عبد الواحد كفيح (المغرب ):
حدثني صديقي والناس نيام .ما سألته ولكنه قال.كانت لحظة موتك لحظة غريبة وما أعقبها كان أغرب يا هذا. أومأت إليه بإشارة من رأسي أن يكمل.استرسل قائلا:كنا نعتقد أنك لن تقتلك إلا شيخوختك فإذا بك تودع على حين غرة،غادرت مكرها وفي ظروف غامضة ولأسباب عصية على الفهم.غافلك الردى قيل “واقيلا” من تحت حوافر حصان دون كيشوت، بل هناك من قال إن ناقة بني عبس الهرمة، تلك التي لا تبول، هي من أردتك صريعا تحت أظلافها.و ما هي إلا لحظات حتى توافد عليك رهط غفير من البشر الغرباء،اختلفت أجناسهم ولكناتهم،وبدت على قسمات وجوههم وسحناتهم أطياف وهالات تشي بأمرهم الغريب.وأنهم −حسب علمي− المتواضع خالدون،لا يموتون،وهم أقرب إلى الجن منهم إلى الإنس.قلت أكمل أكمل. وماذا بعد؟. فاسترسل متحدثا:من بين المعزين دلفت امرأة عجوز غاية في السحر والإدهاش إلى جثمانك بجرأة زائدة وبدأت تتمتم بتراتيل غريبة ما عهدت مثلها مذ وعيت أنا على هذه الدنيا.بعدها تقدم شخص في مقتبل العمر قال إنه مكلف بتجهيز دفنك من تغسيل وتكفين ودفن وهو قاب عورة أو أدنى من العُري التام.قلت في نفسي أكمل عرفت الأولى والثاني، أكمل. تنافس آخرون على تغسيلك وقد حملوا بين أيديهم وعلى سواعدهم غسالات وماء ومناشف وبودرات وعطورا وصابونا وماء ورد وخزامى وريحانا وسفطا كثيرا.لما كنت عرفت أن الأولى هي أورسولا الجدة الأولى لقبيلة آل بويندا،والثاني هو حي بن يقظان، لم أتبين ماهية هؤلاء القوم الذين بادروا في التنافس على تغسيلي وتكفيني والفوز برخصة الدفن. غير أنني أدركت − بعد لأْي ودقّة وصف −أنهم فعلا خالدون.لم تدم مراسيم التغسيل والتكفين طويلا حتى حضر، وكأنما انبعث من تحت الثرى،شخص هزيل جدا يجر حصانا، لا يقل عنه هزالا وضعفا، كالعطار متطوعا، عارضا خدماته ليكون حصانه روثينانتي لك نعشا.ارتمى جوارك باكيا، ثم حاول جاهدا أن يحملك بين ذراعيه،فاستعصى عليه الأمر فالتفت إلى تابعه الذي كانت تبدو عليه علامات الذكاء والوهن والسقم، فاستعصى عليه الأمر هو كذلك،ظننت بادئ الأمر أن رائحة الموت دوختهما لأنك فعلا أصبحت ثقيل الجثة كالفيل حضرت ناقة بني عبس، قيل هي التي قتلتك،يجرها عبد أسود قيل مات غما جراء حب ابنة عمه التي من أجلها كيلت له الطعنات بالجملة في معارك عديدة مفبركة غادرة.قاربوا على الاشتباك بالأيدي مع صاحب الحصان.حضر رجل آخر وله أيضا تابع يجران حصانا أنهكه السفر والتطواف.كادت أن تندلع بينهم أزمة حادة ما لبثوا أن تجاوزوها بحضور شيخ ذي لحية كثة شعثاء، يمتطي سيارة متهالكة لا تقل وهنا وضعفا عن الناقة و روثينانتي وحصان جاك.سيارة إسعاف تخرخر وتشخر نافثة دخانا مسموما.سيارة حوّلها منذ الحرب الأهلية إلى سيارة لنقل الأموات.هذا الذي يعرف الجميع أنه والعياذ بالله، فجر مسدسا في بلعومه.نسيت أن أقول لك إنه وفي خضم هذا الشنآن راح شيخ هرم نحيف البنية بفم أدرد، يتفرّس أسنانك كبيطري متمرس في فحص أشداق الحيوانات، وإن كنت عرفت أنه البئيس المخادع مالكادياس بادرت في السؤال عن أوصافه،فدقّق في ذلك.لمْ أكن أشك في ذلك بل متيقنا،لأنه هو الوحيد الذي عرفته مولعا بأطقم الأسنان منذ مائة سنة من العزلة.
ونحن على مشارف نقلك على متن السيارة حضرت جارية،بل قل غانية متبرجة.صرّحت أمام الملأ وبإصرار تام أنها لن تسامحك، ظنناها بادئ الأمر زوجتك، غير أنها فاجأتنا مرددة لن أسامحه ولن أطلب له المغفرة حتى يؤدي لي أجرة ليال عديدة قضاها معي.نعم كانت هي إيما بوفاري .أجرتي كاملة غير منقوصة ثمن ليال أنهكني فيها حرثا طولا وعرضا وعمقا.ونحن على هذا الحال من التذمر وقلة الحياء لفتت أنظارنا امرأة ثانية،تخطو بخطوات رشيقة كبلقيس،بحياء ودلال، لم تُعرها كِسرةَ اهتمام،تَشي ملامحُها بالتعقل والرزانة وأخرجت من عبّها معطفا صوفيا مضمّخا بالطيب،ولفّته بالكامل على النعش.فعلا كنتُ أحب تلك المسكينة إنها بينيلوب.لتباركْها الملائكة وآلهة الحب والوفاء.مشيْنا مهرولين خلف سيارة همنغواي وهي تنفث في وجوهنا دخانا ساما أفقدنا وجهة المقبرة.ونحن على باب المقبرة، لا أحد طلب أن تؤدى عليك صلاة الجنازة. فلما أدوا أدوارهم،حسب المستطاع كل بمقدار، وهمّوا بإلقائك في الحفرة، انبرى أحد الصعاليك ولم يكن سوى تابع قائد الحصان الثاني، إنه جاك القدري، فبدأ يسب ويلعن حفار القبر مرددا يا ويلي يا ويلتاه، صندوق القمامة أفضل وأوسع من هذه الحفرة الضيقة، لمَ لمْ يوسّع هذا اللعين الحفرة؟ فأرض الله واسعة فلمَ كل هذا البخل والتقتير؟ أرض الله واسعة وأنتم تقيسون القبر بالشبر والأربعة أصابع. وما أثارني فيه،هي ثقته الزائدة إيمانا حينما أدخل يده بين تلافيف ثوب الكفن، وأنت مسجى شبعان موت، ليرفع لك سبابتك للشهادة مرددا: ما خُلِقت السبابةُ إلا للشهادة وقولِ كلمة “لا “، وانبرى يؤبّنك بمرثية حزينة،بل خطاب حماسي كقائد يهيج ويشدّ من عزيمة جنوده وهم على أهبة خوض آخر معركة حاسمة.ما أن اخترقت امرأة الحشد حاملة معها سلة خبز، مازال دافئا، يبدو أنها أخرجته للتو من الفرن، حتى ارتمى عليها، يفتك بالخبز فتكا،حتى إذا شبع رمى بالجثة في قعر الحفرة ودون أدنى ذرة من الرحمة، أهال عليك التراب قناطر مقنطرة كأنما خاف أن تستيقظ، مرددا tout est écrit en haut.ولما تحلق حول قبرك رهط من الفقهاء العميان من عشاق كسكس الموتى وطقوس العشاء الأخير والذين يملؤون المقابر رعبا وضجيجا وزعيقا ّإضافة إلى هواة كسكس العزاء من متسولين وذوي عاهات،وبينما هم يتلاغطون على مقربة من شاهد قبرك،فاجأهم شخص غريب الأطوار كأنه انبعث من بين شواهد القبور – ثَكِلتْكَ أمُّك إن ظننته سعيد مهران− لا،فهذا شخص بلحية شعثاء كثة وشعر رأسه أشيب أشعث أغبر يتأبط ما يشبه السنتوري فراح يلوّحُ به في الهواء وهو يصرخ كالمعتوه ويضرب هذا ويفلت ذاك وينكّل بذاك وظل يتعقبهم وهو مخمور على ما يبدو،حتى جعلهم يتفرقون طرائق قِددا راكضين على غير هدى لا يلوون على شيء ضاربين بأيديهم على مؤخراتهم كما لو أن نارا شبّت بتلابيبهم. فجلس على شاهد قبرك وراح يعزف على سنتوره نغمات حزينة شدتني إليه وأخذتني لحظة من البكاء،لكنه ما أن أكمل معزوفته حتى راح كالمجنون يرقص رقصا رشيقا،الصدر عار والرجل حافية.رقصٌ تارة كأنه البالي، وتارة كأنه الروك أو الهيب هوب وتارة يشبه الفلامينكو.بعد ذلك أطلق العنان لبكاء طويل مرير أعقبها ضحك هستيري كأنما تلبّستْه أرواح الجن والعفاريت التي تسكن القبور والمغاوير،مرددا إياكم أن تبنوا عليه ضريحا، حتى لا تعشش في عقولكم دودة عبادة الجثث.لم أكن أتوقع نهاية مريعة كهذه.كان هو وحده الذي لم أخطئ في التعرف عليه.هل حقا عرفته؟ نعم قال صديقي : عرفتُه إنه صديقُك زوربا.