أنجز الحوار: مجلة فلسفة
ترجمة : سعيد بوخليط
تقديم : حينما يلتقي المهتم بالفكر المركَّب وفنانة التزهد المستلهمة لثقافة الصين، سنكتشف أنه على امتداد عمل طويل للتحول،يمكن للتكلف بلوغ تلك البساطة الأكثر طفولية.
من أجل الالتقاء ب فابيان فيرديي Fabienne verdier (فنانة تشكيلية. تطرقت في عملها ”عابر في الصمت”، الصادر سنة 2003 ، إلى تفاصيل تلقيها التشكيل الصيني التقليدي. تحظى بشهرة عالمية، عادت إلى الغرب، بعد فترة إقامة في الصين)، يلزم مغادرة العاصمة الفرنسية، ثم التوغل وسط حقول شاسعة تحددها هياكل فرعونية. أما إدغار موران ( عالم الاجتماع والفيلسوف، المستلهم لنصوص هيراقليطس وهيغل. طرح من خلال مضامين الأجزاء الستة، لدراسته المعنونة ب : المنهج، بين سنوات 1977–2004 فكرا يطمح إلى معانقة كل تناقضات عالمنا ووجودنا. هو أحد أكثر المفكرين المعاصرين، الذي يُستمع لآرائه، لاسيما فيما يتعلق بميدان علم البيئة)، فرغم بلوغه السادسة والتسعين، لازال نشيطا، فصيحا، يبدي ملاحظات عن اختفاء الطيور، والفراشات والأزهار، مظهرا حزنه على كوارث الزراعة الأحادية الصناعية. لكن أبعد قليلا، في المنتزه الطبيعي لمنطقة فيكسان (شمال غرب فرنسا )، نصادف بشكل جلي قرية أكثر ترحيبا. هنا تعيش فابيان فيرديي وترسم منذ ثلاثة وعشرين سنة، مثلما تشهد على ذلك أكواخ أطفالها في الحديقة، المهترئة أصلا . المكان هادئ جدا، فقط ديك بري يجرب بعض الخطوات.
بعد عناقات مبتهجة،توجه الفيلسوف والرسامة، نحو ورشة عصرية جدا، تتناقض مع البناء الذي يضم منزل ومكتبة الفنانة. على إيقاع صوت ماء نافورة، نكتشف الداخل بمستويين، تغمرهما الشمس. في الأسفل، ترسم فابيان كل صباح، ماسكة بريشة عملاقة يمكن أن تستعمل عموديا، وفق التقليد الصيني، على قماش مطروح أرضا. جلسنا حول طاولة مرتفعة المستوى، تحيط بها لوحات كبيرة.
بعد تعلمها الفن التقليدي الصيني سنوات 1980، أثناء فترة إقامة قاربت عقدا من الزمان في منطقة سيتشوان، انكبت فابيان فيرديي على ترجمة حقيقة العالم حسب أشكال صغيرة جدا، أحيانا من خلال خط واحد. لكن أجواء المكان تظهر بأن هذا الرسم المنجَزِ لن يكون ممكنا سوى نتيجة تأمل طويل. لقد قبل إدغار موران طواعية الغوص بين طيات هذا العالم الاستثنائي. في كتابه حول “الجمال”(2016)، يرى بأن الفنان يشبه عرافا، يتمثل حالة ”إثارة غير متشنجة”، تلامس حقائق الكون النهائية. من الطريف رؤية مدى انعكاس هذا الوصف على فابيان فيرديي. بالتالي، ألا يتعارض مباشرة مفهوم موران للعالم مع تصور الفنانة المهتمة بالجزئي؟ في الواقع،لقد شيد موران كاتدرائية ضخمة، بعمله ”المنهج”، كنشيد ل” الفكر المركَّب” يرفض مختلف مظاهر الاختزال التي ارتكز عليها الغرب في أفق بسط قوته. و”الفكرة البسيطة المتعلقة بنظام أبدي لن تحل محلها فكرة أخرى بسيطة، ألن تكون الفوضى ذاتها”. هل يمكنه قبول التماس القناعة والبساطة والخشوع ثم العوز، التي هي أوضاع الرسامة؟ طيلة هذا اللقاء الأخوي والمتناغم، اتفق إدغار موران وفابيان فيرديي حول نقطة جوهرية : ليس هناك أكثر صعوبة من أن تكون بسيطا.
* فابيان فيرديي :لقد ذهبت بعيدا جدا للبحث عن المثال الأعلى للبساطة. نتيجة خيبة أمل في تعليم فرنسي بلا دقة ولا نظرة الفنون الجميلة. هكذا قررت بداية سنوات 1980 الرحيل إلى الصين لدراسة الفن. كنت آنذاك الأجنبية الوحيدة التي تم قبول ولوجها مدرسة للفن تقع في إقليم سيتشوان القصي. عشت ظروفا صارمة وصعبة، لأني كنت لاسيما في البداية، معزولة وتحت المراقبة. لم أستشرف أني سأمكث هناك عشر سنوات تقريبا. لحظة وصولي، طلب مني المدرسون أن أشرح لهم وسيلة تمكنني من التعبير فنيا عن تعقد الواقع، مثلا شجرة على سبيل الذكر. أجبت أنه يلزمني الخروج إلى ساحة متأبطة مذكرة إعدادية، ثم القيام بدراسات، وتصميم شكل ، قبل الاستطراد في حصص لوضع طبقات الألوان. انفجروا ضاحكين جراء سماعهم ذلك، فهمت لحظتها بضرورة رجوعي إلى نقطة الصفر كي أتعلم كل شيء. بداية، يجدر بي النجاح في رسم أول خط فني، أو واحد البساطة ، الذي قد يكون عموديا أو أفقيا. فعلا، في الصين، يلزمك بكل بساطة ومثل الوميض، عبر خط واحد للريشة، إدراك مستوى الإيحاء عن تعقد التعبير الحيوي للواقع. كنت أبلغ من العمر اثنين و عشرين سنة. وقد غمرني سلفا هذا الواحد . فكرست له كل حياتي، تحت إشراف أستاذ صارم، انصب اهتمامه على المنهجية التقليدية، لمدة ثلاثين سنة !فهذا الخط المنحرف الأول بمثابة رحم، بوسعه في إطار تحول مستمر، وصف تنوع وتعقد العالم الحسي. لقد علمني الصينيون جراء ثقافتهم الضاربة في جذور التاريخ، أن خط الطاقة هذا، يتمتع بجسد، روح، بشرة، جريان داخلي، وتنفس. لقد أنجزت تجربة للتجرد سمحت إلي بالانتقال من الشكل المعقد لرمز الفكرة(الإيديوغرام)، التي تعتمد على عشرة إلى أربعة وعشرين خطا، إلى واحد لكنه ينقل إلى العالم نَفَس طاقة المادة، بمعنى لُباب الواقع. بوسعنا إذن أن نقترح، من خلال بساطة خط واحد، فكرا فلسفيا، إيتيقا، ومقاربة للعالم الحسي. بعد ذلك، أنجزت نفس عمل الإيديوغرام، لكن مباشرة حول تعقد أشكال العالم. حينما أجدني أمام شجرة، منظر، تجربة موسيقية، موجة صوتية، كلمة، أو كهاته اللحظة، ثم تجربة فراغ، فإني ذات المبدأ الذي يلتمس البساطة، بكتابة أقل، مثل قوة تعقد حي تباشر عملها.
*إدغار موران : لقد انطلقتم من تجربتكم عن الإبداع الفني. فيما يخصني، استندت على قضية المعرفة. لكني توصلت إلى نفس نتيجتكم. البسيط والمركَّب مترابطين. بل، ومنفصلين أيضا. الرغبة في فصل أحدهما عن الثاني يمثل بترا. من جهة ثانية، تعني كلمة”complexus ”باللاتنية :” الذي نسج مع”. الواحد، البسيط ، الذي ركزتم عليه بشكل صائب، لا يقوم بغير المتعدد، أي المعقد. لنأخذ الإنسان. إذا أخذنا في اعتبارنا النوع، توجد وحدة بديهية بين كل البشر من وجهة نظر وراثية، تشريحية، فيزيولوجية، عاطفية. لكنها وحدة تُترجم دائما بتعددية معقدة : تعددية في الأمزجة الفردية، الثقافات، الموسيقى، فنون الرسم، إلخ. يخلق الواحد، المتعدد. لكن المتعدد غير منفصل عن الواحد. كيف يتأتى هذا؟ يخول مفهوم الانبثاق استيعاب ماهية امتزاج البسيط والمركَّب، كما الشأن في مشروعكم المنكب على الرسم . داخل نظام يتألف من عناصر مختلفة يرتبط بعضها ببعضها الثاني، نكتشف صفات غير موجودة ضمن عناصر الانطلاق.إننا جميعا كائنات حية تتألف فقط من جزيئات فيزيائية- كيميائية متعددة، بروتينات، الحمض النووي، إلخ. لكن تنظيم كل ذلك يتم على نحو أن هذا الكائن الحي يمتلك صفات لانعثر عليها مطلقا ضمن الجزيئات الأصلية : قوة الترميم الذاتي، النمو الذاتي، ثم معرفة المحيط الخارجي. كي أكون مفهوما بشكل واضح، لنتخيل ظاهرة على قدر من البساطة وهي القُبْلة. فلكي تصبح الأخيرة ممكنة، اقتضى الأمر تطورا متكاملا انطلاقا من أبناء عمومتنا الثدييات(بدأوا باللحس)، كي يصلوا إلى وضع يتقابل فيه وجهان، أحدهما أمام الثاني، على قائمتين ثم وقوفا. ينبغي بعدها أن يصير لهذين الوجهين قوة للإيحاء والانجذاب، ليس فقط فيزيائيا بل كذلك عاطفيا وروحيا. وتعلمون أنه لدى بعض الأساطير، يتماهى النَّفَس مع الروح التي تخرج من الفم. تجسد القُبْلة تبادلا بين الأرواح وفي نفس الوقت انجذاب الكائن كي يكون. إذن لإدراك هذه البساطة المميزة للقُبْلة ،استلزم السياق تطورا بأكمله. هكذا، تنبثق البساطة، لكن فقط عبر تعقد كبير.
*فابيان فيرديي : نعم أصبتم، تنبعث البساطة ضمن مبدأ للتعبير الحيوي. حينما نرى نمو شجرة،حركات السحب، أو هذه القُبْلة، نعثر ثانية على مبدأ النَّفَس المنبعث ويعكس الحياة والمادة. انطلاقا من تجربتي المرتبطة بالرسم، أدرك أن مختلف الأشكال الناشئة من طاقة ننفخها في المادة. هناك إذن انبثاقات تتجاوزنا.
*إدغار موران :لكن لنعد إلى الكيفية التي ولدت بها فكرة صدور البسيط عن المركَّب. ليس صدفة إن رحلتم إلى الصين كي تنقبوا عنها ضمن الفكر الصيني الأول، أي فكر الطاوية، الذي يقوم على الوحدة الحيوية للمتناقضات. لاشيء يقوم، دون هذا الضم المتكامل بين الين و اليانغ. لا يدرس الفكر الصيني موضوعات منفصلة بل علاقات، بمعنى ما يجمع أو يناوئ . بقيت هذه الحقيقة هامشية في الغرب.
* فابيان فيرديي :مع ذلك، يوجد هذا المفهوم هنا. لكني لم اكتشفه سوى متأخرا جدا. لما عدت من الصين، سعيت إلى فهم كيف أنا الغربية، كنت متوافقة تماما مع المفهوم الصيني للإنسان والطبيعة. اكتشفت ذلك وأنا أقرأ أفلوطين، الذي قال:”بفضل الواحد تجلت كل الكائنات”. أو الأستاذ إيكهارت، أحد رموز الحركة الصوفية خلال القرن الثالث عشر. حقيقة امتلكنا في الغرب، هذا التآلف بين الأضداد، البسيط والمركَّب. بيد أننا أضعناه. أنهيت منذ فترة قليلة فترة زمنية استغرقت عامين كنت خلالها بصدد الاشتغال إلى جانب آلان ريي، على كلمات قاموس”لوروبير”. لأني رسامة فقد استعصى علي جدا التعبير بالكلمات عن مدى ارتقائي الداخلي نحو كتابة للبساطة، لذلك اتجهت بداية إلى البحث في كلمة : بساطة. اكتشفت بأنه خلال القرن الثاني عشر،دلت الكلمة اللاتنية : (simplex)، على مايلي :”يتشكل من عنصر واحد”. يجسد وحدة لا تقبل القسمة. أذهلني هذا الأمر.ما تطلعت إليه أساسا، في الصين لقاء تزهد مهول، كان بوسعي العثور عليه هنا.
* إدغار موران :نعم رأيكم صحيح، فهذه الرؤية للأشياء وجدت أيضا في الغرب. خلال حقبة ازدهار الطاوية في الصين إبان القرن السادس قبل الميلاد، سيطرح الفيلسوف اليوناني هيراقليطس أفكارا شبيهة وأقر بتوافق أضداد، ثم البسيط والمركّب. واحسرتاه! لقد استبعد أرسطو مطلقا هذه الفكرة،بفرضه منطقا مغلقا عن اللاتناقض بالنسبة لكل التقليد الغربي. بالتأكيد، نجد ثانية عَرَضا استلهام هيراقليطس، عند الغنوصيين أو المتصوفة، ثم انبثقت ثانية من خلال الجدل، لدى باسكال وهيغل. لكن هذا التيار ظل هامشيا في الغرب، بينما ساد الصين. هناك حيث تقبل الصلة بين البساطة والتعقيد، بينما اكتفى الغرب فقط بفكر تبسيطي ، يسلم بأن كل تناقض بمثابة خطأ. التبسيط، لمدة قرون، شكل الخطأ الأكبر المختزل في الغرب، معتقدا بأنه يعرف المجموع انطلاقا من عناصره. لكن مبدأ الانبثاق يظهر لنا بأن معرفة المجموع لا يمكن اختزاله إلى الاكتفاء بالعناصر التي تشكله. على أية حال، سمح التبسيط بتطورات كبيرة بحيث خول اكتشاف الذرة والخلية، وهما في الواقع شيئين معقدين. لقد مكن التجريب وكذا مزج المواد الكيماوية، العلم الغربي كي ينهض بقدراته. أخيرا، استعارت أوروبا من الصين اكتشافاتها – بارود، مطبعة، بوصلة- فاستثمرتها كي تجسد إرادة سيطرتها على الطبيعة، وهو سعي انعدم في الفكر الصيني. لحسن الحظ كثيرا،ومنذ بعض العقود،منحنا المكان من جديد،في العلم الغربي،إلى فكر أكثر شمولية من التبسيط. أستحضر هنا حالة الميكانيكا الكوانطية، التي أظهرت لنا بأن الميكرو- جزيئات تسلك أحيانا مسلك موجات متواصلة وأحيانا أخرى كجسيمات منفصلة. أو أيضا التحليل النفسي، الذي يفترض تآلفا لاينفصل بين قوى الإيروس أو الانجذاب، ثم التاناتوس أو قوى التبدد والموت.
* فابيان فيرديي :نعم، لقد انتهينا في الغرب إلى قبول تآلف البسيط والمركَّب. اختبرت ذلك على مستوى تطوري الخاص. لقد شرعت، طيلة عقود ،بوصف مجموع العالم الحسي عبر خط وحيد. ثم أحسست بضرورة الخروج من عزلتي فحظيت بفرصة إنشاء مختبر للبحث في نيويورك، وكذا مدرسة “Juilliard”، للاشتغال مع موسيقيين. هكذا نصحني كيني بارون عازف البيانو الكبير، بالخروج من موجتي الصوتية الوحيدة، لأن الموسيقى بمثابة لعبة للتنفس، والزفير، والإيقاعات. من أجل ”عزف”الموسيقى مع هؤلاء، يلزم تكسير كل ماهيأته بخصوص التعبير عن تعقد العالم بواسطة خط . حينما نفذت إلى الإيقاع،فقد بدأت في تأليف الطاقات، مثلما يؤلف الموسيقي. إذن انبعث العالم بين ثنايا هذا التنفس للطاقة. لقد اختبرت مقاربة أخرى للبساطة، تتعلق هي كذلك بتأمل طويل جدا للعالم.
*إدغار موران :الأشياء البسيطة ملغزة. لنستحضر بهذا الخصوص براءة الطفل، والمُلْهم، ورواية “الأبله” ل دوستويفسكي، ثم ” المجنون بالمسيح”، وأوبرا بوريس غودنوف للموسيقار موديست موسورسكي. ظاهريا، هي مجرد عقول بسيطة لكنها تعلم أشياء لا يعرفها الآخرون. هناك أيضا منبع للإلهام يجد مصدره في طقوس الشامانية. تنتاب سحرة القبيلة حالة انتشاء نوعية، ضمن طيات تواصل مع العالم الإنساني، الحيواني أو النباتي. أعتقد بأن الموسيقيين والرسامين يجسدون جماعة مابعد- السحرة. لا يتعلق الأمر لديهم بإثارة متشنجة . لكن بقوى لاواعية عميقة تخترق وتغمر الفنان. خاصية ثانية للشامانية تكمن في الإبداع بالتقليد الإيمائي. إعادة استنساخ حيوانات مغارة “شوفيه بون دارك” Chauvet أو لاسكو lascaux تحققت داخل أروقة صغيرة مظلمة،بحيث لم يكن للرسامين نموذجا تحت أنظارهم. بل كانت الحيوانات في ذواتهم ثم عملوا على رسمها بقوة إيمائية…يعيد الرسام إبداعها،بكيفية لاواعية غالبا. هكذا يضمر كل فنان، لحظة إبداعه، مانسميه سلفا بالإلهام،نوع من المنبع الهذياني يمنحه إمكانية التعبير عن ما يجول في داخله، مستعينا بوعيه النير الذي يسمح له بالتصحيح. إذا كان على منوالكم، فابيان،فنانا ميتا- رمزيا، ترسمون أشياء لاتمثل ظاهرا أي شيء، لكنها تمنحنا إحساسا قويا جدا دون القدرة كي نعبر عنه بالكلمات، فلأنكم أضحيتم في اتصال مع شيء من الحاضر فيكم.
*فابيان فيرديي : تماما كالتجربة الخاصة بي. تؤلفنا عناصر وطاقات حيوية للطبيعة. فضلا عن ذلك، يتذكر الدماغ سريعا جدا حياة المادة. يكتشف نفسه في العالم المعدني أو المائي. إذا أنجزنا عملا حول أنفسنا، بوسعنا حينئذ إرجاعها إلى أصلها. لذلك، ينبغي القطع مع النظرة النرجسية للأشياء والانصهار تماما في الطبيعة. خلال تلك اللحظات،لا وجود لفابيان فيرديي، بل لجهاز عضوي حي…. إذا سمحتُ لمختلف تلك الأشياء كي تتواصل تعبيريا، فإنها تنتظم ذاتيا. جراء هذا الشرط تظهر رؤى أخّاذة جدا تصف وتلهم الكائن الحي.
*إدغار موران :أمر غريب، أنا بدوري ألفت عملي : المنهج . وفق شروط مماثلة كثيرا. كنت في قصر منعزل، نصفه آيل للسقوط ، في توسكانا الساحلية(إيطاليا). أشتغل من الصباح غاية المساء وتملكني شعور كأني تحت سيطرة قوة شيطانية. أيضا، تملكني إحساس الطفل الذي ينمو داخل بطن أمه ليس بنتاج لأمه. أمه تطعمه، لكنه يتشكل ذاتيا. بالتالي، شعرت باستمرار أن عملي سينشأ ذاتيا، ولا أعمل أنا سوى على تغذيته. يفلت الإبداع من المبدع. هو شعور في ذات الآن باللذة والألم.
*فابيان فيرديي : من وجهة نظري، تأتي لحظات الألم،من إرادة القيام بما هو أفضل، أن تنجز الجميل.باختصار، الإرادة. إذا قررتم بغتة أن تعيشوا مادة هذه الطاقة في تنفٌّسِها العميق، ستتأتى لكم أشكال العالم عبر لقاء مثير.
* إدغار موران : أيضا كل واحد منا، بقدر فرادته، تتضمن ذاته ليس فقط بدائيا، ثدييا، وفَقْريّا، لكن كذلك الخلايا الأولى التي نشأت في الكون. حتى ذرات الكربون تكونت في كوكب سابق على كوكبنا الشمسي. يحتوينا كل تاريخ الحياة والكون، بكيفية فريدة. يلزم إذن أن نفهم تطابق البساطة والتعقد تحث إشارة ماهو غامض. هناك شيء في الكون يتجاوز قدرات دماغنا، لكن بوسع فكرنا الإقرار بحدوده. لنميز جيدا بين اللغز والغامض. اللغز، كما يحدث في رواية بوليسية، يعتبر مجهولا بوسعنا أخيرا فهمه بحيث يمكننا أن نضفي عليه تفسيرا عقلانيا. هكذا استُدل على الكهرباء فيزيائيا بدءا من ماري أمبير، مايكل فاراداي، وجيمس ماكسويل: إذن لغز توضح . أما الغامض فقد أفلت من الفكر الإنساني المقيد بمنطقه. حينما نضع الأقطاب الكهربائية على مدفأة حسب تأمل عميق، فسندرك بأن المراكز الدماغية التي تصنع الفارق بين الذات/ الأنا والعالم الخارجي كانت مكبوتة. تختبر إذن، شعورا نيرفانياnirvanien ، غير قابل للتفسير، لكنه حقيقي. ضمن هذه الوضعية يتحول المركَّب إلى بساطة مطلقة.
*فابيان فيرديي :إبان هذه اللحظات، وسواء بالنسبة للعالم الخارجي أو الذات نفسها، يمكننا الإحساس بالسذاجة والبلاهة…. التجربة الروحية التي أحياها يوميا، وفق تزهد جد صارم، مع هذه الشعائر، ترتكز أساسا على نسيان ما أعتقده معرفة، وأقيم الفراغ في ذاتي، سعيا لأكون قابلة للتأثر. وبغرابة، وسط هذا السديم للمادة حيث أغوص، أبحث بفكري وقلبي كي أكتشف توافقات قصوى بين الطاقة والمادة ثم أنا. حينما أصير في قلب المادة، وقد انسلخت كليا عن ذاتي، أكتشف ثانية سريان كل شيء. أيضا كل شيء يأخذ معناه. إذن لا يوجد تعقيد قط. بل ذكاء عفوي، وترابط خاطف السرعة، لايمكننا توقعه.
*إدغار موران :مثل صعقات الحب.
*فابيان فيرديي :ربما يتطلع نموذجي المثالي للبساطة نحو الوصول كي أرسم مثلما نتنفس، كالطائر الذي يغني مع شروق الشمس. ثم نجح الأمر :أصبح بالتأكيد قليلا خشنة و حمقاء، لكن فجأة تنعدم أحكام القيمة. نسبح في النهر الكبير وتتدفق الأشياء. بوسعنا تقديم ثمرة هذه التجربة التحررية عبر الآثار المتأتية منها، عبر اللوحات.
*إدغار موران :لاشيء غير المركَّب من أجل إدراك”بسيط”،وفكرة”بسيطة”،ثم عمل فني”بسيط” !
هامش :
Philosophie Magazine : été 2017.pp :69-74.