هشام ناجح
“لقد كنّا جميعا، في صبانا، نغرد في مسرح كالعصافير فوق أكوام القاذورات؛ فلما بلغنا الأربعين، أصبحنا عجائز وأخذنا نفكر في الموت…
فيا لنا من أبطال رائعين!”
تشيخوف
سيول المدينة تبدو منسابة لهجعتها القائظة كأنها خارجة للتو من حرب أهلية، أو لنقل: إنها حرب العصابات؛ مادام الأمر يتعلق بتربص غريمي بالشكل المنطوي على عنصر المفاجأة والمباغتة.
أفتح النافذة المطلة على شارع موبيك لأتحسس بعض الكتل الرطبة، الهاربة للتو من نهر لادور، لم يكن في الحسبان أنني سآتي، وألتقي بي في سن الثمانين، وبالضبط في 14 يوليوز 2053، أو أطل على ما تبقى مني، حتى فعل (أتى) ينسجم مع الغياب في اللحظات التي يشكل فيها الحضور ثقلا أو فقدا للأحاسيس، وينتهي دور النص اللامكاني، لهذا أضفت الفعل الثاني (طل) بغية شحن بطارية الذاكرة البصرية، وعجن ما فضل من الصور بالتنبؤات.
كانت نغمات التيار المرجوة تستسلم هي الأخرى لنوبات الحر الحادة المدججة بصورها السرابية، وأشكالها الهلامية. أحيد جانبا دون وعي مني، لا أعتقد أنها ستدخل من النافذة، لكنها قادرة على زحزحة العالم، وإعادة صياغته بالشكل الذي ترغب فيه، أو أنها مجرد أوهام لرجل عاش مآس شخصية يمكنها أن تطرق باب ذاكرته، وترجرج استبطاناته، هذا إن لم تدعه إلى الحس الداني من احتمال وشيك يزلزل اللحظة، أو يخرج هذا الطرق من جيب الانغمارات، مشكلا صورة مادية يتلقفها السمع كمنبهات تكرسها لبداية بناء عنصر المباغتة. رغم ذلك أشك أن ثمة طقطقة على الباب، أفصل أذني عن دائرة الأصوات، مائلا عن النقطة المنصبة على غرزها، بالفعل تتناهى إلى سمعي طرقات الباب بطرق متواصل، كان في البداية عبارة عن دبيب لكنه الآن يبدو واضحا.. الغريب في الأمر؛ أنه لا أحد يجرؤ على الاقتراب من العمارة و بالأحرى من باب شقتي وهذه قصة أخرى: منذ أن غادرت بيت زوجتي، وأصبحت تفكر بإلحاح شديد في الطلاق، بدعوى أنني لا أصلح أن أكون الزوج المثالي، أو المقبول في المستوى الداني للانسجام مع قناعاتها الرومانسية؛ مثلا أقتل رغبتها حين تسألني عن القمر عندما يصبح بدرا، أجيبها بدمدمة، متطلعا إلى القمر بشكل عاد: لا يدخل ضمن الحيز المتعلق بزواجنا، أو حين تقدم لي زهرة كلفت نفسها الوقوف على مقدمة أصابعها لقطفها. أنظر إليها كأنها لا تعنيني، فأنا أعشق الأشجار، وفي غفلة منها أتخلص من هذه الزهرة التي تؤجج نيراني الداخلية، كأنني أحمل لغما، أو حالما تنظر بعين العطف إلى كلب في الطريق، فتمسح على وبره بيدها، لحظتها تنعتني بأنني صخرة لا تحركها العواطف، رادفة:
” لا يمكن أن أعيش مع رجل ميت فقد كل حواسه”.
توصلنا إلى حل الطلاق الذي كان بالنسبة لكل واحد منا رؤية تحررية جديدة، وهروبا من كل دواعي الوصايات، والبعد حتى عن الإفرازات التي يفرزها الجسد في لحظة الانغمارات والدبيب الكهربائي الكوني، فقد كنت مضطرا إلى كراء شقة في هذه العمارة المسعفة لجيبي المهترئ؛ شقة غير مرغوب فيها ككل شقق العمارة، وهذا يمكن تبريره لما تحمله من مفاجآت ليلية على شاكلة قناة مختصة في أفلام الرعب.. تتعدد الحلقات والأصوات في كل ليلة، قد تكون حلقة الليلة؛ أصوات البوم بتلك التصورات الذهنية المقيتة المنذورة لقدر سابق قد حسم من قبل في حنايا الطفولة المعطوبة، مع العلم أن البوم يسكن الخلاء حتما، وينسجم مع هذه القناعات، أو تلك العزلة الانفرادية التي تبقي العالم على حاله، أما الليلة الفائتة فكانت حلقة صيحات فتاة تنادي أمي.. أميييييييي.. كأنها محشوة في بئر سحيقة، خاصة عندما يمتزج هذا الصوت مع هبوب الرياح، وقعقعات حديدية منسوجة بغلظة لا ترحم.
أفتح الباب بنوع من الحزم المكتسب، المطبوع بفتح العينين أكثر، مع كرمشة الأنف، والتطلع من فوق إلى تحت. الطارق يدمدم ويهمهم كمن يرغب في استعارة شيء ما، لا يمكن أن يسلك مسافة طويلة لشرائه. الكلمة الأخيرة من الدمدمة أو الهمهمة أضفت الصبغة الخاصة على وحدة الموضوع حين ينصب بصر الطارق على البيت، أو يتطلع بحركة من كتفيه تنم عن الفكرة الممزوجة بالثنائية في فهم حالتنا معا:
ــ هل ستكون أداة لإعادة التاريخ، وتتغافل، وتتصامم، وتتعامى، كما فعل ذلك الأعرابي مع طارق بابه، وتؤكد لو أني أخرج من جلدي ما عرفتني؟
أفتش في جيبي عن لاشيء، كأنني أرغب في مهادنة الوقت، مجيلا النظر، مستشعرا هذه الصور الحية المحمولة على جسد متماسك، بالرغم من تلك التغضنات المكشوفة على وجهه، المنسجمة مع العينين الضيقتين الموغلتين في الوقاحة، أو الشفاه المتدلية المستعدة لقول عبارات خارج جادة الصواب، المزعزعة لشروط الشيخوخة المتعبة كالتأوهات المثيرة للشفقة، والانسجام مع مقولات روحية مفعمة بالتوسلات، والتكاليف الملفوفة في كلمة الطاعة قبل أن نمضي إلى العتمة الكبرى.
انقطعت كل هذه الصور بعد أن رفع منسأته لاطما الغشاء الحديدي للمصباح الوحيد المنير على ما تبقى منا. تناثر الغبار مشكلا وجهات نحو كل الكوات المشمسة، وذرع إلى وسط البيت. لم أكن أعلم أن الصورة العالقة في الوسط ستثير حنقه، ويشرع في تكسيرها، بل والدوس عليها بتشف مترذل، صائحا بعنف:
ما هذا التاريخ المبتذل؟
تصنع جلسة قائد حربي قارعا بانتظام بمنسأته على الأرض:
“اسمع أيها الوغد، لا يمكن أن نتحدث عنا قبل اليوم، على أساس أن الماضي لا يولد سوى العذابات، دع عنك تلك القصص الممهورة بالوشم في السعير بشخوصها المخاتلين التافهين الذين لم يؤشروا عليك بأحقية التنويعات التي تتطلبها الرؤى المستقبلية، لهذا فقدومي هذا ليس بدافع الرغبة في زيارتك في يومك هذا، لكن ثمة مناورات تفرضها الترتيبات والايعازات المتطابقة مع مشاعري، أقصد دوافعي حين أبادر إلى القتل بدم بارد، لا يمكن أن أحصي لك عدد القتلى خلال السنين الآتية، فأنا من هواة جمع الجماجم، لأبني بها جبلي الخاص من المجد. الأدب لا يكتب بالعواطف يكتب بالدم.. أنت تذكرني بذاك الشاعر التافه في إحدى قصص إدوارد رادزينسكي المدعو داتو، حين أجهز ستالين على كل الشعراء الجورجيين ضد ثورته ماعدا هذا الشاعرالتافه، لم ترق قصائده إلى الخوف على الثورة منه، فحاول مرارا أن يزعزع جبروت ستالين، وبعد يأسه فكر في حرق المرحلة بالذهاب بسلاحه ممتطيا حصانه وهو يقرع ساحة تبليسي المبلطة؛ مزهوا بنفسه كأنه في حضرة نشيد بروسي، لكن الكل كان يتهكم ويقهقه، فقد ترسخ في الأذهان لقب الشاعر التافه.
هذا ما أود أن أشير إليه: الكاتب الذي لا يملك مسدسا واستراتيجية للقتل بدم بارد، ويعجل بقدر ضحاياه نحو بناء جبله الخاص، لا يجسد القيمة الحقيقية للذكرى..للذكرى.. للذكرى..”
كانت كلمة الذكرى تتردد في سمعي كطلقة من مسدس أزلي. أحاول جذب ما تبقى من الكتل الرطبة من نهر لادور لأتخلص من عرق الاحتضار. حين رفعت بصري، تناثر في ألوان مفرقعات الاحتفال الوطني يوم 14 يوليوز؛ مشكلا جبلا من الجماجم.
نهر لادور: نهر يمر وسط مدينة بايون الفرنسية.