محمود محمد
كلما رأيته تمنيت لو كنت جزء منه، لو كنت ورقة في غصن من هذه الأغصان لأترك الغصن وأذهب مع الرياح ، لتحملني وتلقي بي إلى المكان الذي تريده وتعود تحملني مرة أخرى وتلقي بي .
الخريف سيد الدفء والألوان، وكل ما كتب عنه كفصل يشبه الرحيل ونهاية الأشياء فهو باطل، إن الخريف إله الضوء والألوان والتوق، حامل المطر والحب والدفء ورائحة الأرض، وصباحات تدور فيها فناجين قهوة منكهة بطعم الحنين والذكريات التي مهما غابت، لا بد أن تعود مع الخريف، فأجوائه معتدلة وشمسه ورياحه معتدلة، فهو الكلاسيكية والشجن والهدوء والحكمة و الابتسامة الهادئة والنظرة الحالمة.
في هذا الفصل تحزن الأشجار حزناً عميقاً حتى تـذبـل أوراقها، وتأتي إليها الرياح وتخبرها أن حزنها تخطى حدوده، وتحاول أن تدفع بها دفعاً نحو الأمل، تصمت الأشجار قليلاً ثم تنظر للرياح بعين دامعة، وتبتسم لها إبتسامة تنم عن قبولها لدعوتها لها، وتضع الأشجار كل ثقتها في الرياح وتستسلم لها كي تأخذا إلى طريق الأمل.
تغير الطبيعة جلدتها وشكلها وهيئتها وتنفض عنها كل أثوابها وأسمالها وجلودها المستهلكة المستنفذة القديمة لتجدد نفسها وتخرج بهيئة جديدة وشكل وتكوين احدث وأفضل يناسب تدرج التطور الطبيعي في سلم الرقي.
حقيقة في كل خريف أحس أن جلدي يتغير ولوني وسلوكي وأحساسي، وطريقة تفكيري والنظام البيولوجي في جسدي وإيقاعه وبرنامجه التفاعلي مع البيئة والوسط كله يتغير، فيتغير نمط غذائي ونومي وحركتي وكل شيء في كياني، كي ادخل إلى موسم الشتاء أتلقى من الطبيعة من خلال المطر والبرودة والرطوبة والأجواء الشتوية العامة في الأرض، وفوقها كل عناصر التغيير الكيماوية الضرورية لإتمام معادلة التغيير الطبيعية لتنتج شخصية جديدة بكيان جديد، بجسد وعقل ونفسية جديدة واخرج من عملية التحول هذه أي عملية التجديد، إلى الربيع بكيان جديد وطبعا أفضل من ذي قبل هذا وأنني في كل موسم أحس بتطور شخصيتي ونضوجها على صعيد الجسد والعقل والنفسية.
وهناك كلمة قالها الشاعر الروسي بوشكين عن فصل الخريف “أيها الخريف أي غرابة فيك تجعلك تشبهني بحزنك كما تشبهني بيوم فرحي” ، فقد صدق بوشكين فيما قاله فكل امرئ ينظر لهذا الفصل من زاويته فقد يراه البعض فصل الكآبة والحزن، بينما يراه البعض الآخر كما أراه أنا فصل الجمال والتدرج الخرافي في الألوان والتجدد النباتي والشجري والأهم تجدد الطقس وبدايات لفصل الشتاء الرائع.
الخريف كان الفصل المفضل للشاعر الروسي العظيم ألكسندر بوشكين، وكان يسمي هذا الفصل بالخريف الذهبي للون الأشجار التي تبدو وكأنها متوجة بالذهب الخالص. فعلا الخريف فصل جميل، لكن الأجمل منه فصل الشتاء، حيث ترتدي الطبيعة ثوب العرس الأبيض ليلة الزفاف تنتهي بولادة الربيع.