عمر علوي ناسنا (المغرب ):
لبيتنا باب خشبي سميك من الصفصاف محدودب ومنبعج في موضعين، يشبه أبواب بيوت القرية التي وضع أهلها بابا أكبر منه في المدخل. وما يلفت أكثر فيه هو المسامير الغليظة المفرطحة الرأس والتي تزين وجهه وهي في الوقت نفسه تريد أن تعطي انطباعا بالصلابة والخشونة.
كان أبي فخورا بهذا الباب ويذكر كيف ساعد جدي في تثبيته، وحين يقرأ شيئا من الإنكار في وجهي كان يسارع فيقول: إن الانبعاج الذي تراه هو بفعل المياه والرطوبة كان الباب صقيلا جدا وقويما في البداية الآن هو يشبهنا يا بني إنه يشيخ مثل أبيك.
وترسخت الفكرة في ذهني وبدأت كأني أرى أجساد الأجداد وقد دقت فيها مسامير غليظة مفرطحة وانبعجت هنا أو هناك.غير أن ما كان يسترعي انتباهي هو ذلك الزكروم الكبير الذي يهتم به أبي كثيرا ، وفي كل ليلة كان يعيد سؤاله : هل أحكم أحدكم إغلاق الباب بالزكروم؟
لطالما ضحكت في داخلي كلما سمعت أبي يسأل ويريد أن يتأكد من أن أحدا أحكم إغلاق الباب بالزكروم. الباب نفسه بل أبواب القرية كانت تثير في نفسي الرغبة في الضحك، فجميع أهل القرية فقراء معدمون، أي شيء تملك وتخاف عليه يا أبي حتى نحكم إغلاق الباب بالزكروم؟
كان مؤكدا أن الباب يكون مغلقا دائما في الليل، فحتى لو نسي أحدنا ذلك فأبي ماكان لينسى طرح سؤاله اليومي، بل ما كان لينام لو لم يحصل على الجواب: الباب مغلق يا أبي.
لكن أبي كان ينشغل كثيرا عندما يتوجب عليه أن يسافر أو يبيت خارج البيت، حينها كان لا ينسى أن يتصل هاتفيا ويسأل أمي تحديدا : هل أحكمت إغلاق الباب بالزكروم؟
ولكن مالذي يخشاه أبي تحديدا ؟ ماذا سيجد اللصوص عندنا؟ قلت لأمي وهي تلح علي مرة أن أغلق الباب بالزكروم.
وكبرت وكان على الولد الأكبر في العائلة وهو أنا أن يكون المسؤول عن الزكروم انتبهت إلى أنني صرت مركزا في العائلة، فعلي أن أقوم تقريبا بكل ماكان يقوم به الأب الذي أقعده المرض في البيت، كان مزاجه قد تعكر كثيرا وصار يلعن كل شيء ويتنخع ويبصق على الدنيا كلها، فكان علي أن أتكفل بكل شيء ليتفرغ أبي للبصق على الدنيا.
لدينا حقل صغير نزرع فيه عادة الذرة وفي الحواشي بعض الخضار، وكان العمل فيه شاقا لأن سقيه لم يكن بالأمر الهين ، وكنت أعود مع حماري وكلانا يشبه الآخر نعود مرهقين صامتين يتجه هو لزريبته وأتجه أنا إلى حوش الدار وألقي بنفسي فوق حصيرة هناك.
وحده الشاي الساخن كان يذكرني بالمعنى الهارب للمتعة. المحصول كان بسيطا لكنني وأنا أتصبب عرقا طيلة تلك الأيام في حقلنا الصغير، وجدت نفسي أحضن أكياس الذرة بحب، وتذكرت أبي وعرفت هذه الأشياء البسيطة التي كانت تعني له الكثير هو الذي أنفق فيها عمره وجهده، وضعت أكياس الذرة في غرفة صغيرة وراء الحوش وأحسست أن علي أن أحكم إغلاق الباب بالزكروم.
في صباح يوم خريفي حزين انتكس والدي صار كأنه باب محدودب منبعج مسخته الرطوبة وانشغلنا جميعا حتى أننا قضينا النهار بكامله معه ونمنا مساء في غرفته، نسينا حتى أن نحكم إغلاق الباب بالزكروم .
مات أبي، وكان أول شيء خطر لي في ذلك اليوم الحزين هو ألا أنسى إغلاق الباب بالزكروم ، شيعنا أبي لمثواه الأخير.
في عودتي أحسست كأن في جسدي مسامير مفلطحة الرؤوس، تذكرت أكياس الذرة وقلت سأوصيهم أن يحكموا إغلاق الباب بالزكروم.
———————————————————————————–