الدُّكْتُور بَلِيْغ حَمْدِي إسْمَاعِيْل
مدرس المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية
كلية التربية ـ جامعة المنيا
نشأ التصوف الإسلامي في أكناف الإسلام والإيمان، هكذا يحدثنا الشيخ الجليل محمد الغزالي ( رحمه الله ) مشيرا إلى أن التصوف الحسن استطاع أن يحول المعرفة الدينية النظرية إلى عاطفة قلبية، ونضيف إلى ما أشار إليه الشيخ أن التصوف ترجم المعرفة النظرية إلى مجاهدات ورياضات روحية سعيا إلى بلوغ أعلى وأقصى درجات الشرف والسناء، وهذا التصوف الرائع الذي يجهله كثيرون من جهلاء العصر الحديث والداعشيين نما وترعرع على أغذية من العلم النافع والعمل الصالح المفيد. وأقطاب التصوف اجتهدوا في الوصول إلى معرفة يقينية بالله ( جل جلاله ) حتى استقر بهم الأمر إلى القول بأنه لا يعرف الله إلا الله.
ومنذ فترة وجيزة زمنيا وجدنا بعض المغالين في التطرف الفكري الذي تحول إلى تطرف في العقيدة يهاجمون التصوف الإسلامي، وهذا الهجوم مفاده أن النص الصوفي المتجدد نجح بامتهار وامتياز في تفكيك المركزيات الفكرية العقيمة التي تناقلها كثيرون بغير علم أو روية أو فهم يستحق التقدير. وربما يكمن سبب الهجوم المستدام من كارهي حركة التصوف المتجددة منذ قرون إلى القراءة الباردة للنص الصوفي التي تتسم في الأساس بالتشظي المعرفي لألفاظه الاستثنائية ومعانيه المضمرة التي تحتاج إلى قدر عالٍ من التَّأويل والتلقي.
وأخطأ الداعشيون ومن والاهم حينما استقر الفكر بأذهانهم المريضة بأن الصوفية جاءوا بنصوصهم من أجل استبدالها بالشريعة، بل المستقرئ للمشهد يعي سريعا أن نصوص الصوفية جاءت متوافقة مع شواهد وأدلة الشريعة لأن التصوف باختصار شديد ارتكز ولا يزال على مصدري الإسلام الحنيف وهما القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. لكن تكمن المشكلة الحقيقية القائمة بين أهل التصوف والحراك المجتمعي غير الطبيعي أي المتغيرات الوافدة والطارئة على المجتمعات الإسلامية في فتنة المفاهيم وعدم ضبطها والغلو في تأويلها بصورة تخرجها عن كنهها الصحيح.
وهذا ما جعلنا نفصل بين قراءتين للنصوص الصوفية؛ القراءة الأولى هي قراءة باردة للتراث النصي وهي القراءة التي يعتمدها أولئك الذين اعتادوا التربص بالتصوف ورجاله وهي قراءة أحادية إقصائية مفادها سلب حرية التفكير للآخر. أما القراءة الثانية فهي قراءة متشظية تناسب وتلائم النص الصوفي الأصلي الذي يعمل إلى تحرير العقل من تبعات الوعي الساكن، وكذلك تفجير الذاكرة الجمعية وتفتيتها لإعادة بنيتها من جديد وفق عمليات التأويل.
ومأساة المتشددين والمغالين أنهم وقعوا طوعا وربما كرها أيضا تحت سطوة التسلط والتهميش المجتمعي، وربما السلب والإلغاء من جانب أمرائهم الدينيين، الأمر الذي دفعهم جاهدين إلى الاعتماد على فهم النص الصوفي في مستواه السطحي الذي لا يتجاوز المعنى المعجمي فحسب، دون اعتماد حقيقة المتصوفة أنفسهم في نصوصهم كونها عملية تحرير لفعل قراءة الماضي والحاضر. وظن المهاجمون للتصوف الإسلامي أنهم وحدهم يستعيدون التاريخ في صورة الحاضر، لأن المتصوفة وأقطاب التصوف سعوا منذ قديم إلى رصد حركة التاريخ وإعادته من خلال نص لغوي غير محكوم بالزمان وإن ارتبط ضمنيا بظروف اجتماعية وسياسية معينة كما في حالة الحسين بن منصور الحلاج وشهاب الدين السهروردي وغيرهما. وهذا ما جعلهم يرتكنون أحيانا إلى ما يسمى بفن الإخفاء اللغوي.
فضلا عن أن من أسباب الشقاق والخلاف المستدام بين الداعشيين الرافضين جهلا للتصوف وأهله وأقطابه ومريديه هو عدم استقرار أذهانهم لفكرة أن التصوف انتقاء، واختيار، وهذا ما جعلهم بغير استثناء غير متقبلين للعلاقة بين التصوف والوعي بالمستقبل، لاسيما وأن هؤلاء ضد فكرة المستقبل، وما الماضي إلا القانون الذي يحكم كافة معاملاتهم وتصرفاتهم الآنية. وكما أشار الشيخ محمد الغزالي في كتابه الماتع مائة سؤال عن الإسلام أن هؤلاء وأمثالهم نفر من سوداويي المزاج أولعوا بالتحريم أكثر من اقترابهم للتحليل. لذلك تجدهم مهرولين وراء اقتناص كل ما يتعلق بأحوال المعرفة والنصوص الصوفية التي تتناول الفناء والكلام في الألوهية والتوحيد والمحبة والوجد والتواجد وفكرة خصال الولايا العشر، متغافلين تماما كل ما يتعلق بأحوال ومقامات شتى تضمنتها نصوص الصوفية بامتدادهم الزماني والمكاني مثل الصدق وآداب العلم والتوكل والتواضع والمعرفة.
أبو الحسن الهجويري أنموذجًا للتشظي اللغوي :
تجد أكثر المغالين لرفض التصوف لا يعقلون على سبيل المثال ما جاء بكتاب أبي الحسن علي بن عثمان بن أبي الجلابي الهجويري الغزنوي ” كشف المحجوب ” من رؤى وطروحات صوفية تحتاج بحق قراءة غير باردة لها لا تعرف للإقصاء سبيلا، ولا تفطن للإلغاء طريقا. وأبو الحسن الهجويري ولد في هجوير وهو حي يقع بمدينة غزنة بخراسان، ولد في أواخر القرن الرابع الهجري. وهذا القرن يحمل دلالات لاينبغي لدارس التصوف أن يحجبها أو يغفل عنها بالضرورة، فالحياة السياسية والاجتماعية والثقافية اتسمت آنذاك بالتسارع والتواتر غير المنتظم بإحداثياته السياسية مثل دخول ظغرل بك السلجوقي بغداد، وبداية الفترة التركية للدولة الإسلامية، كذلك تعرض الدولة العباسية إلى سلسلة من الهجمات سواء من الداخل كالدولة الفاطمية التي بدأت في فرض سيطرتها، أو من الخارج كالحملات الصليبية.
وهذا التصور السياسي جعل التصوف يأخذ منحى جديدا يقارب الإبداع والتصنيف الرسمي للنصوص الصوفية، المشهد الذي عرف بعد ذلك بظهور علم التصوف كما يشير المستشرق جوزيبي سكاتولين، وهذا العلم هو الذي أنتج بعد ذلك الأدب الصوفي الذي يعاديه كثيرون من التيارات الراديكالية المعاصرة كأمثال تنظيم الدولة، وظل المغالون في التحريم والتكفير يشيعون حملاتهم التجهيلية التي تتوسل التكفير سلاحا معرفيا ثم وسيلة إرهابية في مواجهة الآخر.
كشف المحجوب :
ويعد كتاب كشف المحجوب للهجويري عملا رصينا لأنه قصد فيه إلى مناقشة الآراء والممارسات المنسوبة للصوفية، وهي مناقشة تأويلية أنتجت طرحا أدبيا متميزا، استهدف من خلاله الدفاع عن التصوف الإسلامي ضد الاتهامات الباطلة التي أطلقت عليه، وتلك الاتهامات طالت الصوفية ونصوصهم من زاوية التمسك بحرفية النص اللغوي دون مراعاة أبعاد دلالة اللغة المتشظية التي انفرد بها النص الصوفي رغم أن الهجويري دائما كان يؤكد على الطاعة المطلقة للشريعة. وهو نفس المشهد الراهن الذي نحياه والذي يتشابه كثيرا مع ما حدث من مقتل المصلين بمسجد الروضة بالعريش في نهاية نوفمبر 2017 في مصر. وهذا الكتاب أهم آثاره وهو مكتوب باللغة الفارسية، ويعتبر أقدم الكتب الفارسية في التصوف الإسلامي. وقد قال محمد تقي بهار في كتابه «سبك شناسي» عن «كشفُ المحجوب» أنه : «كتاب نفيس قل أن يوجد له نظير في اللغة الفارسية».
ويقول أبو الحسن الهجويري في كتابه كشف المحجوب : والحقيقة التي لا جدال فيها بين المسلمين هي أن الإيمان هو المعرفة والإقرار وقبول الأعمال فكل من عرف الله عرفه بإحدى صفاته وصفاته سبحانه وتعالى على ثلاثة أنواع : أوصاف متصله بجماله وأخرى متصلة بجلاله، وثالثة متصلة به فليس للخلق طريق إلى كمال معرفته إلا إذا أثبتوا الكمال له ونفوا النقص. ومثل ذلك أهل الجمال والجلال فمن كان برهانهم جمال الله تعالى فهم يكونون في معرفتهم مشتاقين إليه دوما وقلوبهم في مقام الهيبة، أما الشوق فهو ثمرة العشق أو المحبة، وكذلك كره الصفات الآدمية لأن رفع الحجاب عن الصفات الآدمية هو عين الحقيقة”.
الوجد والتواجد :
أفاد الهجويري كثيرا من المصنفات الصوفية السابقة عليه، وخاصة مصنفات كل من عبد الرحمن السلمي، والطوسي، والإمام القشيري، وهو بصدد الدفاع عن الأحوال والمقامات التي اعترض عليها كثيرا رجال الفقه في عصرهم، فتناول موضوع الوجد والتواجد الذي نال غضبا واسعا من جانب الفقهاء المتشددين والمتمسكين بحرفية النص دون تأويله أو قراءته بصورة تفاعلية، فخصص أبو الحسن الهجويري فصلا كاملا في كتابه كشف المحجوب بعنوان الوجد والتواجد وهو بصدد مناقشة آراء وممارسات الصوفية في سياق حديثه عن الإيمان والمعرفة موضحا رؤيته الصوفية، ونختتم المقال بما سرده في فصله عن الوجد والتواجد تاركين القارئ لعقله من أجل التأويل للنص الصوفي الذي تجاوز حد اللغة السطحية متغلغلا في مضامينه وإحداثياته اللغوية التي تسعى إلى تفجير العقل لمهاراته.
يقول أبو الحسن الهجويري : الوجد والوجود مصدران: فالأول معناه الحزن، والثاني معناه الوجدان، واسم فاعلهما واحد، ولا يمكن التفريق بينهما إلا بالمصدر، فيقال: وجد يجد وجودا ووجدانا، ووجد يجد وجدا؛ بمعنى أن يحزن، وأيضا وجد يجد جدة؛ بمعنى الغنى، ووجد يجد موجدة؛ بمعنى الغضب، والفرق بينها كلها بالمصادر لا بالأفعال وهذان المصطلحان يستعملهما الصوفية للدلالة على حالتين تجليان لهم في السمع.
فالحالة الأولى متصلة بالحزن، والثانية بنيل المراد، وحقيقة معنى الحزن هو فقد المحبوب، والعجز عن نيل المطلوب، وحقيقة الوجود حصول المراد، والفرق بين الحزن والوجد، هو أن الحزن ينطبق على الأسف النفسي، وأما الوجد فينطبق على الأسف لوجود الغير في طريق المحبة، مع أن نسبة الغير لا تصح إلا لمريد الحق لأن الله سبحانه وتعالى لا يتغير عما كان قبل، وأنه ليستحيل أن نعبر عن حقيقة معنى الوجد، لأن الوجد هو الألم في المعاينة، والألم لا يصفه القلم، فالوجد إذا سر بين الطالب والمطلوب، ولا يظهر إلا بالانكشاف كما أنه لا يمكن أن نوضح حقيقة معنى الوجود لأن الوجود هو نشوة الطلب في مشاهدة الله تعالى، والطرب لا يمكن نيله بالطلب، فالوجود هو نعمة يكرم بها المحبوب الحبيب، نعمة لا يمكن أن تلحقها إشارة، أو تبينها عبارة، ورأيي أن الوجد هو ألم قلبي شديد ناتج إما عن حزن أو فرح، أو وجد، والوجود هو إزالة الحزن عن القلب، والوقوف على الأمر الذي كان سببا لذلك، فمن شعر بالوجد فإما أن يكون مضطربا بالشوق المحرق في حال الحجاب، أو مستكينا بالمشاهدة في حال الكشف إما زفير وإما نفير، إما حنين وإما أنين، إما عيش وإما طيش، إما كرب وإما طرب، وللمشايخ آراء مختلفة في الوجود أيهما أكمل، فبعضهم يقول: أن الوجود هو صفة المريدين، والوجد صفة العارفين، والعارفون أرقى مرتبة من المريدين، وعلى ذلك يكون الوجد أرقى وأكمل من الوجود، لأنهم يقولون أن كل شيء قابل للوجود يدرك، والمدرك مجانس للمدرك في احتمال التحديد، والله سبحانه وتعالى منزه عن التحديد”.