الرئيسية | حوار | الشاعرة مليكة معطاوي للموجة الأدب يعمل على ترسيخ القيم والمبادئ التي ترتكز عليها العلوم

الشاعرة مليكة معطاوي للموجة الأدب يعمل على ترسيخ القيم والمبادئ التي ترتكز عليها العلوم

حاورها عبد الواحد مفتاح

 

هذا الحوار ليس غير برهة للإنصات الهادر لأحد الأصوات الشعرية النسائية الهادئة والعميقة في آن. الشاعر مليكة المعطاوي وهي تفتح لنا هنا كوة للإطلالة على عالمها الداخلي، وأسئلتها الملحة، هنا تتخلي اليد الذي تكتب، إلى اليد التي تشير، اليد التي تشرح وتفصل وهي تحاور، وتتكشف، ليتبدى لنا ملامحها واضحة جلية، كتابتها كما حياتها، سفر حر في على أشرعة الإبداع ورياح مهاويه السحيقة، فهي شاعرة لا تلقي الكلام على عواهنه، كما لا تخفي تبرمها من الحوارات واللقاءات الثقافية المستهلكة، إلا أن لحظة الاقتناص هذه، جاءت ببوح ومكاشفة عن طرحاتها الأساسية كشاعرة، ومواقفها تجاه الكتابة والحياة.


-كبداية لهذا الحوار، ما فاتحة النص الذي ورطك في عالم الكتابة؟ خبرينا قليلا عن البدايات؟

الكتابة بالنسبة لي ليست ورطة، إنها متعة ومتنفّس وحياة أخرى خارج الحياة. منذ عرفت ملامح الحروف وأنا ألامسها بحبّ، وأحاول أن أعطيها شكلا من الأشكال المتميّزة، بعيدًا عن المعادلات والفرضيات والنظريات العلمية. لم تكن بيني وبين الكتب مسافات، نهلت من مشارب مختلفة فأدمنت القراءة منذ نعومة أظافري حتى أينعت سنابل الحرف في حقولي ونضجت ثمارها رويدًا رويدًا، وتدلّت رؤوسها تدريجيًا سردًا وشعرًا. كانت البداية مشاعر طفولية حاصرها الوجع فجأة، فانسابت صعودًا وانكسارًا،  لكن كلّ قصائدي الموالية كتبتها بلهفة البدايات الأولى، وكل قصيدة تكون بمثابة المرفأ الذي أستكين إليه في لحظة ما، فتعطيني الكثير من السعادة والأمل.

هل تختار القصيدة موعد ولادتها؟ وماذا عن طقوسك الكتابية ؟
القصيدة مشاعر متداخلة تداهم المبدع دون سابق إنذار، تقتحم عوالمه الخفية وتتبلور عبر تفاعلات كيماوية يؤجّجها موقف أو حدث أو إنسان، فلا تخمد في حالتي إلا عندما يسدل الليل ستائره فأرتدي إكليل التجلّي وأتسلّل نحو البياضات المتولّدة في خبايا الروح، حيث تشتعل الذاكرة وتترصّد محطّات العمر، فأكتبني بدمي أخلّد حرائق بلا دخان.

لابدّ من صمت مهيب يملأ أرجاء البيت والكيان، ويتناسل في النبض ليوقظ حرارة الوجدان فتتلألأ حروف القصيد وتنساب سكرى كالعباب.

-في منظورك ما وظيفة الشاعر اليوم؟

للشاعر وظيفة فكرية واجتماعية ونفسية تتحدّد بحسب خلفياته الثقافية، وتتغيّر بحسب تغيّر الظروف السوسيوثقافية المحيطة به، وبما أن العالم اليوم أصبح خاضعًا  لضوابط تقنية  ولعناصر اقتصادية وسياسية لا يعدّ الشعر أحد أركانها، فإن المهمة الملقاة على عاتق الشاعر أصبحت أكثر ثقلا إذ إنه مطالب برفع تحدّيات كثيرة من ضمنها إيجاد مكان في مساحة مليئة بالألغام ومهدّدة بالانفجار التكنولوجي الذي يساهم في تكريس الرداءة في وسط لا يقرأ، ويعدّ الشعر آخر اهتماماته، باستثناء فئة قليلة تحفر في الصخر.

أعتقد أن الشاعر لكي يقول كلمته ولا يمضي، عليه أن يدرك حقيقة الأوضاع الاجتماعية وأن يعي التناقضات والعوامل الديناميكية التي تتفاعل داخل المجتمع الإنساني والأحداث والمؤثرات التي تحرّك التاريخ فيصوغ من خلالها شعره متوخيّا الصدق مع نفسه ومع الناس عبر تناول قضاياهم الأساس لأنها هي العنصر الحيّ الذي تقوم عليه أسس الطبقات المتلاحقة في الحياة، والتي من واجبه أن يرتقي بها لمواجهة كلّ ظلم أو طغيان، وللاحتفاء بكلّ فرح أو انتصار، ذلك أن الشاعر يستطيع أن يكون حكيمًا وفيلسوفًا يحمل رسالة إنسانية في كلّ أبعادها التي تتجلّى في تهذيب النفس وإنارة العقل وتحقيق المتعة وتعميق الإحساس بالجمال مع الحفاظ على اللغة والاحتفاء بها.

 –ماذا عن الشيء الأكثر حضورا في ذاكرة الشاعرة؟ أين يكمن المحظور -الذي ليس بمقدور الشاعرة الاقتراب منه؟

أربعة جدران وباب مغلق في الطابق الرابع من العمر، وسيدة حزينة تقبع في الركن وتنتفض كلّما خربش بالباب قطّ.. على طاولتها أقلام كثيرة وأوراق مبعثرة تكلّمها تارة برفق، وتصرخ في بياضاتها تارات أخرى حتى تسودّ. ذاكرة مثخنة بالظلّ تستفيق من غفوتها كلّما هبّت عاصفة ماردة عاتية، فيتناثر غبارها في مساقط الكتابة كلّها بكلّ عفوية. لا شيء يكبح جماح القلم كلّما فاض القلب وتدفّقت مشاعره في اتجاهات كثيرة، قد تتعثّر في جلمود أو قشّ حملته من بعيد تيارات مختلفة، لكن القلم يرفع دائمًا سواعده تمجيدًا للإبداع الحرّ، فلا أدب، ولا شعر بالخصوص، بدون حرّية تحمل في طيّاتها أكثر المضامين الإنسانية روعة وجمالاً.

من مِن الشعراء ارتبطت بهم وجدانيا، في رحلتك مع الحرف ؟ وهل الشاعر بالنهاية هو محصلة قراءات؟

أعتقد أن لكلّ شاعر تجربته الشخصية، بل عليه أن يعمل من أجل أن تكون كذلك لأن الشعر فكر وشعور ينبع من الوجدان إن كان صادقًا وحرّا، مع العلم أن لكل شاعر خباياه وقضاياه التي تحرّك داخله الأنهار وتدغدغ الأحلام. صحيح أنه (ما الأسد إلا مجموع الخراف التي افترسها) أي أن أيّ شاعر يحتاج إلى الاطلاع عن تجارب الآخرين وإلى ثقافة موسوعية تمكّنه من سبر أغوار الحياة الاجتماعية المحيطة به والتي تغذّي خياله الذي يعذ من أهمّ مكوّنات القصيدة،  لكن لابدّ لكلّ مبدع من أسلوبه ولغته وثقافته، إضافة إلى تلك الأشياء الصغيرة المنسية في الذاكرة، لكنها جاهزة كي تستعيد فاعليتها وقدرتها على التأثير في الإبداع، ذلك أن التمثلات الخفية هي التي تتحكّم في تخيّلاتنا، وتصنع عوالمنا الشعرية.

 من هنا أعترف أنني قرأت للكثيرين قدماء ومعاصرين لكنني لم أرتبط وجدانيًا بشاعر معيّن بل ارتبطت بنصوص مختلفة من هنا وهناك تتماشى وحمولتي الفكرية وبنيتي الذهنية، لكن كلّ قصيدة احترقت  كي تولد، هي تجربة خاصّة  ناتجة عن معاناة خاصّة أو محاكاة لواقع أو تحليق بأجنحة الخيال.

-درست الاقتصاد والرياضيات في الجامعة رفقة الأدب، إنه أمر نادر أن نجد شاعر ليست مرجعيته الدراسية كاملة أدبية، كيف وفقت بين المسارين؟

درست في البداية الرياضيات لكنني لم أنقطع أبدًا عن الأدب ومتابعة مستجدّاته وممارسته قراءة وكتابة، لشغفي باللغة العربية وآدابها  وبالشعر تحديدًا، ولإيماني بأن الشاعر لا بدّ أن تكون ثقافته واسعة تمكنّه من الخوض في عمق الأشياء بكلّ أدوات وآليات البحث الممكنة، الأمر الذي دفعني بعد تخرجي من كلية العلوم بأكثر من ستّ سنوات إلى رفع التحدّي وأخذ قرار متابعة الدراسة في الوقت نفسه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، وبكلية العلوم القانونية والاقتصادية، ولعلّ الدوافع كانت قويّة والرغبة كانت أقوى مع وجود العزيمة والقدرة على مواكبة مجالات هي في العمق متداخلة ويكمّل بعضها البعض ذلك أن (الأدب يعمل على ترسيخ القيم والمبادئ التي ترتكز عليها العلوم، التي تشكّل أسس تطّوّر العالم على جميع المستويات، على اعتبار أن هناك لقاء حميماً بين العلم والأدب على مستوى الفكر وعلى مستوى الواقع، ذلك أن العلم ليس نسقاً واحداً ووحيداً، بل هو ظاهرة اجتماعية متغيّرة عبر التاريخ الإنساني، وتحكمها عوامل خارجية ثقافية وحضارية وإيديولوجية، ممّا يعني ضرورة البحث في سائر أبعاد علاقة العلم بالمجتمع، بواسطة الأدب الذي يسعى إلى المعالجة الشاملة لمعايير السلوك العلمي، وقيم الممارسة العلمية التي هي عصب التقدم الحضاري الراهن، والتي لابدّ أن ترسو على أسس متينة تنضوي تحت منظومة قيمية ونسق أخلاقي متعارف عليه، ذلك أن كل شخص في المجتمع يتوفّر على حسّ مشترك بالخلق العام الذي يتألف من قيم ومبادئ وواجبات والتزامات يستقيها الفرد، منذ نعومة أظافره، من مصادر مختلفة قريبة منه على رأسها الأسرة والمدرسة ثم الجامعة التي يتبلور فيها دور تدريس الأدب في بناء الشخصية، والعمل على الإحاطة بالظاهرة العلمية بسائر أبعادها حيث يحتاج الناس إلى التثقيف في شأن التطوّرات العلمية والاقتصادية والسياسية، كما يحتاجون إلى الحماية من مخاطر العلم التافه والمعلومات الخاطئة، وهذا لن يتأتّى إلا عن طريق تدريس الأدب الذي ينمّي الفكر النقدي، والحسّ المدني، ويعمل على اكتساب الفرد لوسائل حسن الاستدلال التي تجنّبه الانزلاق في مهاوي الجهل)[1].

) مقال لي بعنوان “تدريس الأدب بجامعة المستقبل وجاذبية الانحدار” مجلة المجلة المصرية، عدد نوفمبر 2015.[1] (

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.