سعيد بوخليط
دائما ومع الانتباه إلى حلول أواخر أيام كل سنة، يشرع أغلب الناس في الارتقاء من صخب الأحاديث المستهلكة والمبتذلة؛ ثم التحول ظرفيا نحو إنتاج المفاهيم على الأقل في مقولاتها الكبرى. هكذا، تسود نسبيا غاية الدقيقة الأخيرة ضمن مجريات السنة المنقضية، لغة تستحضر على العموم من باب الموضة والاستهلاك اللحظي- الدليل استفحال مشاكل الحياة سنة بعد سنة، ولا أثر واقعيا لما يُحلم به – المستقبل والسلام والمحبة والرحمة والتسامح والعدل والصحة والثروة واليسر، إلخ. أو لنختزلها فقط، في الثالوث المقدس الرهيب: الجنس، المقدرة، الامتلاك.
يهيئ أفراد المجتمع المقصيين مختلف آمالهم التي تجبُّ آلامهم، ويرجئونها غاية بداية فجر السنة الجديدة. يتنكر المستشرف، بجرة حركات سريعة للأصابع لا تتجاوز الثانية؛ ممزقا بتنكر عبثي في غاية السخافة، روزنامة ورقية يوميات ثقيلة جدا تقارب 365يوما بالتمام والكمال؛ بمختلف تفاصيلها الصغيرة.
أي حيز إذن، يشغله الزمان المنصرم قياسا للمرتقب؛ والعكس صحيح؟ كيف يتحول الزمان الكمي، مثلما صار الماضي إلى آخر كيفيFلاسيما وأن مفهوم الزمان، انتقل من معطى كمي يوثق فقط لتعاقبات الصباح والمساء، وتناوب الفصول؛ وقياسات بالاعتماد على مؤشرات محض فيزيائية لمعطيات التواريخ وتقلبات الجغرافيا؛ ثم انزياحه جهة زمان يمنح معنى للإنسان من خلال مقولات الوجود الكبرى المصيرية.
مما لاشك فيه، أن الزمان، قدر كونه غاية في ذاته؛ يعتبر أيضا بنفس كليانية هذا الزخم بداية في ذاته. بحيث يستحيل تماما، التمكن من الفصل على وجه التحديد، بكيفية لالبس معها؛ بين الزمان كولادة وباعتباره ماهية. أين يبدأ الزمان، وعند أي حد لا ينتهي؟ مادام الزمان فينا، ومنّا، وإلينا، وعندنا، وبيننا، وأصلنا، ونهايتنا، وعبرنا، وبين طياتنا، ومن خلالنا. بالتالي، التمثل الصحيح للزمان في بعده التكاملي التأسيسي، يقتضي توافقا جدليا خلاقا بين الكمي والكيفي، التراكمي والنوعي، ثم وعي الفرد وجوديا؛ بمستويات ودرجات تزمُّنه.
في بلدنا المغرب، والمناسبة شرط، كما يقال، لايحضر لدينا وقع الزمان و الأنكى بكيفية سطحية عابرة تماما، دون استيعاب صميمي لجوهره؛ وما أدراك ما الزمان؟ سوى في مناسبتين:
أولا: حين إعلان الحكومة إضافة ساعة، مع تجلي البواكير الأولى لموسم الصيف.
ثانيا: حينما تبدأ التلفزة، في عرض وصلات إشهارية، تبشر باحتفال ساهر غير مسبوق؛ بمناسبة حلول سنة جديدة.
مع الأولى، قد يتمحور النقاش في جوانبه الكبرى، ضمن تأويل تأفف الآباء، من استيقاظهم الاضطراري المبكر صحبة الأبناء قبل بزوغ خيوط الشمس؛ كي لايتخلفوا عن موعد المدارس. أو اختلال واضطراب، في الساعة البيولوجية للنوم، وتأثيرا ذلك أسرويا على العلاقات الحميمة بين الأزواج؛ من ثمة ترقبهم بلهفة انقضاء الزمان المفروض واستعادة المرغوب.
أما مع الثانية، فيكون وقع الحدث إلى حد ما أكثر قرقعة ومهابة من سابقتها، بحيث يحضر حقا لدى الجميع كما يتجلى على الأقل فترة ساعات العد التنازلي، مرجعيات وقيم الحياة الأصيلة؛ وقد استدعيت في المجمل لغويا ليلتها عبر بوابات السهر والحلوى والأكل والنبيذ والغناء والرقص، حيث يتمنى الجميع للجميع امتلاك مفاتيح العالم والتحلي بخصال الإنسانية المنشودة.
ليلة إغريقية، شكلا بدون روح، بحيث استعادت من جديد؛ أفق مداعبة أحلام البشرية الكبرى. لكن بمجرد انقضاء الاحتفالات والاحتكاك الفعلي خلال صبيحة أول يوم من العام الجديد؛ حتى يتم الانقطاع عن خيط الحلم، ونبتعد قياسا لنواة لبنات ومرتكزات الزمان النوعي: التسامح، الإخاء، الاختلاف، التعدد، … ثم نعود كما أحوالنا خلال السنة المنفرطة، والسنوات التي قبلها إلى ممارسات زمان حروبنا الصغيرة الاستنزافية التافهة والعبثية والسخيفة؛ التي أنهت سلفا السنة على وقع حصيلة سلبية، والتي ألهمنا الوعي بالزمان النوعي التطلع بشدة كي نتخلص من نتائجها السيئة.
من أهم مظاهر تطاحننا المجاني والمجنون، الذي يلقي بنا جانبا عن سياق الزمان الكوني المبدع، القائم على جدليتي الكم والنوع؛ أن الزمان لايحظى لدينا بتاتا، بأي قيمة تذكر. على امتداد السنة، ولا أظن بأن الأمر سيتغير هذه السنة، كل شيء مؤجل تأجيلا حتى إشعار آخر، من القرارات المصيرية للسياسات العمومية، غاية أبسط توقيع يتفضل به موظف، لتخليص وثيقة لاتغني ولاتسمن من جوع، بينما قطار الزمان يجري دون هوادة، لاينتظر أحدا ولن ينتظر، المتخلفين عن الموعد المحدد؛ والركب الحضاري، ثم دائرة مشاكل المجتمع تتسع كميا ونوعيا وتتشعب وتتعقد وتزداد تشابكا وتداخلا مفصليا.
بالتالي، وحده الأمل في استمرار الأمل.
http: //saidboukhlet. com/