أسوأ مهنة…| عبداللطيف الوراري
اِسمحوا لي، في البدء، أن أفشي لكم سرّاً ليس بسرّ هو أن “أسوأ مهنة” ليست لا الصحافة، ولا الإنعاش الوطني، ولا الإشراف على الخيريّات أو حضانات الأطفال المتخلى عنهم، ولا احتراف لعب اليانصيب، ولا أيّ مهنة تخطر على بال إنسيٍّ أو جانّ؛ إنها مهنة “تدريس الأدب”. نعم، تدريس الأدب. ما الأدب؟ ما الغاية منه؟ فيم ينفع؟
يأتي إليك الطالب (طالب ماذا؟) ويطرح عليك مثل هذه الأسئلة، وهو لم يقرأ كتاباً أو قصة في حياته. بلا “مدخلات” ولا يطمع في “مخرجات” إلا ما كان من حيل الغش التي يبرعون فيها أيام الامتحانات.
ولكن ما معنى “الشعبة الأدبية”؟ من يدخل إلى هذه الشعبة؟ هل المتفوّقون في الأدب وممّن لهم موهبة في الكتابة وميل إلى صقلها وتطويرها، أم الذين يجيدون الحفظ ويقرضون كتب الأدب واللغة والتاريخ؟
لا هذا ولا ذاك، إنّهم هنا، وفقط. لقد دُفع أكثريتهم إلى هذه الشعبة دفعاً بغير أن تهيّئ نفسها لشِعاب الشُّعبة. ظنّوا أنها مقاعد للراحة والاستجمام طوال العام، فلا يفقهون شيئاً من درس الأدب، ويجدونه عبئاً ثقيلاً؛ ثُمّ لا يصدقون أنهم نجحوا بالفعل. المهمّ أنهم نجحوا ولا يهمّ المعدل (هل سيحوّلونه إلى رصيد في البنك؟). ولنقل الحقيقة، فهذا الواقع نتاج مواقف الاستصغار والاحتقار التي يواجه بها الأدب ودرس الأدب داخل أوساط الرأي العام في الأسرة، والمجتمع، والإعلام، وحتى في أوساط الوزارة المعنية التي “شطبت” شعبة الأدب مع الأرض، بل وتفكّر في طريقة “هيتشكوكية” للتخلص من زوائده الدودية.
في المقابل، قلّة قليلة جدّاً من أتت إلى الشعبة وسلكت الشعاب. تجد بينهم طلبة نابهين، متحمّسين، حالمين، يسكنهم الأدب ويتذوّقونه، وكلما سنحت لهم سانحة، في مسابقة وغيرها، يظهرون مواهبهم بثقة وحب، ويدفّون أجنحة خيالهم لأول مرة كفراخ مؤمنة بالتحليق. وتجد بينهم طلبة من “الشعبة العلمية” ليسوا أقل حماساً منهم، قد زاحموهم في الصفوف الأمامية وأظهروا الأعاجيب، لتعرف أن فكرة “الشعب” كم هي قبيحة، ضالة ومُعوّقة. إن هؤلاء يجعلونك تحلم معهم، ويسافرون بك إلى طفولتك ومراتع صباك الدافئة، ويُشعرونك بأنّك موجود بالفعل. الحلم، التطلُّع والوعي بالكينونة. هل هناك من مستقبل أكثر من هذا؟
كم أنت عظيم أيُّها الأدب.. كم أنت عظيمٌ من قلّتك يومئذٍ!
عبداللطيف الوراري 2017-01-29