شَهلا العُجيلي ( سوريا ):
كنت قد أجريت لطلبتي امتحاناً في مادّة تاريخ الفنّ، وكان السؤال عن السرياليّة، عن فلسفتها، ونشأتها، وملامحها، وأهمّ أعلامها، وكانت إجابات الطلبة جيّدة في العموم، فالمادّة مادّة حفظ، ليس فيها مجال للابتكار، إلاّ أنّ إجابة لإحدى الطالبات أذهلتني، وجعلتني أعيد النظر فيما قرأت من فنّ وأدب ونقد، الإجابة كانت أشبه برسالة فيها حكاية، ترويها الطالبة، فتقول:
أستاذتي العزيزة، أنا أعرف الإجابات المدرسيّة، وأحفظ مقرّر تاريخ الفنّ عن ظهر قلب، لكنّ حكايتي هذه ستقدّم السرياليّة بطريقة مَن خرج من عمق الفكرة، لا بطريقة من أحاط بها، فامنحيني حلمك حتّى أقصّ عليك ما لم أستوثق من كونه حلماً أو حقيقة:
وجدتني هائمة على وجهي في غابة موحشة، لا أعرف إن كان خارجها ليل أم نهار، ظلام يطبق على المكان، وبرد، برد أقسى من الفقد، كنت شعثاء وثيابي ممزّقة، وربّما نهشني الذئب وأنا ذاهلة في هذا الضياع، وأقلّ من ذلك بقليل كان جوعي وعطشي وتهافتي. قلت لنفسي هي اللحظة الأخيرة التي سأتمكّن فيها من فتح عيني، لأنني بعدها سأموت لا محالة، في تلك اللحظة رأيته واقفاً قبالتي، لم أعرف إن كان حقيقة أم سراباً، وارتبت في أن يكون شجرة أو وحشاً من الوحوش، إلى أن مدّ لي يده، فتشبّثت بها، ولحرصي عليها نفر سائل أحمر مكان أظافري التي انغرست في لحمه، حينها ابتسم لي، فأضاء المكان، وانقشعت ظلمة الأشجار، وطلعت علينا شمس لم أعهد لونها من قبل، صفراء إلى بياض، بدّدت عزلة الكائنات من حولنا. لا أعرف كيف أقبل حصان أزرق حملني عليه ومضى بي خارج الغابة، ورغم أنّ ذراعيّ كانتا أشبه بخرقتين، إلا أن قوة كانت تشدّني إلى صلابة جذعه، وكانت ساقاه تلتفان حول ساقيّ الواهنتين مثل نباتات خضراء متسلّقة وحانية، فغدونا روح العالم على صهوة جواد! أين سرنا، وكيف غادرنا الغابة لم أعرف، إذ وجدتني في مدينة واسعة كثيرة الهرج والمرج، فيها نهر عظيم قيل إنّه مقدّس، يعيش ناسها بقوّة الحبّ وحدها، دخلنا إلى مكان أشبه بخيمة فسيحة، فيها رجال ونساء، يجلس كل زوج منهم على أريكة وأمامهم طاولات عليها طعام وشراب، كانوا مبهجين في ضحكاتهم وأصواتهم التي تتعالى ثمّ تروح مع صوت التلفاز ذي الشاشات المتعددة وهو يبثّ أغاني الحبّ والشجن، عليهم ملابس بسيطة لكنها زاهية، وقبل أن أنظر إلى المزق على جسدي كان صاحبي قد وضع عليّ لفحة صوفيّة كانت معه، ورويداً رويداً اتسعت اللفحة الضيّقة حتّى سترت عريي، فصرت في ثوب مكتمل النسيج، دافئ، وبلون السكّر، ونظرت إلى الأريكة التي جلسنا عليها فإذا هي أريكتي التي في بيتي هناك في بلد آخر، وبعيد، هي ذاتها، من قصب البامبو، وعليها فراش وثير بنقش يحاكي جلد النمر، وفي قائمتها السفليّة مسمار صدئ في غير مكانه، ما الذي أتى بأريكتي إلى هنا! كنت قد اقتنيتُ الأريكة منذ سنتين لأجلس عليها في الشرفة وأرقب حبيباً قديماً، بل صار قديماً مذ أخذتُ يد هذا الرجل، رجل الغابة بين يدي، الآخر بدأ يتساقط، سقط أنفه، ثمّ فمه، ثمّ عيناه، وشعره، وذراعاه، ولم يبق منه شيء، حتّى الأشلاء تطايرت في ريح لم تكن موجودة، وغادرت الخيمة. لم يبق سوى رجل الغابة إلى جواري، وركبني إحساس بأنني لن أستطيع أن أكون بعيدة عنه بعد الآن، فاقتربت ألتمس مزيداً من الأنس، وإذ بوهج يخرج من قلبه، رأيت الوهج أحمر وأزرق، ثمّ شعرت به، فما كان إلاّ أن ألقيت جذعي فيه، ثمّ ألقيت كلّي، ونمت، نمتُ من غير أن أعرف إذا ما كنت قد نمت في المنام أم نمت في الصحو! قال حين استيقظتُ: إنّ الرجل إذا ما أحبّ امرأة في بلادهم عليه أن يذبح تحت قدميها كبشاً، ويشوي كبده، ويأكل منه ويطعمها، لكنّه لم يفعل ذلك من قبل، ليس لأنّه لم يحبّ، بل لأنّه نباتيّ، ولأنّ الكبش أخوه، فماذا عساه يفعل! أشرت بيدي إلى حبّة كبيرة صفراء محمرّة، كانت على مصطبة بعيدة في المطعم على مرمى نظرنا، فقال لي: اسمها مانجا، وطلبت أن يذبح الحبّة، ويريق ماءها، ففعل، وشربنا شراباً حلواً ومسكراً، وفجأة فرغ المكان من الناس والأشياء ولم أر في الكون سوى يديه، كانتا أشبه بشجرتين أصيلتين، عروقهما أغصان وارفة، تبعث عطراً له رائحة المطر في الصحراء، قلت في نفسي، أبقى في ظلّهما، لن أغادر؟ ثمّ سأغادر إلى أين؟ وإلى من؟ هزّ في وجهي الشجرتين بحركة سحريّة فأويت إلى ظلّهما، لا أعرف من قال له إنّني وحيدة، ولا أمّ لي، ولا أب، ولا إخوة،ولا أحبّة! بعد ذلك وجدتني في طائرة ستعود بي إلى مكاني، وقبل أن تقلع توقّفت وأعلن قائدها بأنّ قوّة مجهولة منعته من الطيران، كنت أعرف أنّها قوّته، وأنّ هذا اليوم الذي سأبقى فيه معه يوم فائض عن عمري، حصّلته في غفلة من زماني وزمانه، مع أنّ كلينا يعرف أنّه مفارق الآخر، ولكن إلى حين، لذا حطّت بي طائرة أخرى في اليوم التالي في مكاني، وعدت لكنني لم أكن أنا، كلّ شيء حولي هو هو، لكنّ ذاتي غيرها، وحين كنت أمارس رياضة المشي الصباحيّة في الحديقة المجاورة لبيتي التقيت الرجل الذي كنت ألتقيه كلّ يوم، ندور معاً حول سور الحديقة الداخليّ ولكن في اتجاهين متعاكسين، لا أعرفه ولا يعرفني، فقط نتبادل نظرة عابرة عند نقطة التقائنا، حين نظرت النظرة الخاطفة المعتادة، ذهلت، كان هو، هو ذاته رجل الغابة، في لباس رياضي، وعلى رقبته اللفحة الصوفيّة ذاتها، حملقت فيه فراح يبتسم بفرح، وتحوّلت ابتسامته ضحكاً حلواً، وهو يردّد مثل من نجا من زلزال وشيك: الحمد لله الحمد لله، حاولت أن أتماسك، وأتبيّن الحقيقة، فنظرت إلى الشجرتين اللتين لا يمكن أن أخطئ فيهما، لكنّه، ولسوء حظّي، كان يرتدي قفّازاً رياضيّاً من ماركة (بوما)، اقتربت منه أكثر فملأت صدري رائحة مطر الصحراء، وانتبهت للمرّة الأولى بأنّ شعره كان أبيض أبيض مثل الفضّة، وكنت حتّى اللحظة لم أنتبه إلى أنّ شعر رجل الغابة كان أبيض أيضاً، كيف رأيته أسود، أم كان أشقر، أم كستنائيّاً…
اقتربت منه وقد قرّرت أن أنهي ما أنا فيه مهما كانت الخسائر، لكنّ الرجل المشّاء بادرني، وأنا أسمع صوته للمرّة الأولى، فقال: قلت لك سنلتقي قريباً، لكن لماذا لم تأتي أمس!؟
تلك هي حكايتي يا أستاذتي، حكايتي التي أخرجتني من دنياكم، وقرّرت أن أكتبها سواء أكان السؤال عن السرياليّة أم عن الدادائيّة أم عن الواقعيّة، وأنا راضية بالجزاء الذي ترين.
التقطت أنفاسي برهة، ورحت أفكّر في الدرجة التي سأمنحها للطالبة، لكنّ الحكاية أمسكت بي، فقرّرت معاودة قراءتها، نظرت في الورقة أمامي، فلم أجد أيّة كلمة مخطوطة، كانت الصفحة بيضاء، ومكان الإجابة فارغاً، قلّبت الأوراق جميعاً، فما وجدت سوى إجابات الطلبة المقرّرة، حاولت مرّة أخرى أن أنقذ ما يمكن إنقاذه من عبارات الطالبة، فلم تسعفني ذاكرتي، وبقيت من وقتها إلى اليوم، أحدّق، دون جدوى، في بياض الورق.