محمد بركة- أديب مصري مقيم ببلجيكا
مقطع من رواية ” الزائر ” التي تصدر للمؤلف قريبا عن دار ” سما ” بالقاهرة
النيران وحش خرافي هبط من الفضاء الخارجي .يفتك به الجوع فيندفع غاضبا للأمام مادا رؤوسه السبعة في كل الاتجاهات على كوكب الأوبئة و التلوث بحثا عن شيء يأكله . الوحش يتميز من الغيظ فيلتهم حتى الألعاب البلاستيكية الرخيصة المستوردة من الصين و تشكل خطرا على الصحة العامة غير حافل بمذاقها السيئ وهى ملقاة بإهمال في حجرة الأطفال.
الشقة تتحول سريعا إلى بقايا طعام أسود في معدة الوحش. هضم الطعام يصدر أزيزا مخيفا مثل مليون عود حطب تتكسر دفعة واحدة . الدخان يتصاعد من الطابق الرابع – موطن الحريق – إلى الخامس مثل رسول أمين يخبئ لعنة في طيات ملابسه . يتكاثف مثل ضباب ثقيل علي ساحل بعيد لجزيرة تسكنها الأشباح. يتسلل عبر الأبواب و النوافذ مثل قوات خاصة تعمل خلف خطوط العدو .
في عمق صدمتها، شعرت بشلل مفاجئ يعجزها عن التفكير في حل سريع . فقدت الأمل في أن ينجدها زوجها الذي لا تعرف أحدا غيره في مدينة الكلاب العرجاء و أشجار الإسمنت و القمر المهاجر. هاتفه المحمول مغلق و لا تعرف أحدا من الجيران وليس معها رقم هاتف البواب. لا يوجد مصعد و الشقة المقابلة مغلقة حيث يعمل صاحبها مدرسا في الخليج.
يستحيل أن تهبط بهما من على السلم فتضع رؤوسهما في فم الوحش ، ولا يمكن أن يقفزا من الشرفة فيدق الإسفلت الأعناق الصغيرة الهشة .
هتفت في أعماقها : ليس مهما أن ترحمني .. لكن لأجل حبيبك النبي ارحم عيالي !
السعال الخانق يطوق رقبة طفلتيها . حتى البكاء لم تعدا قادرتين عليه . لم يبق سوى نظرة ضارعة يائسة . صرخت هذه المرة بصوت هادر لم ترتج له السماء و لم تعبأ به الأرض .صرخت تناشد مقام أولياء الله الصالحين الذين طاب لهم الرقاد في كهف عزلتهم الأبدية متشحين بالأخضر و رايات صغيرة لا ترفرف . صرخت تستعطف بالذات ” الطاهرة أم الحسن و الحسين ” ، تكتب بدموع عينين جميليتن كساهما الإحمرار رسالتها الأخيرة للإمام الشافعي ، تمرغ وجهها في قدمي ” نفيسة العلم “، لكن لسانها حين نطق لم يقل سوى :
– يا رب ..
و أكمل قلبها المكسور همسة العتاب وهى تخبئهما في حضنها :
-ألست موجودا ..؟
حين اقتحمت قوة المطافئ باب البيت ، هالها المنظر ولم يستوعب الأفراد المدججين بالملابس الصفراء و الخوذات المعدنية الواقية المنظر . الأم و طفلتاها تحولن إلى كيان واحد متشابك الأيدي ، ملتف الأصابع. لم يكن صعبا تخمين أنها حين أعيتها الحيلة ، لجأت إلى غرفة النوم و أغلقت الباب خلفها لعل عاصفة الدخان تنساها ولو قليلا .
كانت واهمة .
تم الدفن في مقابر العائلة علي طريق مصر – الفيوم الصحراوي بالقرب من مركز دهشور للأمن المركزي . دفن الثلاثة بنفس المقبرة بعد أن حملتهن عربة موتى واحدة ثم تابوت واحد . زاد من تأثر المشيعين معرفتهم بما حدث قبل أسبوعين . هاتفت أمها التي تعيش بأرياف كفر الشيخ: حاسة إن أجلي قرًب .. وصيتك البنات، ” تقى ” تعيش مع أبيها لأنها متعلقة به و روحها فيه أما
” تسبيح ” فتعيش معك وأنت من تربيها حتى لا يكون الحمل عليه ثقيلا.
الأم لم تأخذ كلام ابنتها علي محمل الجد ، فهى صغيرة لم تكمل الثلاثين بعد ، كما أنها بصحة جيدة .
هتف أحدهم :وحدووووه !
وخضعت الأعناق في تسليم مطلق وهي تنزه ملك الملوك الذي يطوي السموات بيمينه عن أي نقص ، واهتزت القلوب الواجفة وهي تسجد للإله الواحد الذي كان عرشه علي الماء ، وارتفع إصبع السبابة نحو السماء تقديسا لمشيئة من لا يٌسأل عما يفعل وهم يٌسألون .
وقال قائل : لكل أجل كتاب .. الميت يشعر بدنو ساعة الرحيل قبلها بأربعين يوما بالضبط !
و نهنه الجميع ببكاء متقطع باستثناء الأب . شارد حينا مثل ضوء بعيد ، مذعور أحيانا كفأر ألقوا به علي طريق سريع ، وفي كل الأحوال تسكن ملامحه نظرة ذهول لشيخ صوفي فقد حرارة اليقين . البعض أشاد بتماسكه باعتباره رضا بالقدر و صمودا في الابتلاء ، و البعض الآخر فاجأه عدم انهياره . عجوز حكيم يتوكأ على عصاه هو فقط من قال : ليته يبكي و لا يكتم بداخله .