الدكتور رشيد طلبي
* إضاءة وتنوير:
يُعدُّ الشّاعر “محمد هشام” من الأصوات الشعرية المغربية المعاصرة التي حاولت أن تجد لَهَا موطئ قدمٍ على مساحة القول الشعري المكتوب بلغة “بودلير”. ليفتَرِع له، بذلك، سبيلا شعريا متفرّداً، سواء على مستوى اللغة الشعرية، أو الإيقاع، أو الصورة الشعرية أو رؤية العالم والوجود، فِي أُفُق ضخِّ دماء جديدة في المشهد الشعري المغربي والغربي والإنساني.
ومنذُ سنة 2013، انفتح على عالم النشر، فكان عملهُ الأول الموسوم ب: “Les larmes des chrysalides” (دموع شرنقات)، وهو ديوان شعري صدر عن المطبعة والورّاقة الوطنية بمراكش، في (86) صفحة، ويضُمُّ بين دفتيه (24) قصيدة. يقولُ عنه الشاعر نفسه في المقدمة: “إنّهُ مرْآةٌ مُرتعِشَةٌ، تتداخَلُ فِيها مُختلِف الوُجوهِ المُضطرِبةِ ل”هي” (أي المرأة)[1]، حَيْثُ تأْتِي تارةً مُقنّعة، وتارةً أُخْرَى واضِحَة، بائِعَة للهَوى أو فارِسَة (مغوارة)، وَطناً بغِيضاً أو أرضا منْسِيّةً. إنّهَا بالنّسْبَة لِي، كل مَا يَتعَارضُ مع هذا الإحْسَاسِ الطّبِيعيّ، الراّئع والمُتطرّف، الذي يُمْكنُ أنْ يتملّكَهُ كل منَ المرأةِ والرّجُل، أو بِالأَحْرَى، يُمْكِنُ، بِواسِطَتِهِ، أَنْ يَكونَا مَمْلُوكَيْنِ لَهُ (بشكل من الأشكال)”[2].
وفي سنة 2020، وعلى الرّغم من جائحة كرونا، أبى الشاعر “محمد هشام” إلاّ أن يتقاسَمَ معنا رؤيته الشعرية، التي أسّسَ لَها منذُ ديوانه الأول، بديوان ثانٍ، موسوم ب: “Attends-moi au sommet pour te dire” (انتظرنِي على القمّة لأقُولَ لك)، ليرفع عقيرته بالغناء للوجود الشعري والإنساني. وهو ديوان من منشورات دار القلم بالرباط. ولوحة الغلاف للمفن التشكيلي المغربي “”محمد الهواري”. ويضم أربع قصائد طويلة وهي: “اقطف هذه الزهرة” و”غَنِّ، أنت الذي لا تُغنِّي” و”تَفَاهُم” و”شُكرا، دَوَرَانُ الشَّمْس”. وسنحاول في هذا السيّاق، أن نضع له ترجمة لمقدمة هذا الديوان، وهي مقدمة نقدية تحليلية، تفضّل بها الشاعر المغربي “حميد عدنان”.
*أغنية الوجود الشعري والإنساني[3]:
يُعدُّ “انتظرني على القمّة لأقولَ لك“، عملاً يروي عطشَ الأرواح التوّاقَةِ إلى الجمالِ العُذْرِي والأبدي. عملا يسْعَى إلى افتِرَاع مَسارٍ مُفيدٍ للنفوسِ المفقُودة، والتِي تبحَثُ عن تصحيح نظْرَتِها. إنه عمل يدعُو إلى الظَفَر بورود السّعادة والغناء على هذه الأرْض. وهنا، يُحاولُ الشّاعر أن يثير تيمتيْ اليُتم ووحدة الوجود، علاوة على إثارة الرموزِ الأسطورية المُعبّرةِ، التِي وظّفهَا لنتاج الاستعارات والصور الشّعْرية الأصيلة، الملائمة لسياقهِ الشّعْري. فالأسطورة، لم تكن منتهاه، بل وسيلة لتشكيل قول شعري تراثي قريب من الشخصية الإنسانية التي تمنح للكلمات قوة بداياتها، بهدفِ إعادةِ التّواصُلِ مع أصالة الكون، وطفولة العالم. وتسعى هذه الغنائية، أنشودة اليُتم، إلى تطهير الكائن الإنساني، وتطهير نظرته للعالم، كما تجعلُ من فعل الحُبِّ، في صيغته العامة، طقساً للنّقَاء ووحدة الأرواح.
فالقمّة، هي المكان الذي تلقّى فيه “موسى” الوحي، ليبلّغه لباقي البشر. وهي أيضا مكان اصطفاء الرسل والأنبياء، وكل من أرادَ أنْ يعلُوَ على هذه الأرض، إنها دلالة العظمة والرّفْعَة والرّقيّ الرّوحِي والمُصالحة مع الطهارة والنّقَاء. هذه من بين بعضِ الرّسائِلِ التي نبَشَ فيها الشاعر، “محمد هشام”، بِعُمْقٍ، من خلال هذا العمل. لقد دافع الشاعر عنْ مُعاناة الإنسان دون جراح، أوندمِ أو رغبة فاسدة أو صراع عنيفٍ ومَجّانيّ. لقد دعانا، من خلال هذا، إلى الإنصات للعالم، وتشمُّمِهِ، ورؤيته، وملامسته، وخلخته أيضاً.
إنّ الطّبيعة، قبل كل شيء، كتابٌ مفتُوحٌ تسمح للشّاعر بتحقيق طمُوحة وآماله. إنّها فضاءٌ للاِنشِراح والتعاطُفِ والتّواصُل الشاعري. إنّها مصدر، لا ينْضُبُ، لمنْ يتطلّعُونَ لفن العيش والوجود. لذلك، ينبغي أن تَكُونَ (أي الطبيعة) مبراساً للإنسانية، المبراس الذي يقُودُ، حقيقة، إلى الإنسان.
تتواشجُ العديد من الاستعارات، فيما بينها، في هذا الوسط المُفْعَمِ بالحياة والسّعَادة. الاستعارات التِي تحفُرُ أخاديدها في النص، مسرى الخيوط الذهبية المطروحة على الفضاء الشعري وفضاء الورقة الذي تتناغمُ فيه الكلمات، ليصبح، هذا العمل، قابلا لتواصل الإنسان والأرض والتمثل الملموس للمجهود المادّي والثقافي المفضي إلى العمل، في صيغته الحقيقية، وليس ترنيمة ذاتية وحسب.
إن الكتابات التي تعبر عن الغنائية، والتي تخترقُ شبكة التواصُل اليومي، تنحو نحو الخُلُود، كما تنفلتُ من قبضة الزمنية، والتخصصية العلمية، حينما نُفكِّرُ، في بعض نصوص “Ronsard” (رونسار) أو”Baudlaire” (بودلير). إن هذه الكتابات، هي دعوة لمعانقة حقائق أخرى، وعواطف أخرى، ومثالية معينة. كما تدعو القارئ إلى التفاعل والتموقع، والتخلص من بعض الأشياء، لاستقبال أشياء أخرى أكثر قيمة، كمكافأة له. إنّهَا تُشيرُ إلى توجيه النّظَر، وتمنحُ وعودا، وتدلُّ على الغنى الملقى، في دواخل غير معروفة، للإنسان.
إن العمل الأصيل، إذن، يُصبحُ نموذَجاً شعريا. هذا الأخيرُ، مثل وردة، يتضوّعُ جمالها على الكل. إنه هبةٌ. بل مكانُ الاستشفاء الذي نتعلّمُ فيه أقانيم السّخاء.
إن الرّقيّ، المُشار إليه في بداية هذا الموضوع، لا يمكنُ أن يتحقّقَ إلا من خلال قطيعة مع العالم. بداية؛ قطيعة رمزية مع الكلمات اليومية التي تُعيقُ الخلاص الداخلي. وقطيعة وجودية مع الإنسان المعيق للحكمة والسلام، والذي يستكينُ للحقيقة الوهمية.
إنه، من خلال الحرية والغناء، يستطيعُ الإنسان الانفلات من قبضة المجتمع، ليتمتّعَ بلحظات وجودية متميزة، وأوقات فجرية وغسقية هاربة بالإنسان المفتون بنمطية الحياة.
إن الشاعر، هنا، يدعونا إلى التغلُّبِ على العقبات والأوهام والصرعات، من خلال الأفعال النبيلة والمقدَّسَة التي تخترقُ التاريخ، وتعلمُ الحقائق للبشر. من خلال الإنسانية الحقيقة التي تسمُو بالإنسان إلى درجة الصراحة، والنصاعة التي تنيرُ مشكاته، وليس لصّاً للوضوح.
في خضم هذه المتعة، يضطلع الشاعر، وينبغي أن يضطلع، بصراع لا هوادة فيه، لذلك، يستعير مصطلحات وتعابير (بودلير). يقاوم كل ما يكبس على الأنفاس، ينسحبُ من العالم، دون نفيه له حقيقة. صوته من أعلى، لا ترتسمُ عليه معالم الغرور أو العجرفة. يسبرُ الأغوار. ينصتُ لكل أصواته، دون أن يلغي أي لون من ألوانه.
إن الأمر لا يتعلّقُ بانفلات، بل بمسعى تقديس قداسة القصيدة التي ترتسم على وجه الأرض.
إنّ الشّاعر/ الرجل مدعو، أمام المشهد العالمي، الذي تنعكس فيه الأدوار، وتلعبُ فيه الصّراعات حد اللاّمُنْتَهَى، ودون مَخْرَجٍ، إلى النظَر إلى مشهَدٍ آخَرَ، حيث يتَّضحُ كُلّ شيءٍ، المشهد الذي يتمُّ لعبُهُ على الرّكْحِ المفتوح على الطبيعة والشعر، وليسَ فضاءً مُغلَقاً، تسُودُ فيه الفردانية على حساب الكونية، أو البشاعة على حساب الجمال، أو الكلام المنفعل والعنيف على حساب الكلام الزاخر والمبهج.
إنّ العمل الشعري، للشّاعر “محمد هشام”، يُحذِّرُ، أيضاً، من الموت وانفلات الزمن. لكنّ الموت، هنَا، يُصبِحُ لحظةً للتّفْكِيرِ، تجربةً وُجودية تُربِكُ الإنسان، وتحثُّهُ على الوعي بتقلُّبات الحياة، خصوصا أنّه حتمية (وجودية)[4] تضعُ الإنسان موضع تساؤل، حيث تتجلّى في هذه اللحظة النهائيّة حقيقة الكائن الإنساني. بذلك، يمنحُ الموتُ قيمة للغنائية الشعرية، ويُشْبِعُها حتى يُصبِحَ الكلام الإنساني ناصعاً (لا غبش فيه)[5].
تكشِفُ ازدواجية؛ الحقيقة والزّيف، المقدّس والمُدنّس، الأزلي واللحظي، الواضع والمُقنّع، الرغيد والمعاناة، الابتسامة والرّعب، الشغف والإغراء، عن إرادة قوية لشاعرنا، إرادة ترسمُ خطا منيعاً بين ما يحظُّ من قيمة الإنسان وما يسمُوبه.
هنا، يصبِحُ “الحبُّ”، مغنيا وساحراً وشاعراً ورسولاً ومنْقذاً. يعملُ كل ما فيه خير للبشرية، يروي جانبا منسيّاً لدى الإنسان، يرى الجوهر دون المظهر، يرفعُ شعار الوحدة، في وجه، تعددية العُنف والاختلاف. وَفق هذا السياق، يقول الشاعر:
“اِقْطِفْ هَذِه الزّهرةَ
وَانْثُرْهَا…
اُسْكُبْ، دمُوع اللَّيْلِ
فِي هَاوِيَة غَضَبِهِمْ
اِقْبِرِ الحُثَالَةَ
فِي مَقْبَرَةِ نِسْيَانِهم.
اِقْطِفْ هذهِ الزّهْرَةَ
وامْزُجِ ابْتِسامَتِكَ
معَ هذَا الرّبِيع
وَبَراءَاتِهِ…
ستُصْبِحُ أحمَر
قدْ تكونُ أزْرَقَ أوْ أصْفَر
قدْ تَكونُ جَمِيعَ الأَلْوانِ
ستُصْبِحُ الحُبَّ
الصِّيغَةَ المُخْتَصَرَةَ
الّتِي تَخْتَصِرُ الكَوْنَ”.
تتظافَرُ القيمُ الشّعريّةُ للتّأمُل، والقيم الأخلاقية لبذْرِهَا في عالمٍ أصبحَ ضحيّةً للمكر. “محمد هشام”، شاعر بصوت سامٍ، يغرفُ من مصادرَ طبيعية أكثر عُذُوبة، من إرثٍ إنساني أسطوري وتاريخي، من تجاربَ شخصية، وكيانات ينبغي الكشف عنهَا للإنسان الذي أصبح، اليوم، في حالة مزرية.
- هوامش:
[1]– ما يوجد بين قوسين من وضع المترجم.
[2]– محمد هشام؛ ديوان “دموع شرنقات”. المطبعة والوراقة الوطنية مراكش. ط1. 2013. ص7.
[3]– هذا العنوان من اقتراح المترجم.
[4] الموضوع بين قوسين من كلام المترجم.
[5]– الموضوع بين قوسين من كلام المترجم.