الرئيسية |
حوار |
الشاعرة أسماء الجلاصي للموجة: لا وظيفة للشاعر إلا كتابة الشعر.. والنقد اليوم لا يهتم بجوهر شعرية القصيدة
الشاعرة أسماء الجلاصي للموجة: لا وظيفة للشاعر إلا كتابة الشعر.. والنقد اليوم لا يهتم بجوهر شعرية القصيدة
حاورها عبد الواحد مفتاح
تعتبر أسماء الجلاصي، إحدى الشاعرات القليلات اللواتي استطعن أن يصنعن لقصائدهن تصنيفية خاصة، خارج معايير الأدب النسائي، الذي طالما احتمت به عديدات، فهذه الشاعرة وفرادة أسلوبها وشاغلها، جعلها تتبوأ مكانة مرموقة وسط الأسماء الشعرية للحساسية الجديدة في القصيدة العربية المعاصرة، في تكسير للمتواضع عليه، وتجاوز لما صار شبه متعاقد عليه، أن هذه النخبة الصغيرة الطلائعية في الشعر تظل حكرا على الرجال لا غير.
أسماء الجلاصي شاعرة متميزة ومجددة على مستوى الأسلوب والتيمة، ما يجعلها أحد الشعراء الأكثر مقروئية، ومتابعة، وهو ما جعله يكون سببا لنفتح معها هذا الحوار: عن بعض القضايا المتعلقة بمنجزها الشعري، ورؤاها حول واقع الساحة الثقافية.
كبداية لهذا الحوار، ما فاتحة النص الذي ورطك في عالم الكتابة؟ خبرينا قليلا عن البدايات؟
البداية؟ كيف؟ متى؟ في الحقيقة ليس هناك طريقة أو تاريخ محدّد ودقيق لها فمازال قلق المحاولة يرافقني كلّما شرعت في كتابة نص جديد، “ليس لنا سوى أن نبدأ” على حد تعبير الكاتب الايطالي تشيزاري بافيزي، واإن كانت هذه البداية تتماهى مع الولادة فإنّ ذلك لم يأت بشكل مفاجئ بل نتيجة لتراكمات وتأمل ونظر٬ إنها شبيهة بطفل بدأ النطق بعد فترة من الصمت والنظر والمراقبة ولا أحد ينكر أهمية مرحلة الطفولة بالنسبة للكاتب فهي مخزون خصب لطالما وُظِّف في الأعمال الأدبية و أعتقد أنّ لطفولتي أثرًا عميقًا في ما أكتبه اليوم ذلك أنني ما ان تعلّمت القراءة والكتابة حتى عكفت عليهما، كنت بارعة في تأليف قصص الأطفال حسب شهادة بعض المعلمين رغم أنه لم يكن هناك أي تشجيع منهم ومناهج التعليم بمختلف مستوياته لم تكن تهتم مطلقا بالكتابة والأدب… مع تقدمي في السنّ نما لدي وعي الكتابة أكثر خاصة وأن شعور القلق والغربة بدأ يخامرني مبكرا وسط عائلتي والمحيطين بي فكنت ألوذ بالعزلة، أمضي الساعات في غرفتي، أقرأ كل ما تقع عليه يدي من مكتبة بيتنا الصغيرة، هكذا بدأت أحاكي بعض الأدباء العرب في كتاباتهم كما كانت لدي محاولات باللغة الفرنسية والانجليزية، فاللغة هي الشيء الوحيد الذي منحه لي التعليم في تونس، دخلت من خلالها عالم الأدب العالمي والحق أنني لم أكن أنشر كتاباتي البتة، فقد كنت أتلف بعضها وأخبّئ بعضها الآخر ولا أعرف هل أن السبب في ذلك عدم اقتناعي بكونها تستحق النشر أم أنّني كنت أشعر أن مهمتها قد انتهت في تضميد جراحي مثلما كان بودلير يطعم قصائده للنار لأنه كان يعتقد أنها ليست أكثر من بلسم لجراحه.. شيئا فشيئا تورطت أكثر في بحر الكتابة ووجدت نفسي أجذّف ملء ذراعي في هذا القارب/ القصيدة خشية الغرق و أملا في الوصول.
– هل تختار القصيدة موعد ولادتها ؟ وماذا عن طقوسك الكتابية ؟
أنا أؤمن بأن الشعر ليس وحيا يوحى من السماء بل هو انعكاس للعقل الباطن للشاعر وهو نتاج لتأملاته وأفكاره وثقافته وصورة لمشاعره وحالاته المتعددة التي يعيشها، لكنني لا أحب الطريقة التي تضعني في قالب٬ أحب العفوية في الكتابة٬ يمكنني أن أدوّن نصا على هاتفي في المترو أو على دفتر في شرفة بيتي أو على جهاز الحاسوب وأنا أتصفح الفيسبوك.. لكن تلك العفوية يصاحبها قلق وخوف دائم..
لطالما تساءلت منذ أن وطئت قدماي أرض الكتابة عن طقوس كل أولئك الكتاّب الذين قرأت لهم وأعجبت بقصائدهم أو رواياتهم، ما هي الأجواء التي جعلت هذا الكاتب أو ذاك يخرج عملا بذلك الجمال الى النور؟ كيف كان مزاجه؟ في أي وقت؟ في النهار أم في الليل؟ هل كان يستمع الى الموسيقى أم يقبع في جو صامت؟… أسئلة كثيرة كتلك دفعتني الى البحث في محاولة لدخول كواليس أهم الكتّاب في العالم، هناك كتاب ل س. ر مارتين بعنوان “في تجربة الكتابة” يتحدث فيه عن السلوكيات الكتابية لبعض الكتاب مثل ماركيز وبورخيس وهمنغواي وأجاثا كريستي… سلوكيات مختلفة ومتعددة بعضها يبدو غريبا وبعضها الآخر يلتزم بالانضباط والدقة، في البداية حاولت، بدوري، التقيد بسلوك معين لكنني فشلت في ذلك، في الحقيقة لست قادرة على الانضباط أنا أكتب فقط عندما تسيطر علي الرغبة في الكتابة، غير ذلك لا استطيع أن أكتب مهما حاولت وان أجبرت نفسي ينتهي بي الأمر إلى اعدام كل ما كتبته … ومع مرور الوقت شيء من ذلك الاهتمام حول طقوس الكتابة لم يعد يشغلني و كإجابة نهائية على سؤالك أنا لا أهيئ أي طقس قبل الشروع في الكتابة “لترويض القصيدة”، لا شيء ثابت، لا كوب قهوة و لا كأس نبيذ ولا حوض استحمام كل ما أحتاجه هو العزلة وهي حالة أعظم من أي طقس و أعني تلك العزلة التي تكون حافزا للتأمل.
في منظورك ما وظيفة الشاعر اليوم؟
لا يجب تحميل الشاعر ما لا طاقة له به، فالشاعر ليس جنديا حربيا ولا قائدا سياسيا ولا نبيا منقذا، أرفض أن تكون للشاعر مهمّات ومسؤوليات محدّدة حتى لا يضيّع الشعر بعده الأجمل والأعمق والذي يتمثل في محاولة ايجاد مكان وسط عالم يغرق في الخراب، خاصة وأن الشعر والأدب، بصفة عامة، أصبح خارج اهتمام البشر وذلك ان دلّ على شيء فهو يدلُّ على ابتعادهم عن قيم الجمال والخير وتجردهم من انسانيتهم. يكمن الشعر في تفاصيل كثيرة من الحياة، يمكن أن يكمن في تغريدة طائر أو في صوت هدير سيارة، في غَفوة رضيع أو في حذاء رَثّ ملقى على الأرض… ووظيفة الشاعر هي الإشارة إليه ورفعه عاليا في وجه هذا العالم الذي تسوده الحروب والعنف والشرور، فالشعر جزء لا يتجزأ من الوجود وبدونه سيفقد العالم جزءًا من كينونته ولا وظيفة للشاعر غير كتابته وتكريس وجوده.
ماذا عن الشيء الأكثر حضورا في ذاكرة الشاعرة ؟ أين يكمن المحظور الذي ليس بمقدور الشاعرة الاقتراب منه ؟
لعلّ الطفولة هي الفترة الزمنية الأكثر حضورا في ذاكرتنا وكثيرا ما نهرب باتّجاه ذلك الوقت بعيدا عن واقع بات أكثر قلقا وحزنا، في ذلك الوقت لا شيء يقف أمام رؤيانا ولا قيود تحدّ من حرياتنا ولا ضعوطات ولا مسؤوليات. .. ورغم أنّ الطفولة قلّما كانت حاضرة بشكل مباشر في كتاباتي لكنها دائمة الحضور في مخيلتي وفي وجودي في حدّ ذاته فحين أشرع في كتابة نصّ جديد أكون شبيهة بطفلة اكتشفت للتو ظلّها فتارة تركض خلفه وتارة تسبقه وتارة أخرى تتطابق معه، أعتقد أن الطفولة ليست فترة زمنية تُعاش وتنتهي بل هي حالة نعيشها من فترة إلى أخرى وهذه الطفولة المستعادة أشبّهها بلوحة فنية نستمدّ منها الألوان المناسبة لنصوصنا وكان نصيبي منها غالبا اللون الأسود على عكس الكثيرين الذين تطغى على مرحلة طفولتهم الألوان الزاهية، جراح الطفولة مازالت مفتوحة إلى حدّ اللحظة ومازلت أحاول دون جدوى رتقها.
أومن أنّ الكتابة فعل حرية وأنّ الحرية والكتابة توأمان لا ينفصلان، لذلك لا وجود لخطوط حمراء تعيق كتاباتي. تبدو المحظورات بمثابة أسوار عالية لا بدّ من تجاوزها وعادة ما تُقرن في مجتمعاتنا العربية ب”الثالوث المحرّم” وهي الدين والجنس والسياسة، والمبدع الحقيقي قادر على التحليق عاليا وتخطي هذه الأسوار، ملتمسا مكانا مرتفعا يليق بالابداع، لكن ما يزعجني أحيانا هو أن يكون الهدف الوحيد للشاعر أن يخترق التابوهات ويخوض في مواضيع “ممنوعة” دون كتابتها بشكل إبداعي ليثير الانتباه لا أكثر فتغرق نصوصه في السطحية و المباشرتية، في المقابل يجب أن أعترف أنه ينتابني قلق كلّما أقدمت على كتابة نصّ جديد والحقيقة أنني أندهش من أولئك الذين يستسهلون الكتابة وينكبّون عليها دون أحساس بالقلق ولا خوف من الفشل … لدي ما يسمى بالاتيلوفوبيا ومهما كتبت لا أرضى عما أكتبه، هاجس الخوف والقلق يلازمني باستمرار وهو ما يحدّ أحيانا من كتاباتي رغم أنني قرأت أن هذا الهاجس ينتاب الكثير من الكتاب ف “صمويل بيكيت” مثلا كان قد وضع لوحة بالقرب من مكتبه مكتوب عليها “أفشل، أفشل مجدداً… أفشل بشكل أفضل” .
مَن من الشعراء ارتبطت بهم وجدانيا، في رحلتك مع الحرف ؟ وهل الشاعر بالنهاية هو محصلة قراءات؟
القراءة مهمة جدا بالنسبة للشاعر والكاتب بصفة عامة، فهي تنّمي زاده المعرفي واللغوي ممّا يساعده في الارتقاء بنصه، كما أنّ الاطلاع على مختلف النصوص الشعرية القديمة منها والحديثة يزيد من وعيه الشعري، فالمعرفة والثقافة تشحذان الموهبة بطاقات أكبر. لكن الشعر لا يمكن أن يكون غير مأساة وألم وتعريفه خارج هذا السياق ينقص من قيمته ويحيد به عن بعده العميق، والشاعر يكتب نصه انطلاقا من تجربته الحياتية الخاصة ورغم انشغاله بهموم إنسانية مشتركة وتأثره بتجارب سبقته إلا أنه قادر على إعادة إنتاجها وفق تصوّر لا يشبه سواه، ممعنا في تفرّده وفي بلورة لغته وصوره الخاصة … أقرأ كثيرا، أقرأ الشعر العربي القديم والحديث وأهتم بالأدب العالمي، الشعر منه والرواية كما أقرأ أيضا لشعراء من جيلي من تونس والوطن العربي وثمة كثير من الشعراء الذين هزوا الأرض تحت قدميّ بنصوصهم ومن المؤكد أنهم أثروا فيّ وفي كتاباتي، لكنني بصفة عامة أنتمي إلى ذلك الشعر الذي ينبش عميقا في الذات مع علاقتها بالواقع فما يهمني هو الإنسان، النفس الكامنة فينا.
هل تجدين أن الحركة النقدية بدأت تتعامل مع الشاعرات بمعايير الإبداع الأدبي الخالص، بدل التصنيفية الجاحدة داخل الأدب النسائي، الذي لا يُقرأ إلا للتلصص على الحياة الخاصة للمرأة؟
مصطلح “الأدب النسائي” أسال الكثير من الحبر بين رافض ومؤيّد، في الغرب كما في العالم العربي، خاصة وأنه فُسّر حسب دلالات مختلفة. أرى أنّ الكتابة الأدبيّة الإبداعيّة هي كتابة إنسانيّة بالأساس بغض النظر عن جنس كاتبه، فالقلق الوجودي وهاجس البحث عن النفس الكامنة فينا واحد حتى أن اللغة، على رأي رولان بارت هي مزيج بين الأنوثة و الذكورة. هناك بعض النقاد الذين لم يسقطوا في ذلك التصنيف والفرز الذي يفصل رسالة الأدب بين الرجل والمرأة والذي يرى أنّ المرأة تكتب أدباً خاصاً بها، بهمومها وقضاياها فقط، مبتعدة عن هموم الواقع والوجود الإنساني، هؤلاء النقاد، وهم قلّة، تناولوا كتاباتها انطلاقا من النص ذاته، بعيدا عن التصورات المرسومة عنه مسبقا وتخلصوا من الذاكرة الجماعية حول “الأدب النسائي”.. أعتقد أن المشكلة الأعمق للنقد اليوم أنه لا يهتم بجوهر شعرية القصيدة بقدر ما يهتم بما حولها، كما أنه يعتمد على الذائقة المحضة والتي تكوّنها المجاملات أو النزعات الشخصية .. أقرأ الكثير من النقد العربي و نادرا ما أجد فيه استثناءات تحلّل جماليات القصيدة وشعريتها، كل ما أراه أنه تلخيص للأفكار دون الذهاب عميقا في تحليل الشعرية.
كيف تنظرين للمشهد الشعرية في تونس؟
المشهد الشعري التونسي اليوم ثري ومتنوع ومن يتابع عن كثب ما يُكتب سيلاحظ حتما وجود أسماء جادّة ومبدعة تخطو بثبات نحو التميّز، لم يكن سعدي يوسف مخطئا حين قال “أعتقدُ أن الحركة الشِعرية في تونس الآن هي الأعمقُ والأبهى ” فالجيل الجديد أحدث تحوّلا جذريا و عميقا في الشعر التونسي و ما يكتبه مختلف تماما عمّا كتبته الأجيال السابقة كما أنه يبدو على دراية جيّدة بما وصلت إليه الحداثة من خلال انفتاحه على التجارب العالمية والعربية. هناك حركة شعرية جديدة تنحى منحى تجريبيًّا ينتج، من حين لآخر، ما يدهشنا ولا يسعنا إلا أن نتفاءل من التراكم الكمي الذي يشهده الشعر اليوم، فهو الوحيد القادر على إفراز تيارات جديدة يمكنها التواصل مع عالم يتجدد بسرعة وتلك هي طبيعة الإبداع الحقيقي… واقع الشعر التونسي اليوم رائع لكن كما سبق وقلت المشكل في المشهد النقدي الذي لم يستطع أن يجاري المنجز الشعري.
أسماء الجلاصي الشاعرة أسماء الجلاصي للموجة: لا وظيفة للشاعر إلا كتابة الشعر.. والنقد اليوم لا يهتم بجوهر شعرية القصيدة 2016-09-23