إكسير التحفة الفنية أو كيمياء الإبداع | أزدام عبد السلام
عنوان هذا المعرض التشكيلي الذي يجمعنا اليوم في محطته الثانية، هنا بمدينة فاس وبعد مدينة وجدة في نفس اليوم من الشهر السابق 4 يناير 2017 ” كيمياء بصرية في الجمع ” .
لماذا اخترنا هذا العنوان ؟ ما الطقوس المتآنسة بين سبر الكيميائي وبحث التشكيلي ما تجليات الإكسير والحجر الفلسفي عند هؤلاء وأولائك؟
هؤلاء الكيميائيون التشكيليون. يمكن التقرب منهم على مستوى ثلاث أجناس فنية. الفوتغرافيا التصوير الصباغي والنحت.
-1 : الفوتوغرافيات هنا في هذا المعرض مولعات بالقبض على وضعيات لمواضيع عدساتهن تحت الكثافة الحدسية النابعة من رهافة إحساسهن وحدة رؤيتهن وبفعل شدة حساسيتهن لتوهجات الضوئية وانخفاضاته يمنحن عمقا فنيا لصورهن في الزمان والمكان في لقطة تخلد لحظة وتوقفها منصوبة على سند بصفة الخلود على طريق الكيميائي…
-2 : الفنانون الصِباغيون Artistes peintres يبحثون خارج القواعد الكلاسيكية والمعايير الجاهزة و عن طريق الاشتغال بالأشكال والألوان والمواد المتاحة يرمون إلى الارتقاء إلى الحجر الفلسفي الخالص “La pierre philosophale ” بهدف تجاوز الواقع وبغية تميز كل واحد منهم بأسلوبه ” le style ” كي يمنح ذاته جرعة إكسير بصري يعطي نسبيا صفة السرمدية لتحفته…
– 3 : النحاتون كذلك ينقبون في تعرجات وثنايا الأتربة والخشب والصخور والمعادن والمواد المركبة “matières composites” ليشكلوا ويركبوا منها أجساما محجمة “ronde-bosse” تتوهج بحياة بهية وتخرج من وحشية مادتها الهيلانية غير المتعينة لتحاور عين المتلقي وروحه بحثا عن جرعة هذا الإكسير في صيغ استعارية مرحة..
كل هؤلاء التشكيليين الرُّحل الذي يَمْثُلُون بهذا المعرض المتجول “كيمياء بصرية في الجمع”، إن هؤلاء مثل مسافرين فرحين، سعيهم تقاسم فرحة أحجارهم الفلسفية وفرحة تجوالهم البصري مع جمهور عريض، هنا وهناك، كما تُنشد الأغنية الجميلة ل”جرار لونورمان” Gérard Le Normand:
La balade de gens heureux….
جماعة من الأناس الفرحين عبر الوطن الكبير.
هذا المجمع من الفنانين “الكيميائيين” الذين لم يختاروا أن يعرضوا سوى بالمراكز الحضارية الكبرى، حيث يعرف الفن رواجا وحيث المال لا رائحة له. كل هؤلاء وبكرم موصوف، اختاروا أن يعرضوا جماعة عشقا للفن وعشقا للقاء جمهور محب للفن أو مجرد جمهور فضولي، ومن أجل جمهور مطلع أو جمهور عابر ليتحاور الإبداع حتى مع قاطني ما يُطلق عليه في اللغة المتداولة “البَلْدات النائية” ” les petits patelins “.
“منظمة- الألعاب العالمية-المغرب” هذه الجمعية المنظمة لهذا المعرض أخذت هذه المبادرة منذ ثلاث سنوات، كي تُقرّب المسافة بين الفنانين التشكيليين والجمهور بالمدن الكبرى والمدن الصغرى دون أيّة مفاضلة قصوى.
ما يصبو له التشكيليون “الكميائيون”، إذن، هو التواصل مع أوسع جمهور ممكن. فكل منهم، داخل مقصورته الصغيرة أو بمغارته أو محترفه، وبشغف، يرتبط ب”حجره السحري” كمثل كيمائي، يبحث، ينقب، يرصد، يخطط، ويحرق كقدماء الكيميائيين بمصر الفرعونية وبالصين القديمة. كي يفضي به جهده إلى العثور على هذه المادة الخفية والعجيبة لتحويل المعادن الدنيا إلى مواد سامية وخالدة كالفضة والذهب.
وكما كان يتمنى جابر ابن حيان (843-768) والذي كان أكبر ممثل للكيمياء ما قبل العلمية التي تأسست في القرن 18 م. حيث يرى أنه بالإمكان تحوي الحديد والرصاص والنحاس إلى فضة أو ذهب كمادتين نبيلتين وسرمديتين. يلزم لذلك فقط العثور على الجر الفلسفي أو ما كان يُسمى في الأصل اليوناني “Le Lapis Philosophorum” ، عن طريق إجراءات عملية مثل التبخير، التقطير، السحق، التخمير، الحرق، الصهر، والتذويب… للحصول على مبتغى ككيميائي، ثم بلوغ انج سائل الخلود للتحفة الفنية أو لصاحبها وهو الإكسير أو الحجر الفلسفي (السحري).
فنانونا وعلى نس المنوال يقطعون، يخلطون، يخططون، يُكشطون، يُفركون، يُشكلون، يحرقون، يسحقون، ويلاحقون أشعة الشمس ليختاروا منها الوصلة الملائمة التي تُفضي إلى انجاز قياسي أسمى في انتظار انجاز أسمى، وفي انتظار فضاء بهي يتمّ فيه تقاسم بهجة الرائي والمرئي، كما هو الشأن اليوم هنا برواق “محمد القاسمي” بفاس والذي اختارته “منظمة-الألعاب العالمية-المغرب” هذا الشهر فبراير 2017. هنا والآن ولاحقا بأروقة أخرى في الأشهر القادمة وبمدن أخرى.
ألا يكون هذا الفن بهذه الاستعارة كيمياءً؟ وبما أن كل تُحفة فنية، يُمكن أن تحيى زمنا ما فوق زمن مُبدعها، وتمنحه حياة أخرى بيْن أحياء حقبٍ لاحقة عليه. ولأن قيمتها تكمن في ذاتها كقيمة فنية ولا تكمن في المادة الفنية لمُبدعها والآيلة للسقوط في ثنايا الأديم حتما. فهل يُعقل ألا تكون التُحفة التشكيلية مثلها مثل الذهب أو الفضة والتي لمتكن معدنا في الأصل وإنما صنعة كيميائية، ولو في حلم المُبدع.
الكيميائيون كان حُلمهم أن يتعالوا على الموت ببلوغ الخلود، والفنانون التشكيليون لا يختلفون مجازيا عن وجهة النظر هذه، إنشاد الخلود.
أزدام عبد السلام 2017-02-07
شكرا لمجلة الموجة ولطاقمها على نشر هذه الكلمة
أزدام عبد السلام