أبو دقيق ! | حمدى عمارة
حمدى عمارة:
وقف على مقربة من باب الغرفة، و” أبو العيون ” إلى جواره ، كانا صامتين مأخوذين ؛ كأن على رأسيهما الطير ، أو كأنما وقفا بأعتاب قبر .. خفق قلبه، ولهثت أنفاسه .. والكلب خاشعا ، لعله استشعر جلال الموقف ! .. عاودته الذكريات التى يمقتها، والتى تفرض سطوتها عليه ، وتتأبـّى إلا أن تجول فى خاطره .. اندفقت من صدره زفرة حارة .
كان قد هجر حرفته عن أبيه وأسلافه .. أغلقت بوابة الطاحون العملاقة لأول مرة منذ عشرات، أو مئات السنين ! .. كانت مفتوحة ولم يرها أحد قط .. توقفت الرحى بعد حين من الدهر .. أىّ حُمق وأى عبث وهى الطاحون الوحيدة، والناس من القرى والكفور والنجوع ، يتدافعون شطرها من كل حدب وصوب ، ولا ينقطعون عن ارتيادها ليلا ونهارا؟! .. كل ساعة ، وكل يوم .. تدخل جوالق و” زكائب ” القمح والذرة على ظهور الحمير والإبل ، لتنسحق بين حجرى الرحى الهائلين ، وتدرّها الأفواه دقيقا ناصع البياض .. الحركة مستمرة ، والعمل دائب طوال اليوم ، لا يتوقف إلا بعض ساعة فى الصباح ، ولم تكن إلا لتجهيز الحجر ؛ فيتعاون الجد والأب والحفيد فى نقر سطحه وتخشينه .. وسرعان ما تدور الماكينة ، ويدأب الشغل من جديد .
لقد ذرع جنباتها حبوا وزحفا .. كانت تطأه الأقدام أو تتعثر به .. يباغتهم صراخه فتفغر أعينهم ويشهقون على الأثر ، ويتعجبون لضحكه محتملا الألم الذى عصف به .. ثم بدورهم يضحكون .. وما أن يُديروا ظهورهم ، ليختلس النظر من حوله ، ويعود ليتحسس وجهه الغض ، وأصابعه التى فرمتها القدم المفلطحة ، ثم تعود ابتسامته التى لا تزايل محياه ! .
لم يغادر الطاحون منذ غشى بصره نور الحياة ، حتى بات من معالمه .. لقـّبوه ” أبو دقيق ” ، فهو يصادفهم فى كل الجنبات ، وكأنه يطير هنا وهناك مثل فراشة ” أبو دقيق ” ! ، كما يرونه دوما ملطخا بالدقيق .. لعله يلطخ به نفسه محاكيا أباه وجدّه ! . يُروى أنه وُلد بالطاحون .. كانت أمه تتلقف الطحين ذات مرة ، إذ أتاها طلق الولادة ، وتنبه الجميع حين صرخت ، وما لبث أن هرولت إليها النسوة ، بينما انطلق الرجال إلى الخارج ، وسرعان ما توقفت الماكينة عن الدوران ، والفوّهات عن الإدرار .. حتى شق صراخه الصمت ، وكأنه يحتج على خروجه من رحم أمه الرحب الوضىء ، إلى غـُبرة الدنيا ووحشتها ! .
إنه لا ينسى جدّه الذى ما أن يصادفه ، ليحمله بين يديه ، ويقذف به فى الفضاء ، ويتلقفه بينما يضمه إلى صدره .. وما يلبث أن يوزع القبلات على صفحة وجهه ، وجبينه ، وثغره الذى لا تدعه الابتسامة . لكم أحب جدّه وأباه .. أراد أبوه ألا يحذو الصغير حذوه ، وأن يرفق به من مشقة المهنة ، وذات يوم اصطحبه جدّه إلى الشيخ ” أحمد عمر ” ليتعلم القراءة والكتابة ، ويحفظ القرآن ، أملا وتطلعا لاستكمال تعليمه فى مدارس الأزهر .. ولكن أبَى ” أبو دقيق ” وتبرّم ؛ ليس لكراهيته للكُتـّاب أو الشيخ ، أو شىء من هذا القبيل ، ولكن لأنه لا يطيق البعد عن الطاحون ، وقد دأب أن يغافل العرّيف وينطلق كالظبى .. وينال فى المقابل ” علقة ” ساخنة بكفـّى أبيه الخشنتين الغليظتين ، وما أسرع أن يخف جدّه على صراخه لنجدته ، بعد أن ينهر ولده ، ويلعن ” العرّيف ” وأسلاف الشيخ .. وكان يوم سعادته حين حرّره جدّه من الكتـّاب ، وأسند إليه عملا بالطاحون على قدره .. ولم يندم ” أبو دقيق ” ذات مرة رغم ما يلقاه من تعب ومشقة ، وكلما شبّ واشتد عوده زيدت تبعاته ، حتى أضحى عمادا فى كل أمور الطاحون . إنه لا ينسى ذلك المشهد البشع الذى يتشبث بذاكرته ولا يدعها ، والكابوس الذى يطارده فى نومه ويقظته .
كان جدّه قد بلغ من العمر عتيـّا ، وأحاطت به أمراض الشيخوخة ؛ فهدّته ، ليودّع الطاحون ويركن إلى الدار والفراش ، ومثل الجد وهذا الصنف من الناس الذى يُمضى حياته بين الكد والكبد ؛ لا يطيق الدّعة والعيش عالة على الغير ، فما يلبث أن يترفق به القدر ، فتطويه المنيـّة ، ليودّع الحياة فى هدوء ، وقبل أن تدركه تكاليف الشيخوخة ، ومتاعبها .. هوى المارد الأبيض : صارى الخيمة ، وركيزة الطاحون ، ولكم بكته الجموع ، ولم تجف دموع الفتى ، وعاش ردحا من الزمن مع ذكريات جدّه ، وصورته التى لا تفارق خياله .
الصراخ ما برح يزلزله ويعصف به .. ونظرة الذهول سهم يفتك بقلبه.. كانت ساعة نـَكِـدة ، ويوما كابيا لم تطلع له شمس .. كانت ليلة مؤرقة .. صحا من نومه ، ولا يدرى سببا لانقباض قلبه .. توضأ وصلى الفجر ، واستعاذ بالله ، وراح يقرأ آية الكرسى والمعوذتين .. لم تكن هناك فرصة ليسأل نفسه ، فالتبعة تحتل كل فكره ، كما أنه متيّم بعمله .. عاشق للناس ، والغلال ، ورائحة الدقيق ، وصوت الماكينة الرتيب .. فما أن يلج الطاحون ليذوب فيه ، وينصرف عن كل شىء ؛ حتى الطعام ! .
كان غارقا فى شغله حين شق الصراخ سمعه ، ليدع ما بيده ، ويخـفّ كالظبى إلى حيث مصدر الصراخ بغرفة الماكـينة .. شهق كأنما أصابته صاعقة ، فيا لبشاعة ما وقع عليه بصره ! ، إذ كان أبوه بين التروس ، التى نشبت فى لحمه وعظامه ، لينبثق الدم .. بينما يشهق ويصرخ صراخا متحشرجا ، وقد برزت حدقتاه وكادت تنخلع من محجريها من فرط الذهول .. لم تمض هنيهة لينطفئ من عينيه وميض الحياة . توقفت الماكينة .. سكن الوحش بعد أن مزق فريسته .. لقد عجز أن ينقذ أباه ، أو يفتديه .. تسمرت قدماه ، أو أنها تيبّست .. كانت أنياب الوحش أسرع وأسبق .. وراح يلطم خدّيه ، ويُنزل اللوم على نفسه .. ” أنا الجانى ! ” .. كان هو المنوط بشأن الماكينة .. لقد تراخى فى واجبه .. لقد اضطرب الحجر ، وعلى أثره سمع صوتا غير مألوف يصدر من الماكينة .. تمهل دقيقة ، فخف أبوه إليها ليلقى حتفه .. كان على موعد مع الموت .. مشهد مأساوى ! .. هل عانق أبوه الماكينة ؟! .. أم هى التى شدته ؟! .. إنه سر فى طىّ المجهول ، ولا يعلمه إلا خالق الأنام .
ـ ” ليتنى متّ قبل هذا ! “
انتزع الصريع من بين التروس ، وشيع جثمانه إلى حيث مستقره .. وأغلق الطاحون بالضبّة والمفتاح ، ورأى الناس بوابته الهائلة .. عَمِد ” أبو دقيق ” إغلاقه ، ولم يأسف على ذلك ، فلم تـُبق الماكينة على العشرة .. تبدلت وحشا ضاريا ، وأخذت أباه على غِرّة ، وفتكت به .. خانت صاحبها بعد طول سنين .. والناس .. الناس من هنا وهناك فى حالة من التبرم والتذمر ، فأين يذهبون بغلالهم وهم لا يعرفون غيره ؟! ، وكيف يستقيم عيْشهم بدون الطاحون ؟! ، ورغيف الخبز عماد الحياة ؟! .. أ يعودون لمعاناة الرحى ؟ .. أ يرجعون القهقرى كل هذى السنين ؟! .. ولم ؟! .. أ من أجل موت الرجل ، أم أنها الميتة نفسها ومدى بشاعتها ؟ .. رغوا وأزبدوا : مهما تنوعت الأسباب فالموت واحد : صريعا تحت عجلات قطار ، أو محروقا أكلته النيران ، أم ميتا فوق الفراش ، أم قتيلا جندلته أنياب التروس ، الموت هو الموت ‘ وقد تطول أيام الاحتضار .. ليس أول ولا آخِر .. الموت يحصد الأحياء منذ بدء الخلق .. كل يطوله ملك الموت ولا مفر .. لن ينجو أحد من المصير المحتوم .. لقد مات الأنبياء ، ومات الملوك ، والجبابرة الطغاة .. ورُب أحياء كالأموات ، وأموات هم أحياء بسيرتهم ، نعدد مناقبهم ونترحّم عليهم .
تردد القوم على ” أبو دقيق ” ، الذى حبس نفسه فى غرفة بالدار ، وراح يندب حظه ، عازفا عن الطعام ، وصائما عن الكلام .. وما أن لعب لسانه لينطق كفرا ! .. زعق فيهم ، وأمطرهم بالسب ، وطردهم .. لا يشعر بحرق النار إلا من يقبض عليها .. لا ترى عيناه إلا المشهد البشع ، وما زال صراخ أبيه يرن فى أذنيه ، ودمه المراق يملأ رؤيته.. أنياب الماكينة ، والصراخ ، والذهول ، والدم المراق البرىء .
ودّع الطاحون محراب حبّه .. ودارت الأيام .. نهش الجوع معدته وذويه .. الجوع كافر .. وأعين الجياع تدور زائغة فى محاجرها فى صمت ، والصمت أبلغ من الكلام .. بل إن الصمت يحمل فى أعماقه بيانا ! . لم يمكث لحظة ، إذ غلىَ رأسه وأشرف على الانفجار .. هبّ باحثا عن حرفة أخرى .. عمل نجارا .. عاندته المسامير ولم ترضخ له .. دق على إصبعه ، وكاد يفرمه .. لم يكن ” الشاكوش ” وحشا .. فرّ من النجارة قبل أن يُضرب ويُطرد .. عمل حدادا .. كاد أن يقتل زميله .. آثر الهروب .. استيسر أعمال الفلاحة ، ولكنه لم يفلح .. مضت شهور .. نفد الصبر والخزين من كل شىء .. الجوع أشد قسوة وضراوة من الماكينة ، فالموت يسرى بطيئا ويُقبل على المهل .. ليس إلا أن يمد يده ، أو يهجر الأهل والقرية جميعا .. الموت لديه أهون من التسول وإراقة ماء الوجه ، والهروب من المسئولية خسة ونذالة وعار .. واليأس كفر ، والانتحار شرْك والعياذ بالله .
وذات ليلة .. لم ينم ” أبو دقيق ” ، وعمد إلى السهر يعدّ ساعات الليل التى تمضى فى تلكؤ ، وكانت قد هجعت القرية ، وسكنت الأصوات ، إلا من ثغاء ماعز ، أو خوار ثور ، أو نباح كلب .. كان الفجر لم يحن بعد ، فلم يسمع صياح الديكة .. طرح الغطاء .. نهض ، وخرج إلى الدهليز يتحسس الأرض بقدميه .. أطرق أذنيه .. لم يأت إلى سمعه إلا صوت الأنفاس الرتيبة .. خطا نحو باب الدار .. فتحه فى تؤدة وخفة حتى لا يصدر صريره الباكى ، ثم أغلقه فى حذر ، ليجد كلبه ” أبو العيون ” فى انتظاره .. يبصبص بذيله كالعادة ، ويتمسّح فيه .. وما لبث أن تقدّمـَه ! ، بينما كان يتقافز فى سعادة .. كان ” أبو دقيق ” مولعا بالكلاب منذ صغره .. وإنه يذكر حين أبصر به لأول مرة ، وكان ما زال جروا يلقم مع إخوته الجراء أثداء أمه ، أو يهرولون خلفها أينما تذهب ، وقد لفت نظره : خفة حركته ، ومداعبته لأمه ، ولهوه مع إخوته ، وشغف بجرأته ، ووثباته الرائعة . ولما كبر راح يدنو منه ، ويلاطفه ، ويعطيه الطعام .. ثم لم يجد صعوبة فى استدراجه إلى الطاحون ، وقد أحبه الكلب ، إذ ضمن مأواه وطعامه .. وباتا صديقين حميمين .. يتلازمان ، ولا يفترقان إلا عند المبيت .. ويتقاسمان مشاعر الألم والفرحة على مدى الأيام ! .. وقد مات جدّه ، وهو لا يدرى لم سمّاه ” أبو العيون ” ! .. أ ليقظته ، وحدّة بصره ؟ ، أم لهالتى الشعر البيضاوتين فوق عينيه ؟ .. ولكن ، مات السر مع جدّه .. كما فتكت الماكينة بأبيه ، ولم يسأل ، لماذا سُمّوه : ” أبو دقيق ” ! .
يبدو أن سئم ” أبو العيون ” طول الوقفة ، أو أنه استشعر تردد صاحبه ، إذ شبّ بقامته إلى باب الغرفة ؛ كأنما أراد أن يستحثه ، عندئذ امتدت يد ” أبو دقيق ” لتفتح الباب ، الذى أصدر أنينا .. خطا ” أبو دقيق ” خلف صديقه .. تأمل الماكينة القاتلة .. طاف المشهد المروّع بمخيلته .. وأبوه ذاهل العينين يستنجده .. دقق البصر ، لفت نظره شيئا كان قد غفل عنه .. كان أبوه يرتدى الجلباب ، أجل ، إنه على يقين ويقسم عليه ، فالماكينة لم تشده إذا ، والجلباب هو السبب .. لقد تعجل أبوه ، وأغفل أن يخلع الجلباب ، الماكينة لم تخن العِشرة ، ولم تقتل أباه .. الآن حصحص الحق ، وبزغت الحقيقة : الماكينة بريئة من دم أبيه .. وإنه القدر ، ولكل أجل كتاب .
كان قد ارتدى زى العمل الذى لم يكن جلبابا ، وما لبث أن ضغط الزر ، لتدور الماكينة .. لاحت ابتسامته ، وأدمعت عيناه ، واتـّبع ” أبو العيون ” صاحبه ، ودارت الرحى ولم تتوقف إلا بعض ساعة كل صباح .. وعلى مدى السنين ، لم تـُغلق بوابة الطاحون .
أبو دقيق حمدى عمارة 2016-02-09