عيسى ناصري
إن أول ما يثيرنا ونحن نخوض رحلة القراءة في “مذكرات أعمى”، هو ذلك التشظي في بناء محكي الرواية، والتباس القصصي بالرّوائي، واستيعابها لتداخل أجناسي جعل النص يمتح من القصة القصيرة جدا تارة، ومن السيرة تارة أخرى، ومن المذكرة حينا، ومن النص التاريخي حينا آخر، ومن قصيدة النثر والخاطرة والحكاية الشعبية أحيانا. كما أن هناك انتهاجا لإبدالات في أدوات الاشتغال الرّوائيّ، وتعديدا للأصوات، وتكسيرا لخطّية السّرد الناظم لأحداث الرواية وتغييبَه في بعض المذكرات..
هذا ما يجعلنا أمام نمط جديد من الكتابة السردية يأبى منطقُه الانضواء بسهولة تحت جنس الرواية. إلا أنّ حضور هذه السمات في النص لا يؤثر على صفة الرّوائية في شيء، وذلك لاعتبارين: الأول هو أننا أمام نص تنجلي فيه مقومات السرد إلى جانب تداعي اللغة والتخييل لرسم معادل للواقع، وهذا هو جوهر الرواية. والثاني إن “مذكرات أعمى” تدخل بنا، كما دخلَ بها الكاتبُ، في غمار ومتاهيّة التجريب الرّوائي الذي يتطلب تجاوزا وخرقا للمألوف. والتجريب هنا بمعنى خلخلة الجاهز من الكتابة والوعي، أو”بحث عن إمكانات جديدة في مستويات التقنية وكذا الرّؤية بهدف خلخلة وتجاوز ما هو سائد” حسب تعبير سعيد يقطين*. فكيف تمثل حميد ركاطة التجريب في “مذكراته”؟ ما ملامح هذا التجريب؟ هل توخاه كرؤية مؤصلة أم أنه ارتمى في أحضان الاختبارية، خاصة في ملمح تشذير عالم الرواية ؟ ما الأدوات الفنية التي توسّل بها في بناء متخيله الرّوائي؟ وإذا كانت الذاكرة بؤرة اشتغال ومرجعية تشكيل العالم الروائي في “مذكرات أعمى” فكيف وظفها الكاتب؟ ووِفق أي منطق فعّلها لتناسب المبنى الشذري الصارم الذي أخضَع له الرواية؟ كيف تعامل مع ذاكرة المكان “خنيفرة” ونسج تموجاته وحدوده الواقعية وكيف استدعى شخصياته الواقعية ؟
يلمس قارئ “مذكرات أعمى” منذ الصفحات الأولى جنوحا للكاتب إلى تجاوزالأبنية المتخيلة القارة في الكتابة الرّوائية، وبذلك مارس تجريبا يوجّه من خلاله الكتابة إلى البحث عن آليات جديدة في مستوى التقنية والرّؤيا. وأول ملمح لهذا التجاوز تشذير النص الرّوائي إلى مذكرات مستَقِلّة مرقمة من “0” إلى “99”. كلّ مذكرة تنشغل بتشكيل صورة، وتنغلق على نحو يعطي القارئ إحساسا باكتمال ما، وكأنّ كلّ مذكرة قصّة قصيرة، أو لوحة مكتملة يصحّ أن تنفرد عمّا سواها كما يصحّ أن تنضمّ إلى غيرها فتتشكل صورة أكبر وبدلالات أوفر. والملاحظ أن كلّ مذكرة تبدأ بجملة تصلح مفتتحا لقصة قصيرة، وتختتم بجملة تصلح لإغلاقها، هذا الإغلاق لا يكون إغلاقا تامّا بل تمهيدا لمفتتح جديد في متوالية من الصّور تضطلع مجتمعة ببناء عالم الرّواية.
تبدأ الرواية بالمذكرة (0) التي تكشف صورة البطل وهو يحاور امرأة، و يغازلها ” قالت: خطواتك تمزّق أحشاء غابتي كذئب. قال: أراه منتصبا فوق رأسي…” ص9. وفي المذكرات (1) و (2) و (3) و تستمرّ نفس الصورة في التشكّل ( أي صورة الأعمى والمرأة الضريرة التي التقاها ذات محنة، ذات شتاء)، لكن تُلتقط من زوايا مختلفة، بحيث تستقل كل صورة من هذه الصور الأربع عن بعضها، لكن بتداخلِها وضمّ بعضها إلى بعض سَوفَ تَتَضِح معالم العلاقة الحميمية للأعمى بالمرأة الضريرة، وهي علاقة قائمة على الحبّ والغيرة والحزن والجنون والعَمى. وفي المذكرة (4) يرسم صورة مِرآوية للأعمى وأشيائه وعلاقته بعصاه، صورةً تكشف عن الحزن الذي يخيم على نفسية البطل، حيث تصير العربدة هي السبيل إلى النسيان. تخاطبه العصا ” أحزان قلبك كحانة عربد فيها السّكارى، وأسدل حولها المتشرّدون ستائر النّسيان” ص15 . لتستمرّ الصور في التناسل في بقية المذكرات مُبعثَرَةً، إذ على القارئ أن يعيد نظمَها وترتيبها مُنطلقا من “صفره الخاص” ص69، وعليه أيضا ملء الفراغات التخييلية من خلال المؤشرات المبثوثة في ثنايا هذه الصور. وهذه الاستراتيجية نابعة من وعي الكاتب بأنّ الرّواية لا تقدّم دلالات منتهية أو حكايات مغلقة، بل ترى فعل السّرد خلقا لعلاقة تواصل لا منتهية بين النص والقارئ . ولأجل تشكيل هذه الصور السّردية، فقد راهَن الكاتب على جماليات التصوير السّرديّ من خلال لغة بصرية مكثفة ذات نفَس شِعري، جعلت من المحكي شبيها بلقطات سينمائية متناسلة، لقطات متتابعة وهادرة ترتبط حينا وتنفصل حينا آخر، تنجلي لحظةً وتتعتم لحظاتٍ، جاعلة شخصية الأعمى بؤرتها متقفية أثره وأثر عصاه راصدة تقلبات مزاجهما وتحركاتهما في الأزقة والمقاهى والحانات والحلقات.
ومما أسعف هذه اللغةَ التصويريةَ الاشتغالُ على آلية الوصف وهو وصف غير خالص تماما يَقُومُ كمحفّز سرديّ يساهم في خلق دينامية سردية يستشعرها القارئ وهو ينتقل من مذكرة إلى أخرى، ومن ذلك “كلّما نزع نظارتيه، ضحِك حتّى البُكاء، يلتَفّ حوله المَرضى، فيأمرهم بالصمت. ينصاعون له بعفوية، يرددون نشيد العَصا بينما يمرّ هو بين الصّفوف كمأمور.. اعتقدت في البداية أنّه يتمارض، مُتصنِّعا حالته المُعقّدة تِلك، لكنني تأكّدت بما لا يدع مجالا للشكّ أنه ليس كذلك” فمقطع مثل هذا في الظاهر هو وصف للأعمى، لكننا نلمس فيه أيضا دينامية سردية تضطلع برسم صورةٍ للأعمى تكشف غموض مَرَضه وعماه.
كما عمد الكاتب إلى أدوات وتقنيات أخرى أسعفت في بناء متخيّل “مذكرات أعمى” منها تقنية الرواية داخل الرّواية. ذلك أنّ من مَوَاضيع هذه الرواية، من حيث الشكل الفني، مَوضوعَ كتابة رواية من خلال تجميع السارد لِقصاصات الأعمى. سأل السارد طبيب الأعمى، وقد فتح أمامه ملفا عنوانه مذكرات أعمى (0): “هل ما يتضمّنه الملف بالفعل رواية.. يرد الطبيب: أنسيتَ أنك كاتب هذه الخزعبلات.. ” ص69. إننا نخرج من النص وكأننا قرأنا روايتين، رواية أولى كتبها الساردُ صاحبُ الأعمى، والثانية كتبها حميد ركاطة عن سارد لم يكتَفِ بسرد ما يعرفه عن شخصية الأعمى(صاحبه) فقط، بل قام بملء الفراغات المعتّمة في حياة ومذكرات الأعمى، وحرّف فيها “الكثير عن مواقعه” ص229.
ولخِدمة هذه التقنية فقد راهن الكاتب على تعديد الأصوات. فنحن أمام رواية بوليفونية تتناوب فيها على السرد أربعة أصوات بارزة:
في مستوى أوّل نجد صوت ساردٍ أعلى يتقمص دورين: دور سارد عليم كلّي المعرفة، ودور ساردٍ مشارك في الأحداث (صاحب الأعمى). ولهذا السارد بروز محدود في الرّواية إذ يظهر في تِسعَ عَشْرة مُذكّرة فقَط: في سبع منها يكون مشاركا بحيث يقتحم الأحداث ويقدم الشخصيات ويتفاعل معها (المذكرات 42، 43، 44 ، 45 ، 46، 47، 99 (وفي الاثنتَي عشْرة الأخرى (المذكرات: 0 ، 2، 3 ، 7 ، 17 ، 18، 25، 26، 32 ، 48، 50 ،81 ) يبدو السارد محايدا بحيث يقدّم الشخصيات من غير أن ينخرط في الأحداث، معتمدا في ذلك رؤيةً من خلف تَكشِف خبايا الشخصيات ونفسيّتَها. كما في هذا المقطع المأخوذ من المذكرة 48: “قالت العصا وهي تمرّ رفقة المرأة الضريرة ذات مساء، يا ليت الزمان يعود يوما، وقد فتنتها رائحة البيرّة، ودفء الحانة القديمة..” ص74. وإذا ما تساءلنا هنا: أليس لدينا ها هنا ساردان منفصلان في وظيفتيهما بدَل سارد واحد؟ أوَليس السارد الكلّي المعرفة هو من يسخر السارد المشارك (صاحب الأعمى) ؟، غير أن الجواب يأتينا على لسان هذا السارد المزدوج في المذكرة الأخيرة، يقول:”سيسألونك عن الأعمى قل هو شخص كبقية الشّخوص..شخص أعاد للذاكرة بريقها المفقود.. سألته يوما إذا ما كان يبصر من قبل فأجابني بالنّفي، شككت في أمره، استشرت طبيبه المعالج، فأخبرني بحقائق ظلت تؤرقني.. إنه شخص ورقي لم يغادر مذكراتي.. أنّبني ذات حوار فقال: _ لقد أجهزت عليّ، حرفت الكثير من الوقائع، لن أغفر لك زلّتك، افتريت عليّ كثيرا..” ص229. فالسارد هنا يقِرّ على لسان الأعمى (صاحبِه)، أنّه استثمر سيرة شخصية الأعمى لكنّه حرّف وقائعها وأحداثها وتصرف فيها بحيث جعل من الأعمى مجرّد شخصية حبرية سكنت مذكراته وتبددت ملامحها على الورق.
وفي مستوى ثانٍ يبرز صوت الساردة وهي صديقة الأعمى التي ستلازمه في مرضه ولحظات موته، والتي أوصاها بنشر مذكراته. وينضمّ صوتها إلى صوت السارد الأول لكشف جوانب معتمة من حياة الأعمى. وبروز صوت الساردة ضئيل مقارنة مع الأصوات الأخرى، لا يظهر إلا في ثماني مذكرات وهي على التوالي: 28، 29، 30 ، 31 ، 33 ، 34، 49، 82. .
في مستوى ثالث نجد بكثافة صوتَ البطل، وهو الصوت المهيمن في الرواية، حيث يتنازل السارد الأعلى عن دائرة السّرد ليسلّمها للأعمى. يقول السارد: “حكّ الأعمى رأسه ثمّ طلب منّي الخروج من دائرة السّرد..” ص136. فهناك احتكار للسرد من طرف البطل، وهذا أمر نراه منطقيّا ما دامت المذكرات تميل إلى نوع من البوح وتشغيل الذاكرة الفردية اللذَيْن يستوجبا ضمير المتكلم الناطق بالتفاصيل النفسية والتمثلات االذهنية للبطل ورؤيته للعالم. في مستوى رابع يظهر صوت العصا، ويشغل حيزُ صوتها في الرواية، المرتبةَ الثانية بعد صوت الأعمى، وكيف لا وهي لسانه الناطق، والدليل الذي يسافر به، والعدسة التي يرى ويتحسس ويستنطق بها الأشياء والشخوص والفضاءات، وتشخيص العصا هنا له رمزية ضاربة في العمق توكأ عليها الكاتب في تشكيل العالم النفسي العاطفي لشخصية الأعمى. وهكذا تتداخل هذه الأصوات الأربعة، وتتناوب بقدر متفاوت، على امتداد نصوص المذكرات، وتنضاف إليها أصوات باقي الشخصات، فتتظافر جميعها مساهِمةً في تشييد متخيل الرواية.
ومن جانب آخر توسّل الكاتب في تشكيل متخيّل نصه الرّوائيّ، باستدعاء الشخصيات الواقعية الفنّية والهامشية استدعاء تخييليا وتوثيقيّا في آن واحد، من هذه الشخصيات الفنّية: (الغازي بنّاصر ص212، الكامبو والعجمي ص 152، عرّوب ص181، المدّاح ص190) فهذه الشخصيات الأربع استلهم الروائي جوانب من حياتها الواقعية والمتخيلة، حيث جعل بطله (الشخصية المتخيلة) يخالط هذه الشخصيات، يحاورها، يتورّط معها. وهذا من الظواهر الجديدة التي عرفتها الرواية المغربية في العقود الأخيرة، نوع من الكتابة يستثمر سِيَر الفنانين والأدباء متخذا الشخصيات الواقعية منطلقا لبناء متخيل تتقاطع فيه إشكالات ذاتية معاصرة للكاتب مع قضايا كتابة السيرة الغيرية لهؤلاء. وحميد ركاطة استلهم سير فنانين ومغنين، وأضاف إليهم شخصيات هامشية وَشَمتْ ذاكرة مدينة خنيفرة من حمقى ومجانين وحرفيين (ميروش، بومزيبرة، باحدّة، عقبة)، وهو ما يجعلنا أمام خلط بين الشخصيات الواقعية والمتخيّلة. فهذا التداخل بين سيرة الأعمى كشخصية متخيلة، وسِيَر الشخصيات ذات المرجعية الواقعية، أتاح من جهة الكشف عن الأبعاد السيكولوجية والاجتماعية للشخوص ومدى التباس علاقاتها ومكر الحياة بها. ومن جهة أخرى مكّن المؤلّفَ مِن طرْقِ قضايا راهنة محلّية وإنسانية تتعلّق والفنّ والنسيان وفساد السياسة والحب والجنون والتهميش وتحولات الأشياء والقيم.. فهذا التداخل في الشخصيات، واستلهام الواقعية منها إلى جانب المتخيّلة، يعد من السمات الجوهرية في تشكيل المتخيّل السّردي في “مذكرات أعمى”.
وغير بعيد عن استلهام الشخوص الواقعية، فقد تمّ تشكيل المحيط السّردي للرواية اعتمادا على أمكنة مرجعية واقعية أيضا. أهمها “خنيفرة” المدينة التي اتخذها الكاتب بؤرة تتحرك فيها شخصياته جائلة بين مقاهيها وأزقتها وأحيائها (زقاق وهران، زنقة السينما، حيّ البام، الكوبراتيف، دار العسكري، حي تعلالين، المارشي القديم، ديور الشيوخ، مقهى مولاي موح، مقهى قاسمي…). وتُمثل خنيفرة فضاء غنيا بتاريخه وذاكرته وبأهله وفنّانيه ومجانينه أيضا، مدينة “لا تنام.. تجترح سديم ليالي أزمنة وَلّت، بأحزانِها وآلامِها..” ص85. فالاشتغال على ذاكرة المكان المتّقدة والحية أيضا، والارتكان إلى ماضي مدينة خنيفرة وما طرأ عليه من تحولات، قد حقق لدى القارئ، دون أي شك، إيهاما بواقعية الأحداث وخضوعا لا مشروطا لِسُلطة المكان الذي يشهر نفسه بأسماء أحيائه وأبطاله وفنانيه وماضيه التليد. وهنا لا ننسى القطب المكاني الآخر :”الرباط” الذي يتنقل منه البطل وإليه سيعود. وتوظيف هذا المكان لا يخلو من رمزية أيضا، فإن كانت خنيفرةُ الهامشَ فالرباط هي المركزُ، وإن كانت المعاناة والعتمة والتهميش وتغيرات القيم ذات حدود محلّية فلا تلبث، كما سيكتشف البطل، أن تصبح ذات بعد وطني. لهذا”قالت خنيفرة في أسى (مخاطبةً الأعمى وقد ابتعَد عنها) : ستكون حزينا أينما رحلتَ “ص224، ولهذا أيضا نجد الأعمى في المذكرة ما قبل الأخيرة يصرخ في وجه مدينة الرّباط، وقد ضاقت به وبأحلامه: “هذه مدينة مقطوعة الرّجاء” ص228.
كلّ هذه الآليات الفنية، وآليات أخرى لم نأتِ على ذكرها، كتشغيل تقنية الحلم (ص 47 و 77) وتوظيف الرسائل أو الخطابات إلى جانب المذكرات (ص201، 203،206، 208)، كلّها جعلت من “مذكرات أعمى” نصّا اجترح التجريب بطريقة أبعد ما تكون عن الاختبارية والتمارين السّردية التي غالبا ما تثقل كاهل النص بالتكلّف والصّنعة مما ينتج روايات سديمية مغرقة في التجريد الشاعري والفلسفي. فالتجريب الذي يجترحه حميد ركاطة ها هنا تجريب مُؤسس على رؤية عميقة تأخذ بعين الاعتبار مستويات تشكل مُتخَيّل الرواية وأبعاده الفنيّة الشكلية والدلالية ، تجريب فيه جنوح نحو التأصيل عبر استدعاء التراث الفني والثقافي المحلّي والحفر في ذاكرة المكان.
هوامش:
* مذكرات أعمى. حميد ركاطة . منشورات ديهيا. الطبعة الأولى 2015
* القراءة والتجربة. سعيد يقطين. دار الثقافة/ الدار البيضاء 1985