الخطباء! | أقشار يونس – بروكسيل
أقشار يونس، بروكسيل
في الليل البهيم، ينعق الغراب الأسحم الفاحم السواد، مخاطباً جميع الحيوانات بعجرفة وعيناه لا تفارقان البومة المتأهبة والتي كانت تدير رأسها في جميع الإتجاهات بتباطؤ شديد مثل رجل آلي:
-لا تستهينوا بي، فمنقاري هذا يعادل آلاف الأقلام، ومخي رغم ضآلته يحوي آلاف الحكم، وإسمعوني ثكلتكم أمهاتكم، أنا جبت نصف أقطار العالم وراقبت ذلك الإنسان المتعجرف من العلياء، لقد كان يبدو لي حقيراً من الأعلى ولما خالطته وراقبته عن كثب إكتشفت بأنه أكثر حقارة .
وأنت أيتها البومة الخرقاء، حدقي فيَّ جيدا بعينيك البراقتين ؛ أتظنين حقاً بأنك رمز الحكمة والمعرفة ؟ أصدقت حقاً ما يحكيه عنك هؤلاء البشر المثيرين للرثاء؟ أنت لا تكادين تجدين ما تسدين به رمقك. أنت بمعيار الطيور أقل من عادية ، بل إنك مثيرة للشفقة.
إن ما يقصونه من ترهات عن حكمتك المزعومة مجرد حكايات ليلهوا أطفالهم، ومجرد أقاصيص يرددونها لهم ليتخلصوا من صخبهم ويخلدوا للنوم وليفعلوا أشياء أخرى…
تجيبه البومة وهي بدورها تراقب جرذاً بنياًّ يطل برأسه من جحر يوجد أسفل الشجرة التي تتقاسمها عنوة مع الغراب الأسحم :
-يبدو أن السهاد قد أخذ منك أيها الغراب العجوز وبدأت تخرف ، الليل ليس لأمثالك ، أَخْلَد إلى النوم وأكفنا شر ثرثرتك، تتحدث عن حقارة الإنسان وأنت لاتستنكف عن البحث في فضلاته ممزقاً أكياس القمامة كل صباح ، تبحث يائساً عن ما يقيم أودك وتتجرأ على القول بأني بالكاد أجد ما أسد به رمقي!
أنا التي تشفق عليك أيها الغراب المسكين ، أتظن أن كونك أسحماً يبوؤك مكانة أعلى بين أقرانك؟ أتعتقد أن كون حجمك ضعف حجم الغربان العادية يجعل منك غراباً فريداً ؟ إن كنت فعلا تظن ذلك، فترحم على ما تبقى لديك من عقل. أتعرف يا مسكين أنه عندما صرخ ذلك الحكيم قائلاً لأول مرة : “الموت للغربان ” فإنه كان يقصد كل الغربان ولم يستثن الغربان السحماء، بل إني شبه متيقنة بأنه كان يقصدها هي بالذات .بسبب صخبها ودناءتها..
طيلة كل تلك الفترة، كان الجرذ البني يستمع باهتمام للشجار الدائر دون أن يفقد حذره الفطري من البومة و لم تخف عليه مراقبتها له بعينيها اللتين تبدوان وكأنهما مشتعلتين في الظلمة وكان يحرك شفتيه مثل من يريد أن يقول شيئا ولكنه متردد أو متوجس، خاطبته البومة قائلة :
– تكلم أيها الجرذ ، ماذا تريد أن تقول أنت أيضا عني وعن ذلك الإنسان الذي أقحمه هذا الغراب الأخرق في الموضوع دون سبب ً ، هيا أفرغ ما في جعبتك ولا تخف.، أعدك بأني لن أمسك بسوء، لقد أفقدني هذا المعتوه شهيتي !
أجابها الجرذ قائلاً :
– لقد استمعت إلى جدالكما منذ البداية يا سيدتي ، صحيح أني لم أفهم دوافع الغراب الأسحم حينما تحدث عن منقاره ومخه وتعجبت مثلك عندما أقحم الإنسان في حديثه دونما سبب مقنع ولكن من خلال تجربتي في الحياة وسبري لأغوار الأرض وما يدب عليها وحتى لما يحلق فوقها، يمكنني أن أخمن الأسباب التي جعلته يقول ما قاله.
أظن والله أعلم أيتها السيدة. أن صديقنا الغراب يعيش حالة من الإكتئاب ولٌدتها ظروف عيشه القاسية وعمره المتقدم وكذا إظطراره إلى الإقتيات على مخلفات وفضلات من يكره كما ذكرتِ، كما أنه يعاني من تضخم رهيب للأنا، لأنه يظن أن كل الحيوانات استمعت إلى خطبته التي خال بأنها عصماء بينما هي في الحقيقة كلمات مفككة بالكاد سمعناها أنا وأنت.
يتشدق بأنه زار نصف أقطار العالم، ربما فعل ذلك في أحلامه، وهو لا يعلم بأني أنا من قضى على النصف الآخر الذي لم يحلم به بالأوبئة التي نقلتها ، وليس هناك من يعرف البشر أكثر مني ، أنا كابوسهم المريع، وأنا أقرب الحيوانات إليهم ،أراقبهم من حيث لا يعلمون! أتعلمين بأنهم ليسوا جميعاً بذلك السوء الذي صورهم عليه غرابنا المسكين؟
كما أود أيضاً أن تعرفي أيتها السيدة أن الأمر الوحيد الذي أتفق فيه معه هو ما قاله عنك، أنت فعلاً من الطيور العادية جداً، لا تملكين من المزايا سوى بصرك القوي في الليل، وهذا في نظري عاهة أكثر منها مزية ، كما أني لا أعتبرك حكيمة البتة، وبشاعة وجهك يضرب بها المثل.
تجيبه البومة بحنق قائلة :
-كيف تتجرأ على قول ذلك أيها الجرذ الحقير، أنسيت مقامك أم تود أن أذكرك به ، ترتعد فرائصك لمجرد سماعك لنعيبي ، أو لمجرد خفقان أجنحة أي طير حتى ولو كان دجاجة، وتحسب كل صيحة عليك وتتخيلني مطبقة على رقبتك، ولا تستطيع حتى أن تخطو خطوة واحدة دون أن تلتفت ألف مرة، وتتحدث عن البشاعة يا سليل المجاري… ولكن الحق علي أنا التي أعطيتك الفرصة للحديث.
أما الغراب الأسحم، فقد أطلق قهقهة عالية وقال مخاطباً الجرذ :
هاهاها، يا لتصاريف الزمن وتقلبات الحياة ، الجرذ الجبان الرعديد الذي كان ومايزال يخاف من ظله، والذي لا يخرج من جحر حتى يدخل في آخر، أصبح طبيباً نفسانياً يحلل شخصيات أسياده ويوزع عليها تشخيصاته البئيسة، الجرذ الغبي، أصبح فيلسوفاً أيضاً، يصدر صكوك البراءة لذلك الإنسان الذي جعل من بني جلدته قرابين لمختبرات التجارب، يالها من مازوشية!
يجيبهما الجرذ قائلاً:
-ردة فعلكما هذه لم تفاجئني البتة، لقد جاءت لتؤكد الصورة الذهنية التي كوّنتها عنكما. مخلوقان بئيسان حقيران بشخصيات كرتونية مهزوزة، لم تصمد أمام أول هبة ريح وأبسط انتقاد.
أنتما أحط مخلوقات الغابة منزلة،تتثاقفان وتتعالمان ولا تحسنان غير السب وتحقير الآخرين، تباً ً لكما، لقد ندمت أشد الندم لإضاعتي وقتي مع أمثالكما!
إستشاط الغراب والبومة غضبا بعد سماعما لمقولة الجرذ، لقد كانت جرأته جريمة لا تغتفر بالنسبة لهما
هجم كلاهما على الجرذ الذي لم يتحرك من مكانه وكان يبدو وكأن الخوف قد فارقه تماماً وبدا وكأنه اكتسب بفضل ما قاله حجماً أكبر من حجمه الطبيعي بكثير ، كانت البومة هي التي إنقضت عليه أولاً ثم تبعها الغراب الأسحم الذي لم يُعرف كيف اهتدى إلى مكان الجرذ في تلك الظلمة الحالكة..
لم يكن الجرذ لقمة سائغة، قاومهما بكل ما أوتي من قوة وانتفض انتفاضاً شديدا يليق بالشجاعة التي أبداها، كما أن الغراب والبومة صفيا حساباتهما بتبادل بعض النقرات وخدشات المخالب ..
وبينما كانوا يتعاركون ويتدحرجون ككومة من القش في كل الأنحاء، إنقض عليهم قط بري جائع كان على ما يبدو متربصاً بالجرذ منذ مدة طويلة، لم يفوت الفرصة، إذ أنشب في ثلاثتهم مخالبه وأنيابه الحادة حتى لا يدع لهم فرصة للفرار، وقال متمتماً بفم ملآن بينما كان منهمكا في تمزيقهم إرباً : لم يخب ظني في فلسفتكم وحكمتكم أيها الخطباء المُفَوَّهون، إنها الأفضل ، لقد مكنتني من الظفر بثلاث طرائد بدل واحدة، إنها فعلاً الفلسفة الألذ على الإطلاق!
بروكسيل 21 أبريل.
أقشار يونس الحيوانات قصة الحيوانات 2017-04-25