكونوا هتلر أو ستالين.