ياسين سليماني
ليس علي عبد النبي الزيدي بمسرحياته غريبا على الخشبة الجزائرية، فقد سبق أن أخرج لطفي بن سبع مسرحيته “افتراض ما حدث فعلا” ونالت نجاحا كبيرا، وتوّجت بجائزة أحسن عرض متكامل في مهرجان المسرح المحترف 2012، وفي مسرحيته “كوميديا الأيام السبعة” التي يتحدث عنها هذا المقال و قدّمتها فرقة “اللمسة” لولاية باتنة وسبق تقديمها برؤى إخراجية مختلفة في العراق لكل من المخرجين “ياسر البراك” و”ظفار المفرجي” و “عبير فريد” و”مولود داود” يظلّ الزيدي على عهده: غير مهادن لأشكال القمع والاستلاب، بسخريته، والنزوع نحو الرمزية الهادئة، إننا أمام واحد من أنجح كتاب المسرح انتشارا أيضا.
أية علاقة بين السياسة والطبخ؟ يجيب العرض بطرف خفي أنّ هناك علاقة متلازمة. إنّ هناك مطبخا سياسيا يتم الإعداد فيه لشتى وجبات الحرب والمؤامرات على الإنسان. قد لا يبدو هذا مفهوما، لكن، إطلالة سريعة على أحداث العرض يمكن أن تفسر ما نقول:
هناك باب ، ولا شيء غيره يصنع السنوغرافيا المتقشفة، يبدو بابا كبيرا، يوحي بأنّ المنزل فخم. أو على الأقل منزل لعائلة لها إمكاناتها المادية. يدق الباب مرة، مرتين، مرااات…يدخل “الطاهي” كما سمى نفسه للشاب وجدٍّه، يجعل كلبه في المطبخ. غير أنّ كلبه يموت مسموما. وهي جريمة يجب أن يحاسب عليها الاثنان، لذلك فعليهما اختيار العقوبة، إما “الحداد” و”الإمساك عن الطعام” طيلة سبعة أيام – ومن هنا جاء العنوان -أو “السجن”. مشاورات ليست بالطويلة بين الجد وحفيده تجعلهما يقرران اختيار الحداد والإمساك عن الطعام، فهو في نظرهما أقلّ سوءا من السجن. تسير الأمور على غير ما يتوقعون، وتصبح الأيام السبعة مشبعة بألم الاستعباد والارتهان لمصير يحدده الغريب. وتكون الأيام السبع مضروبة في لانهائية متتالية، كأنها “العود الأبدي”، كلما انتهت مدة الحكم يُعاد تطبيقه على المحكومَين بسبب جديد مفتعل.ينتهي العرض والمسكينان مجبران على الحداد و الإمساك عن الطعام لأنّ الكلبة زوجة الكلب، ماتت عندما علمت أنّ الكلب مات !! ينتهي العرض والألم لم ينتهي.
من الواضح أنّ النبرة السياسية متجلية في العرض. ولو لم يتم الإشارة لها لفظا ولا في مسمى الشخصيات ولا في الحوار. هناك طاهٍ وشيخ وحفيده. وتهمة قتل كلب.لكنّ الطاهي الذي ادعى المساعدة لأهل البيت جاء بالوبال. بالتسلط والتحكم. فيغدو مستبدا كما القوى الجائرة، ويستحيل أهل البيت معبرين عن كل المستضعفين، من المحتلّين الذين انتهكت أوطانهم وأملاكم وأراضيهم، أو من المستضعفين من حاكم جائر أو مستبد فاجرٍ. لمّح العرض دون أن يصرّح، وقال دون أن يقول.
يمكن للعرض أن يُفضي إلى استخراج طائفة من العلامات الدالة على وضعيات كثيرة. فاختيار شخصية الطاهي، كما رأينا، تعبير عن أنّ كلّ ما يُحاك ضد البلاد والعباد، ضد الناس، وأرزاقهم، إنما يحاك ضمن مجالس خفية عن العامة، لا يعلمها إلاّ أصحابها، ولا تنكشف إلاّ عند وقوع الكارثة على البسطاء العُزّل في “مطبخ السياسة” حيث تكون إرادة الموت محركا ضد الأبرياء. كما أنّ اختيار أهل المنزل ليكون أحدهما جَدا، والثاني حفيدا له، قد يكون تعبيرا عن أنّ الخيبة تورث الخيبة، والاستسلام والضعف يولّدان مثليهما. وأنّ الذل يتناسل ذلا. وما وجود الجد والحفيد إلاّ رمزا لنكبة طويلة لا تنتهي من الإذعان والانكسار للقوى المتجبّرة.
هذا يمكن استدراره من النص ولو لم نشاهد العرض، غير أنّ العرض بأدواته وحمولاته الفكرية والجمالية يقول إضافات غير التي قالها النص. إذ يمكن أن نستشفّ من العرض أن يكون الطاهي نفسه، يمثل الاستغلال الفج لكن القابل للكسر. أي أنّ سلطة المتجبر هنا ليست ذات شوكة وهيمنة بحيث يستحيل الخروج عليها أو التفوق على إمكاناتها إذ اختار المخرج ممثلا ليس بالقوة بنية ولا بالشكل الذي يمكن أن يثر توجّسا، وهو إن كان يعلو بصوته فيأمر وينهى إلاّ أنه مجرد من كل قوة. حتى الكلب الذي كان يملكه وأتى به بدءا قد مات، فهو لن يجد الإعانة إن طلبها ولا المشورة إن استشار. ومع ذلك فإنّ الجد وحفيده لم يقوما ضده. بل واستسلما لأن يكونا كالكلبين، بحيث رأيناهما يلبسان لباسا يشبه جلد الكلاب الأبيض ذي البقع السوداء.ويحملان الكلب القتيل بتعظيم يماثل ما يقام في جنازات الملوك والشخصيات العظيمة، مع ما أضافته الموسيقى العسكرية.
لم يكتشف الجد وحفيده أنّ ما وقعا فيه أكبر من السجن. إنهما مسجونان في أرضهما، في بلدهما، يخيّل إليهما أنها يمتلكان حرية، ما داما لم تنزع منهما أملاكهما. ولن يكون الطاهي إلاّ مرحلة عابرة. لم يعيا أنّ أبشع الاستغلال أن يستغل الإنسان في وطنه. لذلك ترتفع شخصية الطاهي لتمثل كل مستغل، من حكام أو مسؤولين ،أو قوى أجنبية محتلة، وتتسع شخصيتا الجد والحفيد لتمثل كل مستعف رقيق الحال عديم الحيلة سواء كان محتلا احتلالا ظاهرا معهودا أو محتلا في قيمه وإبطال إمكاناته واستنزافا، أو توقيفا لماء الحياة أن يسري كما يُفترض أن يسري.
يحاول العرض أن يقول أنّ فتح الباب لمن في الخارج يتوجب الاستعداد. مدّ يدك إلى القوى الأجنبية، أو افتح لها حدودك البحرية أو فضاءك الجوي، لكن، كن على قدر المسؤولية وتحمل العواقب. إذ في الزمن العربي المهشّم. يغدو الطاهي سيّدا والسيد في أرضه وبيته طاهيا.
ظاهريا كان تمثيل الممثلين الثلاثة مناسبا، غير أنه لم يكن بالمبهر، ولا المميّز. لم يكن أحدا منهم بارعا. وجدنا ممثلين نعم. لكننا وجدنا أدورا يمكن أن يمثلها مثلهم أي أحد. ربما يستثنى ببعض التحفظ الممثل الذي قام بدور الطاهي. غير أنّ دوري الحفيد والجد، كانا عاديين، لم تظهر طاقة التمثيل عند أي منهما. كانا مجرد مؤديين لدور حفظاه. لكن: أي دور مطلوب من هذين الممثلين فوق الذي قاما به؟ قد يسأل هذا السؤال من لم يحضر العرض. لكن إجابة بسطة عن هذا يمكن أن تكون كالتالي: لم يكن الممثلون، مسايريين لـ”ريتم” العرض. أحسسنا بطئا شديدا مع مرور الوقت، خاصة لحظة المرافقة الموسيقية السريعة التي كانت تستوجب حركات أسرع. كانت الموسيقى تقول. وكانت حركة الممثلين تقول سياقا آخر. ولم يلتق السياقان. فظهر لنا كأننا أمام فيلم، انفصل فيه المشهد الذي يتحاور فيه الممثلون، عن الصوت. بحيث يأتي الصوت متقدما أو متأخرا بثوانٍ عما نراه. هذا “الديكالاج” جعل من العيون في القاعة تنظر إلى ساعاتها مستبطئة ما يحدث على الخشبة بحيث كان رسم الحركة غير معبّر في أجزاء هامة. وكان الإيقاع بطيئا أنقص من حيوية العرض ومتعته.
لا يمكن أن أقول أنّ الرؤية الجزائرية للعمل كانت ترتقي إلى إخراجات سابقة تحدثت عنها بدءا..كما لم تكن كما تصورتها وأنا أقرأ النص لأكثر من مرة قبل أن أشاهد العرض. لكن كان مشروعا فيه من الجرأة، والذكاء، ذكاء الاختيار أولا. لكنه ظهر مع ما فيه من أخطاء. بل قل من نقائص. تبقى أنها تجربة جميلة. ويكفي للمجموعة أنها جربت التعامل مع نصوص هامة كالتي يكتبها الزيدي.