عزالدين بوركة
كاليغولا “الطاغية” أم كاليغولا “الحر”، بين الأول والثاني يتخبط ألبير كامي، في التعبير عن القلق الوجودي الطامح إلى التحرر والتمرد “عن المقدس” الأخلاقي السائد. انه تمرد نحو إصلاحية أخلاقية كبرى، جعل كامي من صوت “كالغولا” صوتا للتعبير عنها. للصراخ في وجه النظام الفاسد في أوروبا عامة، وفرنسة خاصة، وإنه لمواجهة صريحة في وجه البرجوازيين/النبلاء، المنصاعين إلى النظام الظالم.. النبلاء المنافقين. النبلاء الذي يقضي عليه النظام/كاليغولا حين ينتهي من خدمتهم له…
كاليغولا المسرحية، التي مُثِّلَت على خشابات مسرح ” Hébertot” لمدة مائة ليلة متتالية. جُسِّدت هذه المسرحية، بشكل ميلودرامي-تتعدد التراجيدية فيه. حياة كالغولا، الذي وصفه على مر التاريخ، المؤرخين ب”الطاغية”: العاطش لسفك الدماء لسبب أو لدونه. المسرحية تنتمي للمسرح اللامعقول*، أكثر منها التراجيدية أو الدراما. و” لما سئل كامي عن سبب كتابته عن “كاليجولا”، قال أنه قرأ عن اثني عشر قيصرا، ولم يعجبه إلا كاليجولا. فهو أذكاهم وأعقلهم وأكثرهم حسا، وكل ما يفعله صادر عن منطق سليم، وهو لا يقتل لنقص في نفسه ولكته يقتل لانخراط في الحس”((بد المنعم الحفني-ألبير كامي، ص332.)).
“منذ هذه اللحظة قررت أن أصبح منطقياً وبما أنني أملك السلطة فسترون أي ثمن ستدفعونه جراء هذا المنطق، سوف أبيد التناقض والمتناقضين وإذا استدعت الضرورة سوف أبدأ بك أنت ؟”.*.
لم يكن التحليل الذي اعتمده ألبير كامي في تناوله لقصة الإمبراطور الروماني كاليغولا، تاريخيا، بل هو تحليل ينزع للإنساني أكثر، لا النفسي.
” لست خائفاً من الحرب ولكني أحترم البشرية أكثر من احترامي لإكليل غار النصر”.*.
مأساة كاليغولا بدأت مع موت عشيقته/ أخته (دروسيلا)، على إثرها يختفي لثلاث أيام متواصلة، عن قصره ومملكته. إلا أنه يعود على غفلة من النبلاء البلاط، الذين أرسلوا الخفر للبحث عنه في كل أرجاء الإمبراطورية. عاد ليخبر صديقه المخلص (هيليكون) أنه ما خرج إلا يجد المستحيل، الذي عثر عليه، وليقبض القمر، الذي استعصى عليه أن يجعله جزء من مملكته ومملوكياته. أما المستحيل فكان أنه اكتشف الحقيقة التي يحياها البشر. أنهم “يموتون وهم ليسوا سعداء”.*. ومحاولة منه لتغيير العالم وما بالناس من غل وشر، وأن يساوي بين كل الأفعال والأشياء، ويحطم المطلق والمحتوم/ الموت، وأن يمسك القمر، ليحقق الخلود، حينها سيتسنى للناس الخلود، والسعادة.
*****
رأى بعض النقاد والكتاب، أن كامي لم يغيّر ولم يُضف أيّة إبداعية في النص المنقول عن المؤرخ الروماني (سويتونيوس)، الذي كتب عن جنون كاليغولا ودمويته، وأفعاله اللامنطقية كتدبيره لمجاعة عامة في الإمبراطورية، وجعل النساء يشتغلن في المواخير غاية في إغناء الخزانة العامة.. ورغبته الشبقية والطوباوية في الإمساك بالقمر. وترغيم الناس على عبادته…إلخ. غير أنهم (أي النقاد) غفلوا كون أ. كامي لم يكتب هذا النص المسرحي، ليذهب إلى ما ذهب إليه (سويتونيوس) بوصف الإمبراطور بالإجرام والطغيان المطلق.. بل جعل كامي من شخصية (هيليكون) المدافع عن صديقه كاليغولا أمام النبلاء، صوت له ليمرر موقفه من هذا الحاكم. ليس كون كامي أراد تبرير أفعال كاليغولا، كما اتفق، وعبثا منه. بل لأنه رأى فيه الإنسان المتحرر، المنافس للآلهة في فعلها الحر، وممارستها للشر، وما ممارسته له، يدوره، إلا برهانا عن حريته وتحرره. “أنا الحر الوحيد في الإمبراطورية الرومانية”*. كما أن كامي إن يرى بأبسوردية الحياة، يرى كاليغولا بها أيضا. هذه الرؤية التي يشاطراها، تدفع ألبير كامي للتعاطف مع الإمبراطور والشفق عليه. غير أنهما يفترقان في عَقْلَنة هذا العالم. كاليغولا سَجَن نفسه داخل دائرة اللامنتهى في البحث عن منطق لهذا العالم، الذي لا يرى كامي بأي منطق فيه.
اتخذ كامي من صوت كالغولا صوتا له، ليدفع القارئ للتساؤل، والتفكير في هدم الأخلاق والمقدسات (بشكل نتشوي) داعي لأخلاق وقوانين جديدة تساوي بين البشر. غير أنه لهذا لابد من ضحايا ومذنبين نحملهم أوزار هذا العالم.. لتخليصه من الأخطاء والشر.
“إني في حاجة إلى الناس، متفرجين، ضحايا، مذنبين. أدخلوا المذنبين. أريد مذنبين، الكل مذنبين أريد المحكوم عليهم أن يدخلوا.. القضاة، الشهود، المدانون، كلهم مدانون مقدما”.*.
هذا الصوت الصارخ، ما هو إلا فضح لأخلاقيات البرجوازيين.. إنه فضح للنظام القاسي والظالم.. إنها دعوة للتمرد والمحاسبة ليمن يمتهنون القانون، للا-عدل. !
*****
يلقى كاليغولا اعتراضا صلدا، من قبل صديقه (شيريا) الفيلسوف.. الذي أراد محاربة اللاإنساني في الإمبراطور. إنه يتمرد، على النظام السائد، الذي يتخذ من الإبادة وسيلة لبقائه.. تمرد توجد إذن ! هذا هو صوت المثقف الذي يصرخ به أ. كامي هنا.
إنه يحارب الكمال المنطقي الذي ينشده كالغولا. إنها مناشدة مستحيلة في عالم عبثي/أبسوردي، لا يمكن إطباق المنطق عليه إلا صوريا.. إنها رغبة جامحة نحو المستحيل (القبض على القمر).
يرى كامي بالصدام بين إرادة الإنسان وبين لا معقولية العالم. الإنسان يريد جاهدا أن يُعَقلِن (من عقل) العالم ولكنه غير قابل للعقلنة. وبين الهوة بين الاثنين، يكون لدى الإنسان إحساس الأبسورد. ولكن أين تذهب إرادة الإنسان في هذه الحالة؟
“الإنسان يريد أن يجعل للحياة معنى رغم بأنها بلا معنى، و أن يصنع منها قيمة، مع أنه يدرك أن لا قيمة لها” ((ع. الحفني)). إنه كاليغولا/الإنسان، الواهم بمعقولية ومَنطقة العالم. واهم بهما ومناشد للنظم لمستحيل في عالم الأبسوردي، اللامنطقي، لا نقول الفوضوي.
فإما أن نعترف بعبثية العالم والعيش في لامعقولته. ونكتفي بالاعتراف بما وصل له عقلنا المحدود والقاصر على فهم كل هذا العالم.. متبنين مشروع الإنسان القائم فينا، الإنساني الأخلاقي. ونرحل/ ننتحر/ نموت، ككاليغولا الذي اختار أن يموت/ ينتحر على يد الآخرين رغم علمه/ نكرانه للمؤامرة المحاكة في ظهره. إنه اختيار حر.. “اختيار ينافس الآلهة في حريتها”، هو ما جعل كامي يشفق على الإمبراطور ويقدمه كصوت لأفكاره ورؤاه. غير أن كامي لا يذهب –هنا- للتأييد فعل الانتحار. بل إنه يرفضه قطعا، لأنه يعتبر استمرارا لسلب الحياة.
إذن لم يعد الإمبراطور/ كاليغولا “طاغية”، مهووسا بالقتل والسفك.. لم يعد المحكوم عليه.. بل هو المحاكمة.. للبشري.
نص المسرحية فيه ما فيه من نقص. غير أنه مكتمل التركيب والنضج في الكتابة المسرحية الذي بلغه ألبير كامي.. كامي الذي ما كتب هذا النص إلا ليهاجم الرؤية النازية. أي نعم أكمله سنة 1947 ! إلا أنه اختمر في ذهنه قبل سنتين، قبيل سقوط النظام النازي الجاعل من القوة سلاحا له، ومن القتل وسيلته، إنه يمتهن صفة الشوق لسفك الدماء عند (كاليجولا)، بسبب ودون سبب.. إنه نص، إن أمكننا القول، يكمل ما بدأه في مقالته (رسائل إلى صديقي الألماني)، 1943، التي تناول فيها الفوضى وعشق القوة.
——-
*-مسرحية كاليغولا-ألبير كامي-مقتطفات من حوارات كاليغولا.