التيس… | مصطفى الجرتيني
مصطفى الجرتيني
على عادته، تناول مشروبه الصباحي المفضل.. خليط من عصير الحامض والماء الدافئ وعصير قصب السكر الممزوج بسكين جابر. تلك عادته التي دأب عليها منذ أن جمع شتاته وأكمل دينه الذي لم يبدأه بعد. سمع عبر المذياع الذي لا يفارق أذنيه أن هاته الخلائط الطبيعية تخلص الجسم من السموم وتبطل مفعول الأمراض التي تتربص بالأبدان. سكين جابر وعصير قصب السكر يعطيانه الطاقة والحيوية اللازمتين لإتمام عمله الليلي على أكمل وجه، ويقلص من خذلان الجهاز العالق بين فخذيه. سمع ذلك الرجل الذي يتكلم بلكنته الأنكلوفونية وهو يدعو إلى الإقبال على أكل كل ما هو طبيعي والإعراض عن المواد العصرية المسرطنة، فأصبح كالتيس يأكل من حشاش الأرض.
كان اليوم على موعد مع أحد الأعراس.. عرس الديمقراطية. استخرج بطاقته بعد شق الأنفس من صندوق مقفل مخفي مع أغراضه بأحد الرفوف بعيدا عن أعين الزوجة والأولاد. إنه يحترز كثيرا خوفا على وثائقه من التلف والضياع. كناش الحالة المدنية مغلف بإحكام عند محترف التغليف، وثائق الأرض والإرث ووصية المرحوم ملفوفة بغطاك بلاستيكي أنيق يسمسحه أكثر مما يمسح مؤخرته بعد قضاء حاجته، كاغيط الجواج هو الآخر مصور من عشرات النسخ وموضوع بدقة وضبط شديدين.. لا يأتمن أحدا على أغراضه ووثائقه، حتى زوجته لا تحظى بثقته حين يتعلق الأمر ب”الأوراق”. يحكم إغلاق الصندوق ويعلق مفاتيحه بسرواله القندريسي ليل نهار. الثقة لا تجد مكانا لها داخل قاموسه..!.
كيف لا يأخذ الدروس والعبر وهو الذي فقد في غفلة منه أوراق اليناصيب التي واظب على جمعها كلما زار “البوسطة” لاستخلاص الحوالات التي يبعثها له أولاده مع انصرام كل شهر. لم يسبق له أن كان عرضة لمثل هذه الحوادث الفجائية التي أتت على أوراق ظل يحرص عليها أشد الحرص لأمد طويل. لكن هذه المرة كان “المكتوب” الذي لا مفر منه. كان قد سافر إلى “دار بيضا” للمشاركة في إحدى المناسبات مع أقرانه وعائلته وقبيلته وعشيرته. كان يوم الحسم ولا يمكنه أن يتخلف عن الحضور للحدث كما كان يفعل دائما في كل المناسبات. ركب البيكوب وقصد الشارع نازلا بكل “ثقله”. اليوم، عقد العزم على إخلاء سبيل رجل من الصحراء.. هكذا قالوا له وهو يهم بالصعود إلى البيكوب. السرعة تذهب التركيز والوعي أحيانا.. لم أوراق يناصيبه في قب جلبابه، بسمل، طلب النصر من عند الله ثم صعد.. مع طول الطريق، فعلت الرياح فعلتها، فتطايرت الأوراق في الهواء لتختفي إلى الأبد…
اليوم، صحا الرجل باكرا وقبل موعده المعتاد. فرك أصابعه جيدا بالماء والصابون مركزا على إبهام يده اليمنى، لبس جلبابه الناصع البياض، وضع بطاقته بإحكام داخل جيب سرواله القندريسي وقصد المقهى المجاور للبيت. هناك طلب قنينة ليمونادا وراح ينتشي بشربها محدثا في كل رشفة ضجيجا يهز أركان المقهى. كان يشرب متمهلا في شربه.. لازال الوقت لم يحن بعد لإعطاء الإشارة لحشو الصندو بالأوراق وطلاء الأباهم بالصباغة الزرقاء.
أعطيت الانطلاقة، هرول ولم يتوقف إلا وهو وجها لوجه مع صندوق الزجاج.. نظر إلى الأوراق الكثيرة، تذكر أوراق اليناصيب التي فقدها إبان مسيرة “دار بيضا”، استرجع شريط الأحداث، أشر على رمز رجل الصحراء، بلل إبهامه بالمداد ثم أقفل عائدا لشراء قنينة الغاز التي أفرغت ليلة أمس…
مصطفى الجرتيني 2016-10-09