حنان الدرقاوي
كنت في السادسة من عمري وكانت قدماي الصغيرتان لا تتعبان من المشي ولا شيء يريحني غير لف الكصر لفات كثيرة في اليوم. تهدئ أعصابي وأستسلم لنوم كان قد بدأ يخاصمني منذ تلك السن البعيدة. أستيقظ صباحا وألف في البيت وأدور. بعد أن أتعب من الدوران على نفسي في بيتنا الطيني بقرية آيت عاصم،أنسحب بهدوء، أنزل من الطابق الثاني حيث تاسقيفت والزعيق اليومي. أنسحب من كل ذلك وأخرج وأنا اعرف وجهتي: قصر تامردولت.
أنزل الدرج الطيني وأطل على إيحونا التي يهجم عليها ضوء قوي في منتصف النهار ويجعلنا نحتمي بالمراح “الفسحة” في الطابق السفلي وحينما يحل المساء يستحيل المراح إلى جحيم فنصعد إلى السطح. كنا نقضي الصيف هكذا طلوعا وهبوطا تبعا لنظام تكييف طبيعي يخضع له أبناء الواحة بدون تذمر.
لم يكن شيء من هذا القبيل يثير تذمري، ما كان يثير فزعي هو الزعيق المتواصل والأواني التي كانت تتطاير كلما غضب أحد رجال البيت أو لم يدخن سيجارته.
كنت أنسحب بهدوء وأقطع لعلو وهو ما يفصل البيوت الطينية ويشكل شارعا حيث تيار هواء جميل كنا نتسابق لنكون في مهبه. أعبر لعلو نايت مرغاد برشاقة وأعدو بعدها وعلي يميني أعفير وهو حفرة كبيرة تحيط بإغرم ويبدو أنها كانت وسيلة دفاع عن الكصر في زمن بعيد.
أعبر البيوت الطينية ولا أسلم على أحد ولا أحيي أحدا لأنني لم أكن أتعرف على الناس بوضوح ولن أتعلم التحية إلا في سن التاسعة حين حصلت على نظارات طبية.
شخص واحد لم تكن تخطؤه عيني وكان دليل الرؤية قلبي، هذا الشخص هو عمي الأكبر.
هذا الرجل إسمه التهامي وهو اسم غريب عن القبائل الأمازيغية الذين يسمون عادة عسو وباسو وحدو. عمي يحمل اسما غريبا ووجها غريبا أيضا. كان أبيض البشرة، صافي الطلعة وطويل القامة. لم أكن أمل من النظر إلى وجهه العريض الذي تعلوه عيناي مبللتان بالدموع ولا أعرف لماذا. ذات يوم سألته في الدرج الأخير من بيت جدتي بتامردولت:
-
لماذا تبكي يا عمي؟
أجابني
-
لأنني أخاف من نفسي فهي طماعة.
لم أكن أفهم لماذا يخاف هذا الرجل من نفسه. كنت دائما أراه هادئا مقرفصا أو عائدا من تاشقالت وأدوات الفلاحة على كتفيه. ينزلها بهدوء ويخرج من كيسه بعض الخضراوات أو حبات ثمر ويضعها في أحد ثقوب المطبخ، وهي ثقوب تدخل الهواء والشمس إلى هاته الحجرة ونستعمل أطرافها لترتيب الأشياء يتوضأ ويصلي وبعدها ينسحب إلى الدرج الأخير من بيت ليس له.
يخرج كتابا مهترئا وينشد:
-
أمن تذكر جيران بذي سلم.
وهكذا طيلة الزوال إلى أن يتلطف الجو ويتسنى له الخروج إلى حقله للسقي.
من حين لآخر كان يحضر إلى بيت عمي التهامي أصدقاؤه الدراويش وبالأمازيغية نسميهم أرتبيين. كان مجيئهم دائما مباغثا وغالبا ما يصادف يوم السوق الأحد. ما أن تأتي عمتي لإخبارنا حتى نتسارع جميعنا نلتف حول أمنا ونلح على الذهاب الى بيت الجدة. الحق أن أمي كانت مطلوبة للخدمة، للمساعدة في تهييء الطعام للإخوة الدراويش. كانوا فريقا من عشرة شخصا أو أكثر ويلبسون ايقودار أي جلابيب بيضاء، وبعضهم يضع العمامات الخضر ويسمونهم الدرقاوة سألت أمي ذات يوم لماذا هي سعيدة بمجيئهم:
-
الدرقاوة يحملون البركة الكبيرة.
تسللت إلى تاسقيفت ونظرت جاهدة بكل قصر نظري إلى أمتعتهم. لم يكن معهم سوى اقرابن، محافظهم الجلدية الصغيرة ولا مراكيب لهم ولم أفهم أين يحملون البركة الكبيرة. هل يضعونها تحت العمامة؟ إذا كانت هناك فذلك يعني أنها صغيرة جدا.
كنت أراهم ينشدون ويغيبون وفي نهاية الحضرة لا يبقى يسمع إلا:
-
الله حي.. الله حي ..
سألت جدتي:
-
لماذا لم يخرجوا البركة يا جدتي. لم أرها رغم أني راقبتهم طيلة الليلة؟
-
تراقبين الدراويش يا سليطة اللسان؟
-
كنت أريد أن أرى البركة التي يحملون. أفضل بركة جدي المخماخ حين يمر أمام البيت يخرج البرتقال اللذيذ من قب جلبابه ويقول لأمي “أعطي هاته البركة للأطفال” هاته أسميها بركة فأين برتقال درقاوة؟ أين بركتهم التي يزعمون؟
-
جدك مرابي ولايصلي ولا تقارنيه بالدرقاوة الذين يأتون إلى بيتنا بالخير.
-
جدتي، لقد أكلوا كل اللحم والكوفريت والكاوكاو وحتى تمر المجهول أتوا عليه وأنا أريد أن آكل
تنهرني جدتي وتصيح.
-
إذهبي إلى آشقوف “آنية كبيرة يحتفظ فيها بالثمر المعجون” وخذي ثمرا معجونة واستغفري ربك مما قلته في حق الدراويش.