– أدعى الحاج عبدالكريم. ولدت في مراكش في يوم حار بشكل استثنائي. متزوج من إمرأة صقلية. وأب لثلاثة أطفال يعرفونك ويحبونك. أنا للأسف لا أقرأ. زوجتي هي التي تقرأ لي. لا أقرأ، لكن لدي خبرة في الحياة، فيما هو مرئي، وما ليس كذلك. مهنتي؟ جعل الأجانب يحبون بلدي، تقديمه لهم بجماله وتعقيده. لكن ما أتى بي اليك (اللحظة التي انتظرتها طويلا)، هو الرغبة بأن أحكي لك قصة. قصة حقيقية. أنت كاتب، ألست كذلك ؟ استمع الي إذن. القصة هي قصة ابراهيم، الرجل الهاديء، الطيب، الذي يحاول أن يعول أسرته، إنها قصة مصير شخص، وجد نفسه على طريق الشر، اسمع…
كان الحاج عبدالكريم وسط صالون، وكان المسافرون قد هرعوا للاستماع اليه:
كان قد مضى وقت طويل منذ كف السياح عن الوقوف أمام ابراهيم وثعابينه. فلم تعد الثعابين، وقد تعبت وتقدمت في العمر كثيرا، وفقدت اليقين، تستجيب لموسيقى حاويها.
عبثا غير الناي، وغير اللحن. بقيت الثعابين بالكاد تخرج رأسها، إما لأنها مذعورة أو نائمة. والحل الوحيد لجعل الاستعراض جذابا من جديد، هو تغيير الحيوانات بدلا من تغيير الآلة الموسيقية. قرر ابراهيم أن يضحي ويشتري أفعى لامعة، فتية وحيوية. جلبت اليه الأفعى من قرية مشهورة بزواحفها. لاطفها، ضايقها، ثم عزف لها قطعة موسيقية من تأليفه. كانت موهوبة جدا، ترقص بشكل غير اعتيادي. كانت تتثنى وفق المراد مشبعة الايقاع بصورة دقيقة، مادة لسانها كي تضبط الترنيمة. استعاد ابراهيم ثقته بنفسه. فتنت الثعابين بالأفعى الزرقاء الجميلة.
في الليلة التالية رأى ابراهيم حلما غريبا. كانت الساحة الكبيرة مقفرة ينيرها بدر تام. كان جالسا في الوسط، مصالبا رجليه. لم يكن يستطيع الحراك، حتى ليقال إنه كان مثبتا الى الأرض بواسطة لاصق خاص. مقابله ظهرت الأفعى بملامح شابة زرقاء اللون، لم يستطع أن يعرف إن كانت ترتدي شالا أزرق، أم أن ذلك كان لون جلدها. كان لها جسد امرأة ورأس أفعى. راحت تكلمه وهي تدور حوله: “مساء هذا اليوم لعبت اللعبة، وأريتك ما أنا قادرة على فعله. لست تلك التي تظن. لن تحكم علي بالتثني في سبيل نيل إعجاب سياحك. أستحق شيئا أفضل. أنا شابة أرغب أن أعيش وأركض في الحقول وأحس بالانفعال. أرغب أن أختزن المتع والذكريات لأيام شيخوختي. إذ كان سياحك ينشدون الانفعالات القوية، فليس أمامهم سوى الذهاب الى الامازون، أو الى بلد الأحجار التي تملك ذاكرة. أنذرك إن قدمتني في استعراضك، ستندم… مع أني لست واثقة إن كنت ستجد الوقت كي تندم على أي شيء…”.
كانت وهي تكلمه، تدور حوله، ملامسة يده أو وركه. حاول الاجابة، لم يستطع اخراج صوته من حنجرته. كان مخدرا. وكانت، هي الواثقة من نفسها، تتابع حديثها: “لا تحاول أن تشرح لي مشكلتك وتستدر شفقتي. تخل عني تسلم. لدي الكثير لأفعله. هذا فصل جني المحاصيل، وعلي أن أعود لأقبع تحت الأحجار. أحب طراوة أيدي الفتيات اللواتي ينحنين لجمع القمح. سياحك يسببون لي التقزز. إنهم ليسوا جميلين. وأنت تكتفي بإكراميتهم الزهيدة. ليكن عندك قليل من الكرامة. الآن بامكانك الانسحاب. الساحة ستمتليء. الشمس ستشرق. وأنت ستفكر. إذا أردت أن تحظي بالسلام، أعد لي حريتي.”
استيقظ ابراهيم مذعورا، مرتجفا ومحموما. فتش في الصندوق الذي تنام فيه الثعابين. كانت الأفعى هناك، مطمئنة وغارقة في نوم عميق. توضأ بعد أن اطمأن، ثم صلى صلاة الصبح. رفع يديه وسأل الله العون والحماية: “يا الله، أنت الكبير والرحيم. احمني من السوء ومن عديمي الضمير. أنا انسان ضعيف أكسب لقمتي بفضل الحيوانات. ليس لدي ما أحارب به الشر، ولا ما يمكنني من تغيير مهنتي. الزمن صعب. نحن حواة أبا عن جد. ولدت ونشأت وسط الزواحف. لم أشعر بثقة تامة بها قط. إنه غدارة. أنا مسلم صالح، لا أؤمن بالتقمص، ولكني ألتقي بأشخاص قلوبهم وأرواحهم هي قلوب وأرواح أفاع عتيقة، غرقت في الرياء والخبث.
لم يكن من عادته أن يصلي وأن يبرر نفسه. منذ سنين طويلة وهو يمارس هذه المهنة دون أن يطرح على نفسه الأسئلة، هزه حلم الأمس فقد كان فيه شيء ما حقيقي. شعر ابراهيم بالخوف. خوف من حادث ما. خوف من العين الحاسدة.
كان عليه ذلك اليوم أن يرقص ثعابينه في فندق كبير أمام جمع من السياح الذين دفعوا مبالغ اضافية ليشهدوا ذلك العرض ذي الغرائبية المضمونة: رؤية أفعى ترقص على وقع موسيقى انسان جبلي. استذكر ابراهيم أحد الأ دعية قبل مغادرة البيت. تجنب أن يركب دراجته، وعلق حول رقبته يدا فضية. لقد تم من حيث المبدأ، طرد الخوف. وصل الى الفندق في الساعة المقررة. كان السياح قد انتهوا للتو، من تناول أكلة محلية وشربوا نبيذا أو بيرة. كانوا سينين، يخالطهم النعاس قليلا. قدم المذيع ابراهيم “سيداتي سادتي نقدم لكم الآن، ما طالما سمعتم عنه دون أن تروه قط. ستشاهدون ما يصنع الفرق بين الشمال والجنوب. ستشاهدون ما ليس من السحر بل من الشعر: أشهر حاو في الساحة. الرجل الذي يخاطر بحياته لكي يمنحكم المتعة. نقدم لكم، ابراهيم وثعابينه..”
كانت آلات التصوير مهيأة. بعض السياح لم تظهر عليهم الاثارة كانوا يشربون الشاي بالنعناع مع الكعك. ظهر ابراهيم واهيا ومترددا، حيا الجمهور بانحناءة خيل له أثناء انحنائه، أن لمح امرأة الحلم الزرقاء. رأسها رأس عصفور وترتدي جلابية زرقاء تشد جسدها، كانت بدون ثديين تقريبا. وتجلس على غصن شجرة، تؤرجح ساقيها مثل طفلة. عزف ابراهيم على الناي مؤخرا لحظة فتح صندوق الثعابين. طار النعاس من أعين السياح. ثبت الجميع انظارهم على الصندوق. دفع ابراهيم الغطاء وغار بيده في جو في الصندوق. أمسك بالأفعى. في الواقع، هي التي تشبثت بمعصمه. في اللحظة التي كاد أن يداعب رأسها فيها، لدغته. كانت ما تزال تحتفظ بسمها، رغم أنها أفرغت منه أمام عينيه حين اشتراها. سقط جثة هامدة. امتلأ فمه بالدم والزبد الأبيض. كان هذا الزبد سما. ظن السياح أنهم أمام مزاح ثقيل. احتج بعضهم، وقد شعر بالاحباط، وتقيأ آخرون غداءهم وقد هزهم هذا الموت. التقطت الصور كذكرى لموت فجائي. ذكرى للفنان الذي مات على الخشبة.
نقلت جثة ابراهيم الى المشرحة الرئيسية وضعت في الدرج رقم 31.
—-
2
على غلاف كتاب القراءة المدرسي الذي يحمل عنوان (سم2) يبدو الطفلان على وفاطمة، يمسك كل منهما بيد الآخر، على طريق المدرسة. كبر الطفلان. ومنذ الطفولة، وعد كل منهما للآخر. كان بوسعهما أن يؤلفا زوجا من البرجوازيين الصغار ناعمي البال، الذين لا يثيرون المشاكل، العاقلين مثل الصورة التي حلم بها الآلاف من تلامذة المدارس. تزور علي وفاطمة لأنهما متحابان، ولأنه لم يكن بمقدور أحد منع هذا الزواج. رغم المظاهر، كانت هناك أشياء عديدة تفرقهما. فقد درس علي واشتغل في شركة للقطاع الخاص. أما فاطمة فتنتمي لوسط متواضع وبالكاد تعرف القراءة والكتابة. كان يقال عن علي بأن لديه نظرة “تسقط الطير من أعلى سمائه”؛ ويقال أيضا إشارة الى غرامه بالنساء، “عيناه خضراوان”، هو من كانت عيناه سوداوين. كان يحب المشروب، والقيادة بسرعة، وسرقة نساء الآخرين. وفاطمة امرأة معنية ببيتها وبطفليها، تهتم به وتكرس نفسها كليا لزوجها الذي جعلها في حالة انتظار دائم له. امرأة قانعة بمصيرها، ليست ماهرة جدا، لكنها حاضرة دوما. لا تقدم لزوجها أية مفاجأة، ولم يعد في شخصيتها، ما يخفي عليه. امرأة ممتلئة بحسن النية والارادة الطيبة. امرأة بلا دفاع. لطافتها الزائدة أشبه بالبلادة. ومثلما فعلت أمها وجدتها تعايشت فاطمة مع الضعف الهاديء الى اليوم الذي قررت فيه أن تعترض، أن تفعل شيئا ما كي تبقى (علي) بقربها. لكن حياة علي كانت في مكان آخر. وفي الظاهر، لم يعد هناك ما يمكن أن يبقيه في ذلك البيت الذي يثقل عليه الروتين ويجعله كئيبا. عندما تجرؤ فاطمة على الاحتجاج، كان علي يوجه لها صفعتين ثم يمضي صافتا الباب. لم يخف مغامراته المتعددة. كان يغازل الفتيات، ولم ينكر ذلك ويعتبر أنه ليس مطالبا بكشف حساب أمام أحد كان ذلك يؤجج غيرة فاطمة. غيرة مرضية. لم يستطع الأطباء إعادة زوجها لها. نصحوها بالمهدئات. لم تجرؤ فاطمة على مصارحة أهلها. لكن جيرانها أحسوا بتعاستها. قررت يوما استشارة عرافة: “زوجك جميل. إنه يخدعك وسيخدعك على دوام. الأمر أقوى منه. أرى جمهرة من النساء الجميلات يحطن به، ويردن تقبيله. إنه يتمتع بقدرة هائلة، ويستطيع منح النساء ما يعجز آخرون عن منحه لهن. كما لو أنه ولد كي يشبع جميع اللواتي ربط القدر مصيرهن برجال عاجزين، يقوم دوره على معالجة الأضرار. لن تستطيعي فعل شيء. هذا النوع من الرجال لم يصنع للزواج والحياة الأسرية. حتى إن خبأته في سجن، سوف يعثرن عليه ويأخذنه منك. كوني شجاعة ! هذا كل ما أستطيع قوله لك يا ابنتي !”.
شعرت فاطمة باليأس. أسرت لـ(خدوج) جارتها التي تعمل ممرضة في مشفى البلدية. لم يكن بوسع خدوج إلا أن تكون شريكة لفاطمة، فقد حاولت أن تجذب (علي) اليها لكنها فشلت. وهي لم تكن فقط تفهم غيرة واضراب صديقتها، بل كانت تشاركها فيهما. اقترحت عليها الذهاب الى ساحرة عرفت بقدرتها على حل مشاكل الأزواج. لها مكتب في شقة صغيرة وتستقبل الزبائن بناء على موعد. كانت امرأة شابة، عصرية قامت بدراسات نفسية تطبيقية. لم يكن لها هيئة الساحرات العجائز المريبات والكئيبات. طلبت من فاطمة عرض مشكلتها. سجلت ملاحظاتها وطرحت أسئلة محددة.
– تريدين إذن. استعادة زوجك. تريدين أن يكون لك، لك وحدك ؟ أستطيع أن أصف لك حبوبا تذيبينها في قهرته الصباحية، لكن فعاليتها ليست أكيدة. قد أصف لك أيضا، هذه العشبة التي تمزج مع الخبز. لكن هناك خطر التسمم. وأنت تريدينه بصحته، وليس عليلا كما أفترض..
همست فاطمة بشيء ما في أذن خدوج ثم توجعت للخبيرة:
– لا أريده أن يصير عاجزا أو كالخرقة. أنا أريده كما عرفته كما أحبه، قويا، عاشقا، وحنونا.
– في هذه الحالة سأعطيك الوصفة القديمة الجيدة، وصفة أجدادنا. كرة من عجينة الخبز دون خميرة، أبقيت ليلة كاملة في فم ميت. ويفضل أن يكون ميتا طازجا. وليس جثة نسيت في المشرحة. يكفي أن يعض زوجك هذه العجينة. أن يأكلها حتى يتغير ويعود اليك كما تحلمين به. على فكرة، يجب أن تنتقل العجينة من فم الميت الى فمه. يمكن في حال تمكنك من جعله يأكلها، تنفيذ العملية أثناء النوم.
ذكرت فاطمة صعوبة العثور على جثة، لكن خدوج غمزتها. حاسبت السكرتيرة الجالسة الى مكتبها في المدخل، بجوار غرفة الانتظار.
بعد ظهيرة ذلك اليوم بالذات، جهزت العجينة. لفتها خدوج بمنديل وذهبت الى المستشفى. كانت مناوبة تلك الليلة.
أحيانا، تصنع المصادفة الأشياء بشكل جيد. نزلت الي المشرحة، فتحت بعض الأدراج باحثة عن آخر ميت وصل، كي تضع العجينة في فمه، كان رقم 031 ما يزال فاترا. وكان فمه نصف مفتوح ومازال فيه زبد أبيض ودم. لم تجد الممرضة أية مشقة في دفع العجينة بين أسنان الميت. وفي الصباح الباكر أحضرتها ملفوفة بنفس المنديل. كان (علي) نائما بعمق. فتحت فاطمة فمه برفق ووضعت العجينة فيه. عضها دون أن يدري. لم يستيقظ علي. لقد مات. كان السم ما يزال فاعلا.
أغمي على فاطمة. عندها ظهرت لها المرأة الزرقاء برأس الأفعى، وأسمعتها الحديث التالي: “السحر غير موجود. أما الحماقة، فبلى. أراد أحدهم أن يحتفظ بي دون إرادتي. مات بسبب ذلك. وحاولت احداهن أن تسير عكس تيار النهر، فخسرت كل شيء. الأول تنقصه الكرامة، والثانية ينقصها الكبرياء. في هذه الحالة أو تلك، أنا من يستخلص العبرة من القصة، يجب الحذر من الأفاعي، خصوصا عندما يلعنهن القمر، في المساء الذي يكون فيه بدرا مليئا بالمرارة والقرف. وداعا يا ابنتي. ستنامين أخيرا بسلام والى الأبد. كما ترين أنا لست شريرة تماما…”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة قصصية للطاهر بن جلون، بعنوان “الحب الاول… الحب الاخير.”
ترجمة: روز مخلوف (مترجمة من سوريا)
الطاهر بن جلون (ولد في 1 ديسمبر 1944، فاس) كاتب مغربي فرنسي. انتقل إلى طنجة مع أسرته سنة 1955 حيث التحق بمدرسة فرنسية. وكان قد اعتقل عام 1966 مع 94 طالب آخر لتنظيمهم ومشاركتهم في مظاهرات 1965 الطلابية، وهي تجربة دفعته بحماس إلى تبني نوع آخر من المقاومة أساسه الكلمة لا الفعل. درس الفلسفة في الرباط ثم بدأ يدرسها إلى غاية 1971 حين إعلان الحكومة المغربية عزمها تعريب تعليم الفلسفة. ورداً على هذه الخطوة، غادر المدرّس الفرنكوفوني المغرب صوب فرنسا حيث حصل على شهادة عليا في علم النفس. وبدأت مسيرته في الكتابة بعد فترة قصيرة من وصوله إلى باريس حيث عمل كاتبا مستقلا لصحيفة لوموند وبدأ ينشر الشعر و الرواية. ويكيبديا