محمد حساين
إقامة “هناء”، مدخل العمارة كما العمارات كلها، باب مساكن وباب مرأب وبواب وأنترفون ويافطة عليها إسم الإقامة.
كان في حديث مع عبد الله حينما اقترب منهما ماسح أحذية:
-
تــْــسيري؟
أشار الرجل برأسه أن لا، لكن الشاب اقترب أكثر وأعاد العرض بصيغة اخرى:
-
تسيري؟ ثلاث دقائق فقط، خدمة ممتازة.
كان حذاؤه الجميل مصابا بنفحات غبار وكان محتاجا لعملية صقل وتمكين من اللمعان لكن الأستاذ من النوع المؤمن بأن مد الرِّجْل لماسح الأحذية فيها إهانة وعدم اعتبار لكرامة الإنسان. كان يقول لأصدقائه انه لا يقبل جلسة “السيرور” عند قدميه وأنه يفضل الاحتفاظ، عند الاستحمام التقليدي، بنصف “وسخه” على أن ينبطح انبطاح الأسياد أمام داعك أجبرته الحاجة على تنظيف الأرجل والأكتاف
أعاد الشاب السؤال شبه مستعطف:
-
coup de brosse؟
ماسح الأحذية هذا لا شك من المدبلمين الذين فُتحت لهم مخارج الجامعة وأقفلت أمامهم مداخل الوظيفة. نظرته المنكسرة وفرنسيته السليمة نطقا دليل على ذلك.
-
شكرا. لا يا سيدي منسيريش
دعّم اعتذاره بأن أخرج من جيبه قطعة نقود ووضعها في يد الشاب مصافحا لكن الشاب أعاد له القطعة بهدوء وهو يقول:
-
أنا لا أتسول، أنا آكل من عرق جبيني..
ثم نقر الصندوق أداة العمل نقرتين مسموعتين وولى ظهره.
أحس صاحبنا بحرج رديء، وأستعاد ما فكر فيه دائما، ماذا لو قاطعنا “السيرور” و”الكسَّال” حفاظا على كرامتهم؟ سيجوعون؟، سيسرقون؟، سيُطلِّـقون؟، سيتشردون؟ ، سيهانون؟ بدون شك سيكرهوننا…
نادي الشاب الذي ابتعد قليلا.
-
تمهل يا سي محمد، تعال
-
تسيري؟
-
نعم ولا، آتيك بأحذية عندي في البيت، خذ لك مكانا هنا في الأسفل داخل المرأب واشتغل.
اصطحب الرجل عبد الله البواب معه وصعد لشقته ولديه إحساس بأنه ذو ذكاء وكرم ومبادئ. جميل أنه لم يمد رجله للشاب تواضعا وفي نفس الوقت سيمكن كادحا من أجرة مستحقة قد تكفيه ليوم أو يومين.
جمع كل أحذيته وأحذية زوجته الجلدية في كيس وناوله للبواب الذي ظل منتظرا على العتبة.
-
نادني إذا ما انتهى السيرور..
التحق بزوجته وأصهاره واشترك معهم في الحديث عن حالة الجو والغلاء وتعفن البيئة وعن مسؤولية الدولة وبراءة الشعب. وبدون قصد وجد نفسه يقول لهم أنه اكتشف اليوم أن عدد الأحذية في البيت كبير وأن قيمة ما جمعه قصد التلميع يفوق كذا درهم.
رن جرس الأنترفون ، على الخط عبد الله البواب متلعثما…
-
سي عبد الكبير، هل أخذت الأحذية؟
-
لا لا لم أخرج من البيت
-
لا أجد أثرا للماسح ولا للكيس..
جف في ثانية كل ريقه وأحس بشعلة الطوارئ، تدور فوق راسه علامة الخطر.
لبس خف زوجته البلاستيكي الضيق، ونزل مسرعا متعثرا محموما وعاد متمهلا هادئا مثلجا مقتنعا أنه كان ضحية سرقة ساعد هو في إخراجها وتنفيذها.
سمع من زوجته ما يسمع في هذه الحالات من عبارات الجَلد والتجريح، وواساه ضيوفه بأن حكوا له الكثير من قصص النصب والكسر وردد الجميع أن لا حول ولا قوة إلا بالله، وأكدوا أن الله سينتقم من اللص وأن ما سرق سيصرف في اقتناء ما حرم الله ولن يستفيد السيرور من حرام وأنه يوم يبعث الناس حفاة سيكون من الخاسرين.
-
ديكلاري…
ابتسم وهو يستمع لصهره المحنك:
-
ديكلاري، لازم تديكلاري
-
لا داعي لهذا ، ما الذي سأقول للشرطة؟، أعطيتُ كيس أحذية لأحدهم فلم يرجعه لي !!!. هه… كلام لا يستقر على محضر.
اقترح عليه أخو زوجته أن يتتبع آثار اللص عن طريق تتبع آثار الأحذية.
الجوطية طبعا. في سوق العفاريت هذا، بجاه أجداده وبقليل من حسن الحظ، قد يجد اللص محاولا صرف البضاعة أو قد يعثر على ما سرق منه معروضا للبيع.
اقترح عليه الصِّهر المسح والبحث في سوق الخوردة الحذائية العظيم ونصحه أن يكون ، لو صادف غريمه، حذرا جدا فالسارق البائع قد يكون مسلحا.
دهاليز الجوطية الكبرى وجناح الأحذية القديمة خاصة زحام وروائح أجبان.
انتقل من متجر لمتجر ومن “تفريشة” لتفريشة ملتمسا رؤية حذاءه السباتلاند الذي اشتراه من سكوتهولم والذي لا شبيه له في القارة.
عجيب هذا المكان ! يااااااه، الحقيقة أنه يوجد في البحر ما لا يوجد في النهر ! أحذية في تمام الشباب وبأثمان بخسة لا قرب لها من تلك التي تعود عليها.
هنا سوق للفقراء رغم أن كل رواده، كما لاحظ، لا علاقة لهم بالفقراء.
ماذا؟ الله أكبر، دق قلبه وهو يرى في أعلى أحد الرفوف أحد أحذيته مبرزا.
-
هو ذاك.
-
لا ليس هو تماما
-
لا هو معدلا قليلا
طلب من البائع أن يناوله الفردة. وقبل أن يرجعها لأنها كانت في طول باخرة، جمد في مكانه وهوى ضغط دمه وهو يرى زبيدة وزوجها يمران من أمام الدكان.
مصيبة أن تراه زبيدة سكرتيرة المدير.
غدا ستقول للجميع أن سي عبد الكبير الذي يدعي أنه يتسوق من سكوتهولم والذي لا يلبس من الأقمصة إلا الموقّع توقيعا رافعا والذي يتنزه عن المحلات الشعبية لغرامه بالماركات العالمية…ستقول لهم سي عبد لكبير الخالدي في الحقيقة هو سي عبد الكبير الخوردي.
هل فعلا أبصرته زبيدة؟…لا لم تبصره زبيدة…. لا، أكيد رأته ولهذا أسرعت تجنبا لإحراجه.
لعن صهره صاحب فكرة الجوطية ثم طأطأ رأسه ووضع نظارته وغادر المكان نادما ومحبطا وخجولا.
وهو يهم بركوب سيارته اعترضه أحد الباعة الأنيقين،
-
عندي لك حذاء هائل، حذاء طاليان… أنظر
-
هذا أصغر من قدمي
-
لا لا، الجلد يتمطط، قياسك كم؟، جرب….، حذاء عالمي….كان عندي زوجان، أخي جاء به من طورينو. هذا حذاؤك والله،… أقسم بالرب العظيم لولا ضيق لما بعت بهذا الثمن…
كان الحذاء فعلا من النوع الممتاز وبخمسمائة درهم قابلة للضغط بالتفاوض.
كان متأكدا، لخبرته، أن ما يشبه يباع في محلات الشارع الكبير بأكثر من ألف درهم.
اشترى بثلاثمائة وخمسين وأحس أنه لن يعود من الجوطية بخفي حنين ولكن بحذاء ثمين.
-
هل أخوك لديه زوج آخر أحمر أو بني؟
-
لا يا سيدي الكريم، أخي في إيطاليا وسيعود بعد أيام.
-
خذ هذه بطاقتي، عليها رقم هاتفي، إذا ما وصل أخوك وكانت معه سلعة مثل هذه وبثمن ممتاز كلمني، إسمي عبد الكبير الخالدي، ما اسمك أنت؟
ابتعد عن السوق متأسفا لكونه لعن صهره الودود في لحظة قلق.
لماذا القلق؟ زبيدة، لو افترضنا أنها رأته، لن تحكي لأحد شيئا، هي بدورها لا ترضى أن يقال أنها كانت تتسكع في سوق الأحذية القديمة.
صباح يوم الإثنين، في بهو الشركة التي يشتغل فيها صاحبنا، حلقة مستخدمين ومستخدمات كلمات متناثرة: صحيح؟ ويلي ويلي…
الأمر أن السيد عبد الكبير قبل دخوله للمكتب اعترضه رجال الشرطة وأخذوه في سيارتهم.
اجتهد المخمنون ونمّم النمّامون واستغرب الجميع.
قبل الزوال وصل الخبر اليقين، السيد عبد الكبير الخالدي معتقل لكونه اشترى أحذية مسروقة من جوطية كذا.