بقلم : بيير بورديو
ترجمة : سعيد بوخليط
تقديم : سنة 1998، سلط السوسيولوجي بيير بورديو الضوء على الصعوبات الفكرية والسياسية التي تطرحها هيمنة الذكور. إذا كان الاغتصاب أو العنف الزوجي بمثابة تعبير شرس، ففي أغلب الأحيان تمر هذه القوة بطريقة خفية، بل وأمام أعين النساء أنفسهن. بالتالي، ليس من السهل إذن إبرازها والتصدي لها.
يستحيل بالتأكيد اقتحام موضوع على قدر من الصعوبة قبل أن أتمرن عليه وفق كل ما انطوى عليه بحثي من منطق. لم أتوقف أبدا، في الواقع، عن الاندهاش حيال ما يمكننا سميته بمفارقة الدوكسا (مجموع الاعتقادات والممارسات المجتمعية التي صارت عادية، ومسلما بها، ولا ينبغي مساءلتها ثانية) : انطلاقا من كون نظام العالم مثلما يبدو، بمعانيه المتفردة والمحظورة، حسب الدلالة الخاصة أو المجازية، ثم موجباته وعقوباته، يبقى عموما محترما، بحيث لا مجال للانتهاك أو التقويض، للمخالفة أو “ارتكاب الحماقات” (يكفي مجرد استحضار الاتفاق المدهش لآلاف القصديات – أو الإرادات- التي يحتمها سياق سير سيارة خلال خمس دقائق وسط ساحة الباستيل أو الكونكورد في باريس). أو الأكثر إثارة أيضا، أن النظام المستتب، يتأبَّد نهائيا بسهولة، من خلال علاقات هيمنته، وحقوقه، وسلطه، وامتيازاته، وتحكٌّمه، ويلقي جانبا بعض الأحداث التاريخية، ثم يحول معطيات حياة يصعب تماما تحملها، فيجعلها تبدو غالبا جدا كما لو هي مقبولة بل وحتى عادية.
وقد رأيت كذلك دائما في الهيمنة الذكورية، ثم الطريقة التي تفرض بها ويتم تحملها، نموذجا جليا لهذا الإذعان اللامعقول، ومفعولا لما أسميه بالعنف الرمزي، وهو عنف ناعم، غير محسوس، لامرئي بالنسبة لضحاياه أنفسهم، يُمارس حسب المطلوب عبر قنوات محض رمزية للتواصل والمعرفة أو بصيغة أكثر تدقيقا، من خلال الإنكار، ثم الإقرار والعاطفة كأقصى حد.
هذه العلاقة المجتمعية والاعتيادية على نحو غير مألوف تمنح مع ذلك فرصة واضحة قصد تناول منطق الهيمنة المُمَارس باسم مبدأ رمزي معروف ومعترف به من طرف المسيطِر وكذا الخاضع، لغة (أو تلفظ)، أسلوب حياة (أو طريقة التفكير، التحدث أو التصرف)، وبشكل عام، خاصية مُمَيزة، رمزية أو مُحدِّدة، حيث أكثرها فعالية رمزيا تلك السمة الجسدية التعسفية تماما غير المُتوقعة المتمثلة في لون الجسد.
نرى جيدا بالنسبة لهذه المعطيات أن الأمر يتعلق قبل كل شيء باستعادة الدوكسا لخاصيتها المتناقضة في ذات آن تفكيك الميكانيزمات المسؤولة عن تحويل التاريخ إلى فطرة ثم جعل الثقافي التعسفي طبيعيا. ولكي نكون، في مستوى تناول، حسب فضائنا الخاص ورؤيتنا الذاتية للعالم، وجهة نظر الأنتروبولوجي القادر في الوقت نفسه كي يعيد إلى مبدأ الرؤية والانقسام (الناموس)المُؤَسِّسِ للاختلاف بين المذكر والمؤنث الذي نجهله، سمته التعسفية، الطارئة، وكذلك في ذات الوقت، ضرورته السوسيولوجية.
ليس صدفة، أنه حينما أرادت فيرجينيا وولف (روائية ومفكرة انجليزية 1941-1882) تعليق ماسمته بروعة : “القدرة التنويمية للهيمنة”، فقد تسلحت بقياس إتنوغرافي، بحيث ربطت وراثيا عزل النساء قياسا إلى طقوس مجتمع بدائي : ( (حتما، نعتبر المجتمع مثل فضاء تواطؤ يبتلع الأخ حيث الكثير منا له مبررات احترامه على مستوى الحياة الخاصة، ويفرض مكانه ذكرا مخيفا، صاحب صوت رعد، وقبضة حديدية، و يُرسم بالطبشور بكيفية سخيفة، فوق مساحة العلامات، هذه الخطوط الرمزية الفاصلة المنحصرة بينها الكائنات الإنسانية، متصلبة، ومنفصلة، ومصطنعة. في هذه الأمكنة، وقد زُين بالذهب والأرجوان، يجمِّله ريش مثل وحش، يواصل شعائره الرمزية ويتمتع بملذات سلطوية ومهيمنة مشبوهة، بينما نحن”نساؤه”، محتجزات داخل منزل الأسرة دون أن تتاح لنا المشاركة في أي من المجتمعات العديدة التي يتألف منها مجتمعه)).
“خطوط فاصلة رمزية”، “شعائر رمزية”، هذه اللغة، لغة تغيير الوجهة السحرية والتحول الرمزي الذي يحدثه التكريس الشعائري، مبدأ ولادة جديدة، تشجع على توجيه البحث نحو مقاربة قادرة على ضبط البعد الرمزي تحديدا للهيمنة الذكورية.
ينبغي التماس تحليل مادي لاقتصاد الثروات الرمزية وسائل الهروب من التعاقب الضار بين “المادي”و”الروحي”أو “التصوري” (ترسخ اليوم من خلال التعارض بين الدراسات المسماة “مادية”، التي تشرح عدم التماثل بين الأجناس من خلال شروط الإنتاج، ثم الدراسات المسماة “رمزية”، غالبا مدهشة لكنها جزئية). لكن، قبل ذلك، وحده استعمال خاص جدا للإتنولوجيا يمكنه السماح بتحقيق المشروع، المقترح من طرف فرجينيا وولف، بموضعة علمية لعملية محض ملغزة يعتبرالانقسام بين الأجناس نتاجا لها، أو بمعاني أخرى، معالجة التحليل الموضوعي لمجتمع منظم من جهة إلى أخرى وفق مبدأ التمركز الذكوري – تقليد منطقة القبايل- كأركيولوجيا موضوعية للاوعي، بمعنى مثل أداة تحليل اجتماعي حقيقي.
يعتبر هذا الالتفاف حسب تقليد دخيل ضروريا من أجل تكسير علاقة الألفة المخادعة التي تربطنا بتقاليدنا الخاصة. المظاهر البيولوجية والتأثيرات الواقعية الفعلية حقا التي أنتجتها، على مستوى الأجسام والأدمغة، مثلت عملا جماعيا طويلا لإضفاء الطابع الاشتراكي على البيولوجي ثم إضفاء الطابع البيولوجي على المجتمعي ويقترنان بغية قلب العلاقة بين الأسباب والنتائج ثم العمل على إبراز بناء مجتمعي مُجَنّس (“الأجناس”باعتبارها هابيتوس جنسي) كأساس في الطبيعة للتقسيم الاعتباطي الذي يعتبر مبدأ وحقيقة وكذا تقديم الحقيقة، التي تُفرض أحيانا على البحث نفسه.
هكذا من النادر أن تناول علماء النفس ثانية من جهتهم الرؤية المشتركة للأجناس مثل مجموعات منفصلة جذريا، دون تقاطعات، ويجهلون بالتالي درجة الاسترداد ضمن توزيع الأداءات الذكورية والأنثوية، وتباينات (السمو)بين الاختلافات المُلاحظة في مختلف الميادين (من التشريح الجنسي إلى الذكاء). أو، الشيء الأكثر فظاعة، انقيادهم المتكرر لحظة تطلعهم إلى بناء ووصف موضوعهم، خلف مبادئ الرؤية وكذا التقسيم الذي تتضمنه اللغة المألوفة، سواء حين سعيهم إلى قياس الفوارق التي تستحضرها اللغة – مثل سيكون الرجال أكثر ”عدوانية” والنساء أكثر “خشية” – أو جراء استعمالهم لعبارات عادية، بالتالي ضخامة أحكام القيمة، من أجل وصف تلك التباينات.
لكن هذا التوظيف شبه التحليلي للإتنوغرافيا والذي تسقط عنه حقوقه الجنسية من خلال انتقاله إلى مقاربة تاريخية، لِما يبدو طبيعيا جدا داخل النظام المجتمعي، أي التقسيم بين الأجناس، ألا يوشك بتسليطه الضوء على الثوابت واللا-متغيرات – هي المصدر ذاته لفعاليتها السوسيوتحليلية- ومن خلال ذلك، تأبيدها، بتأكيد تمثيل محافظ للعلاقة بين الأجناس، مما يكثف أيضا أسطورة ”المؤنث الأبدي”؟.
هنا ينبغي التصدي لمفارقة جديدة، متعلقة بكبح ثورة شاملة على طريقة دراسة ما أردنا دراسته تحت أنواع”تاريخ النساء” :ألا تلزم تلك اللا- متغيرات، ومن ورائها مختلف التغيرات المرئية للوضع النسائي، باحتراز ضمن علاقات الهيمنة بين الأجناس، كي نتناول كموضوع متميز الميكانيزمات والمؤسسات التاريخية، التي لم تتوقف على امتداد التاريخ، في انتزاع هذه الثوابت لصالح التاريخ؟
لن تكون هذه الثورة في المعرفة دون نتيجة عملية، لاسيما بخصوص مفهوم الاستراتجيات الموجِّهة لتغيير الحالة الراهنة لعلاقة القوة المادية والرمزية بين الأجناس.
إذا كان صحيحا أن مبدأ تأبيد علاقة الهيمنة تلك، لا يوجد- أو مبدئيا على العموم- في إحدى الفضاءات الأكثر تجليا لتمرينه، بمعنى داخل وحدة العائلة، التي ركزت حولها خطابات نسائية معينة جل أنظارها، بل بين طيات سلط مثل المدرسة أو الدولة، أي أمكنة إعداد وفرض أسس سيطرة، ثم تتمرس داخل الفضاء الأكثر خصوصية، هو حقل فعل ضخم يجد نفسه مفتوحا أمام نضالات النساء، المدعوات كي يأخذن فعليا مكانا أصليا، وإيجابيا، صوب الصراعات السياسية ومختلف أشكال الهيمنة.
* المرجع :
pierre Bourdieu :in ;Manière de voir :Janvier2017 ;pp :74-77
http ://saidboukhlet. com/