كريمة كربيطو
فجأةً امتلأ البيت بالصياح والبكاء، مات عبد الله ذلك الرجل البسيط والمتواضع والوحيد الذي رمت به الأقدار في هذا الحيّ الفقير. كان يحظى بحبِّ جميع سكانه واحترامهم، لم يَعِش عبد الله طفولةً عادية، لقد تخلَّى والده عنه وهو في بطن أمه منذ أنْ كان صغيراً وجد نفسه في سنٍّ مبكرة في صراعٍ دائم لأجل العيش. أصبح يقضي يومه يتجول بين السيارات يمسحُ الزجاج ويبيع المناديل وفي آخر النهار يعود للبيت لينتظر عودة والدته من العمل في البيوت. كان كلَّما سألها عن سبب رحيل أبيه تنفجرُ بالبكاء وتقول إنّه ضحى بهم لأجل أخرى فأصبح يكتم كلَّ تساؤلاته لكي لا يرى والدته ضعيفة أمامه. مع مرور السنين أصبح عبد الله كغيره من الشباب يفكِّر في الارتباط بفتاةٍ تنسيهِ ما قساه من حرمان في حياته وبالفعل حكمت الأقدار أنْ يلتقي ببديعة عن طريق صديق له، كانت فتاة جميلة سحرتهُ بجمالها لكنها لم تكن شريفة كانت تعمل في ملهى ليلي وأصبح عبد الله يتوافد على الملهى ليلتقي بها. في كلِّ ليلة كان يمضيها بجانبها يزداد تعلُّقاً بها، أصبح يَغيرُ عليها من كل أولئك الرجال الذين كانت ترافقهم تحول من زبون مثلهم إلى عاشق مجنون بعاهرة لم يعد قادراً على مقاومة ذلك الإحساس فقرر أن يصارحها بحبِّه في أحد الليالي، اصطحبها لقضاء الليلة معه واعترف لها بأنه يحبها وأنه يريد أن يتزوجها ولا يهمه ماضيها القدر تفاجئت بديعة بقرار عبد الله، الذي كان بالنسبة لها معجزة من السماء لطالما انتظر حلولها وتخليصها من ذلك الجحيم الآدمي. فوافقت على طلبه بدون تردد وبالفعل تزوجا برضى من والدته التي أحبَّت بديعة كثيرا رموا من خلفهم كلَّ الأشياء التي ستعكِّرُ صفو حياتهم. كانت بديعة زوجةً مطيعة وحنونة ومُحِبَّة لزوجها، أعادت بلينها وحسن معاملتها ترميم أجواء البيت وقلوب أفراده، عَمَّ الأمان والفرح على حياتهم كل ما افتقدته بديعة في حياتها من دفئ وحنان منحته لبيتها ولأسرتها. وكان عبد الله حريصاً على معاملتها جيدا، كان يعمل بجد لكي لا ينقصها شيء هي ووالدته. وبعد مدة أصبحت بديعة حائرة ومشوشة البال ومتوترة تغيرت تصرفاتها حيت أصبحت كثيرة الشرود ولا تطيق الحديث مع أحد، فطن عبد الله إلى هذا التحول فحاول معرفة ما يخامرها، لكن دون جدوى، تتهرَّبُ منه وترفضُ الحديث عما يضايقها كما أنها أصبحت تتلقى مكالمات يوميا مما زاد جمرة شكِّه لهيباً، كان يعلم ومتأكد أنها لن تخونه، لكن صوت بداخله يذكره بماضيها. أصبح يعيشُ حيرة وشك قاتلين طرح المشكل على والدته ففرحت وضحكت ساخرة منه، تعجب عبد الله من ردة فعلها لكنها أوضحت له أن هذه أعراض المرأة الحامل، فرح عبد الله بهذا الخبر السار وركض إلى غرفة النوم ليُخبر بديعة بما قالته والدته. دخل الغرفة فوجدها تتحدث في الهاتف بصوت منخفض كما لو أنها خائفة من أن يسمعها أحد لم يتماسك نفسه غضب كثيراً وبدأ يشتمها ويتهمها أنها خائنة ولا تستحقُّ أن تكون زوجةً له. كما أنه ذكَّرها بماضيها القَذر، حَزَّ هذا في نفسها وانفجرت بالبكاء وصارحته بأن والدها على فراش الموت وأنه يريد رؤيتها ليطلُبَ الصفح منها لأنه كان سبباً في هروبها من البيت حين أصرَّ على أن تتزوج برجل أكبر منها سنّاً طمعا في ثروته ومكانته. ولم يبالي لأمرها وكان هو المسؤول عن الطريق الذي سلكتهُ. كما أنَّه منعها من رؤية والدتها لآخر مرة وهي على فراش الموت. أصبحت تكرهه ولن تسامحه مطلقاً وتريده أن يتعذَّب كما عذبها وأنْ تحرمه رؤيتها كما حرمها من رؤية والدتها. احتضنها عبد الله ودُموع النَّدم تملئ مقلتيه على سوء ظنِّه بها وبعد أن هدأت أقنعها بأنْ تكون أكثر تسامحا، وعليها أن تسامح والدها طلب منها أن تفكر في الندم الذي ستشعرُ به بعد الرحيل لأنه يعلم أنها طيبةُ القلب ولن تتحمل الشعور بذلك النَّوع من الندم حدتها عن شوقه لرؤية والده ومعانقته بالرغم من أنّه تخلى عنه وهو لا يزال جنيناً، لكنه سامحه ويدعو الله دائما أن تلاقيهم الأقدار ولو لآخرة مرة في حياته المهم أن يقول كلمة أبي التي حرم منها لسنين وأنْ يجرِّبَ ذلك الشعور الذي يشعر به كل إنسان عند رؤية والده. اقتنعت بديعة وقررا الذهاب ومعهم والدته وحين وصلوا للبيت وبعد عناق الفراق مع الأحباب والأقارب دخلوا غرفة الرجل المريض كان عجوزا ضريرا أكل عليه الدهر وشَرِب، لم يبق شيء يربطه بالحياة سوى مسامحة ابنته له، انهارت والدة عبد الله بالبكاء وفقدت وعيها ظنوا أن هذا أمرٌ عادي بسبب أجواء الموت الحزينة، لكن بعدها ستعترفُ لولدها بأن الشّخص الذي أغرها وتلاعب بها واستغلها وعند معرفته بحملها استنكر لها وهرب من مسؤوليته وتركها هو نفسه والد زوجته بديعة. انصدم عبد الله يومها وأصيب بانهيار عصبي وأزمة نفسية حادة دخل على إثرها مستشفى الأمراض العقلية. أمَّا بديعة لم تتحمل الوضع وفكرة أنها تزوجت بأخيها ذلك الرجل الذي بفضله تابت عن الحرام ومعصية الله. لتجد نفسها ارتكبت أفظعها دون علمها أصبحت تخنقها لم تجد طريقة للهروب من ذلك العار سوى الانتحار. وبعد مرور سنتين على وفاتها تعالج عبد الله من مرضه وخرج من المستشفى فلم يجد أحدا بانتظاره ساقته الأقدار إلى قرية صغيرة بعيدة عن المدينة التي كان يسكنها. بدأ حياةً جديدة بها هرباً من ماضيه ومن كل ما يذكره بعبد الله حارس السيارات وقصّته مع العاهرة، لا بل أخته الطاهرة.