توفيق رشدي
لم يكن عسيرا على ابن رشد) 1126م/1198م (، بحكم نظرته الفلسفية “البرهانية” المتّقدة،أن يتنبّه إلى هذا الاستلاب الذي صار يمارسه التراث الإسلامي لفاعلية الإنسان، لذلك سارع إلى وضع أصبعه على مواطن الخلل،من خلال مجموعة من المداخل :
أ- الفاعلية الوجودية:
إذا كان الفكر الإنساني يقسّم الوجود إلى “وجود محسوس ووجود معقول” و إذا كان كثير من المفكرين المثاليين يقيمون حدودا حائلة بين العالمين، فإن ابن رشد يرى بأن الوجود المعقول هو الوجود المحسوس “من حيث نعرفه ونفهم ماهيته”، ولذلك يقول: “إن معقول الشيء هو الشيء”[1].
إن اعتبار ابن رشد الوجود المعقول، وهو جملة ما تحصل لدينا من المفاهيم العقلية عن الوجود، معادلا للوجود المحسوس معناه: انعدام الوساطة بين العقل البشري والواقع المحسوس، وفي هذا رد على الاتجاه الأفلاطوني والأفلاطوني المحدث الذين أثّرا في التفكير الإسلامي عبر مجموعة من الطوائف الإسلامية. لقد آمن هذا الاتجاه بأن المعرفة عند الإنسان إنما تحصل عن طريق التذكر لا غير، و في ذلك ما فيه من سلب لقوة الذات في إنتاج المعرفة .و مبرّر هذا الاتجاه في الاقتناع بهذا المذهب أن للوجود الكلي وجودا مفارقا، مثاليا، يجعل الوجود المادي الإنساني وجودا فاسدا، سلبيا لاحقا ومغشوشا للوجود الكلي.
لقد بيّن ابن رشد أن انطباق عالم المعقولات مع عالم المحسوسات أمر ثابت بالشكل الذي يبدوان فيه متساويين في الدرجة، وذلك ما يجعل الواقع الإنساني إيجابيا حقيقيا، لا وهميا ولا مغشوشا، بل قابلا للتشكل تبعا للفاعلية الإنسانية.
ب- الفاعلية المعرفية:
على عكس كثير من الاتجاهات الفلسفية والفكرية والدينية، ينظر ابن رشد إلى الإنسان على أنه ذات فاعلة، نشيطة، مؤثرة في الطبيعة، وفي المجتمع بذاتها، لتحقيق إنسانيتها.
وتتأكد فعالية الإنسان لدى ابن رشد من كون “الكلي ليس له وجود إلا من حيث هو علم، أي من حيث هو في النفس”[2].
إن مركزية الإنسان عند ابن رشد تثبت معرفيا من حيث إن الوجود كله ليس سوى علم، ومعنى ذلك أن وجود الوجود رهين باعتراف العلم الإنساني بذلك، رهين بوجود الذات الإنسانية التي تحوله من إدراك محسوس إلى مفاهيم مجردة، وهكذا يصبح الوجود في كليته تابعا للفعالية المعرفية الإنسانية.
ج- الفاعلية العملية:
تأخذ الفاعلية الإنسانية قوتها عند ابن رشد من “العمل” إذ العمل قدرة على التأثير، على التحويل والإنتاج، ولا يتحقق بناء الحضارة إلا بفاعلية العمل.
والعمل عند ابن رشد منضبط بالفكر، كما أن الفكر منضبط في واقعه بالعمل، فعلى قدر ما يكون الفكر عمليا على قدر ما تحصل به فاعلية الإنسان يقول ابن رشد مؤكدا: “إن أول الفكرة آخر العمل، وأول العمل آخر الفكرة”[3].
إن قيام ابن رشد بالربط الجدلي المتماهي بين الفكر والعمل تصحيح لما ذهب إليه كثير من مفكري الإسلام متأثرين بتصنيف العلوم الأرسطي، من أسبقية العلم النظري ودونية علم العمل.إن فاعلية الإنسان عند ابن رشد تقتضي تساوي بل اندماج جانبي الفكر والعمل في بوتقة تشكل إنسانية الإنسان.
د- الفاعلية الحضارية:
يشترط ابن رشد جانب الفعل لبلوغ الكمال الذي هو في النهاية مطلب يرومه كل إنسان. فالإنسان ذات عارفة، وبالتالي ذات قادرة على الاختيار، والاختيار لا يقع، بمنطق العقل، إلا على الأفضل، ويوشك الأفضل أن يستكمل الذات البشرية.
يقع طلب الأفضل كفعل بشري ينصب على الواقع، عند ابن رشد من إحدى جهتين:
1- جهة ما هو ضروري في الواقع (حالة البداوة).
2- جهة ما هو أفضل في الواقع (حالة الحضارة، حالة الكمال).
تتلخص علاقة العقل بالكمال عند ابن رشد كما يلي: “إن كل ذي نفس له فعل، وكل ذي فعل فكماله في فعله”[4]. ويوضح طبيعة هذا الفعل الذي يتحصل به الكمال الحضاري فيقول: “والإنسان ليس يمكن وجوده بهاتين القوتين فقط (قوة الحس وقوة التخيل)، بل بأن يكون له قوة يدرك بها المعاني، ويركب بعضها إلى بعض، ويستنبط بعضها عن بعض حتى تلتئم عن ذلك صنائع كثيرة ومهن. وهي نافعة في وجوده، وذلك إما من جهة الاضطرار فيه، وإما من جهة الأفضل”[5].
إن غاية ابن رشد في هذا النص هو أن يربط بين القوة النظرية وبين جانب الفعل في إطار اختيار الأفضل الذي يحصل به الكمال، والكمال ليس شيئا آخر غير تحصيل الحضارة. وواضح من هذا القول أن الحضارة لا تحصل إلا بفاعلية الإنسان، و أنها لا تروم شيئا آخر أكثر أهمية من خدمة الإنسان في سعيه لتحقيق إنسانيته.
الفاعلية الإنسانية:
إن الغاية من كل ذلك، يرى ابن رشد، هي تحقيق الإنسانية التي هي أخص خصائص الإنسان يقول: “إن الإنسان وإن كان موجودا من قبل علل كثيرة، فإن علته التي هو بها موجود بذاته هي: الإنسانية، لأنه إنسان بذاته”[6].
لقد أيقن ابن رشد بأن وجود الإنسان إنما يدور حول فاعليته كإنسان،و ليس يعادل هذه الفاعلية الإنسانية إلا مسؤوليته المطلقة في تحديد اختياراته التي ينبغي أن تكون السعادة قبل كل شيء، جوهرا ملابسا لها.
و هكذا يكون ابن رشد رائدا لحركة إنسية في السياق الإسلامي ،حاول من خلالها تكسير القيود التي فرضها بنو الإنسان على أنفسهم فانتهت بهم تلك القيود إلى إلغاء إنسانيتهم. ومن العجب ألّا يجد المسعى الإنساني الرشدي أثره المنشود في البيئة الإسلامية التي كان مفترضا لها، لتتلقّفه بدلا عن ذلك أيد لاتينية خبرت أهمية البضاعة الرشدية !
[1] – ابن رشد، تلخيص ما بعد الطبيعة، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الركن، ط. I 1947م ص79.
[2] – ابن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة، تحقيق موريس بويج، بيروت 1952، ص 150.
[3] – ابن رشد، تلخيص كتاب النفس، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الركن، ط 1، 1947م، ص: 65.
[4] – ابن رشد، تلخيص السماء والعالم. مطبعة دائرة العثمانية، حيدر آباد، الدكن، ط 1، 1947، ص 56.
[5] – ابن رشد، تلخيص كتاب النفس، مصدر سابق، ص :69.
[6] – ابن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة، مصدر سابق، 2/232.