Jean-Louis Cotten
سراديبُ الهوية. | الاعرج بوجمعة
الاعرج بوجمعة
على عادته ظل صديقي البشير قبل نومه يفتح ملفا ملفوفا “بميكة “سوداء، ويكرر هذا الفعل لأيام وشهور عدة، فالطلاب الذكور عكس الفتيات قد يعاشرن بعضهم البعض ولم يناقشوا أشياء ذات طابع خصوصي، شخصي، بينما الطالبات منذ اللقاء الأول تحصي لصديقتها عدد الإخوة وشغل أبيها وأمها، وكم تحصلت في شهادة الباكلوريا، وفي المساء تدعوها لأن ترافقها لعيد ميلاد صديقتها.. كل هذا حدث في يوم واحد !
كانت ملامح البداوة تزّين وجه على البشير تظهر من ملابسه الرثة وطريقة اختياره لألوان لباسه، قد يلبس قوس قزح لا يهم، لأنه ربما بالفطرة يتفق مع رالف لنتون في القول بأن الغاية من اللباس هي حماية الجسم. لكن هذا لا يعني أن البشير كان بدون تساؤل حول الهوية، فكانت الصدمة الأولى هي صدمة التحديث، وصدمة الانتقال من القرية إلى المدينة، من رعي الغنم الذي كان يوهمه أبوه بأن رعي الغنم يدخل الجنة، لأن الرسول رعى الأغنام، كانت صدمة الحداثة شبيهة برواد الاصلاح لدينا لما يلجوا أوروبا لأول مرة، فهو لم يلج أروبا، وإنما دخل فاس المدينة، التي كانت حلما بالنسبة إلى البشير وهو في مرحلة القصور، لأن النضج كما تقول مرغريت ميد تحدد القبيلة، فالنضج يوم تخرج القرية وتلتحق بفاس لاستكمال الدراسة أنداك يتحقق النضج، كان البشير يحس دوما بهذا القصور، ويتعب نفسه بالسؤال متى ينفك هذا الحصار، حصار رسمته الثقافة الشعبية، لكنه مهم في نظر البشير لرسم حدود المسؤولية والرجولة.
فسؤال الهوية، يبدأ من الاسم لكن لسوء حظ البشير لم يكن اسمه علم مسمى، وإنما يحمل اسم البشير بينما التعاسة والتشاؤم والسهو، وطول التفكير ظل يرافقه.. كانت هذه بداية قلق الهوية ففكر مرات عدة في تغيير اسمه، لكن بدون جدوى كان لفظ البشير قد انتشر بين الأصدقاء، رفيقته أحبته لاسمه، ولكآبته ولحزنه المستمر.. فأول ما يفعل طالب النازح إلى فاس هو ربط علاقة حميمية مع فتاة ترمز للحضارة، وهو في نفس الوقت يرسم حدود الرجولة والبداوة على شفتيها.. فكانت هذه بداية ما يقوم به الطالب، مثل ما يقوم به يستكملون الدراسة عندما ينتقلون إلى أوروبا كما يحكي سهيل إدريس في “الحي اللاتيني”. لكن البشير كان يبدو بريئا من خلال بداوته وحزنه المستمر، ومن خصال بنات الحضارة يروضن نموذج الطالب البدوي. كانت للبشير علاقات محدودة أصدقاء من قريته، أو من طلبة الفصل، فظل يسائل نفسه باستمرار لماذا نحن أبناء البداوة لا اجتماعيين، وما العيب في العزلة والتشاؤم..
بعد كل هذا الركام من الأسئلة ظل البشير يعيش قلقا داخليا، ربما لقلة الاتصال لم يتصل به أحد، على خلاف الطلاب الذين يسكنون معه في الحي، اتصالات وقهقهات مستمرة مع الأهل، البشير كان هاتفه من نوع “نوكيا” لا يرن إلا صباحا تطلب منه رفيقته أن يخرج للمكتبة، ربما ليشرح لها بعض الدروس، البشير ليس ماكرا أو انتهازيا، يعاملها بنوع من الحياد العاطفي، كثيرا من الجدية، لم تكن للبشير ثقافة مع الفتيات كيف يقول لهن اليوم يوم جميل، ترتدين فيه ثوبا جميلا، رائحتك ملئت المكان .. كل طالب حازق لا بد من أن يبحث عن عاشقة فاسية، حتى الرفاق والإخوان يقومون بذلك، لأنهن مصدر حل المشاكل المادية في فاس، كما أنها تستثمرها كمرشد سياحي داخل المدينة.
مجيء البشير إلى فاس لم يكن اختيارا وإنما ضرورة، فرضتها الهيمنة والمركزية، لأن في فاس توجد الجامعة، وكان مجبر لا مخير بالالتحاق بالجامعة، فنحتاج أحيانا إلى صدمة لنستيقظ من جديد، نحتاج للقطائع مثل ما يحدث في تاريخ العلم ينبغي حدوثه في تاريخ الانسان، لأن الكمال في وجود الإنسان ينبغي أن يكون عدما أو لا يكون.
قد يصدق أحيانا قول درويش “إن الهوية بنت الولادة، لكن في النهاية هي إبداع صاحبها ..”
يتبع ….
2016-10-10