عزالدين بوركة
منذ سنواته الأدبية الأولى، ظل ألبير كامي مشدودا إلى المسرح (تمثيلا وكتابة). انتمى إلى “مسرح العمل”، الذي غيّر اسمه بعد سنتين من انطلاقه إلى “مسرح الفريق” LE THEATRE DE L’EQUIPE. اشترك كامي في تأليف مسرحيات عدة مع الفريق. وكان له النصيب الأوفى في كتابة مسرحية “ثورة الأستوريين” REVOLETE DE LES ASTURIES، واشترك أيضا في التمثيل مع فريق راديو الجزائر، الذي طاف معه معظم مسارح الجزائر.
منذ 1938 وهو يكتب مسرحيته الشهيرة “كاليغولا” التي أخرجت من قبل المخرج الفرنسي بول أوتلي PAUL OETTLY في مسرح Hébertot. غير أنه كان لمسرحيته “سوء التفاهم” Malentendu الأسبقية في التجسُّد فوق خشبة مسرح Mathurins، 1944، وباريس تهتز لوابل قنابل الحلفاء والنازيين معا. المسرحية التي أخرجها أيضا بول أوتلي. كما أخرج مسرحته “العدل” Justes، سنة 1948.
1- مسرح اللامعقول في سوء التفاهم والغريب:
” لسنا ننشد عالماً لا يُقتل فيه أحد بل عالماً لا يمكن فيه تبرير القتل./ ألبير كامو”
أ- في مسرحيته “سوء التفاهم” أراد كامي إثبات خُبت/سوئية La méchanceté العالم، عبر حبكة، يعتريها أسلوب اللا توقع invraisemblance الواضح في التركيبة النصية: “تدور المسرحية حول بطلها المدعو (جان). الذي هاجر أسرته صبيا، ليجرب حظه في العالم. وبعد أن أصبح رجلا وثريا، وكون أسرة هو وزوجته وطفلته، قرر العودة باحثا عن أمه و أخته، دون أن يكشف لهما عن شخصيته الحقيقية. طمعا منهما في ماله، وللظروف التي آلَ لها نُزُلُهما من كساد، قررت أخته وأمه –اللتان لا يعلمان بمن هو- قتله ومواراة جثته. إيمانا منهما أن الغاية تبرر الوسيلة. في الغد يكتشفان، من قبل زوجته، التي أنزلها في فندق غير نُزل أمه، أنه أبنها…”
ب- ورد ذكر مسرحية/النص “سوء التفاهم”، إشارة، في إحدى الفقرات القصيرة من الجزء الثاني من رواية “الغريب” *. فعند القبض على “ميرسول”/البطل وسجنه، لم يجد ما يشغله على طول اليوم، ينام ويأكل، إلى أن وجد قصة التشيكي (بطل مسرحيتنا هذه)، في صحيفة ملصوقة أسفل الحصيرة التي ينام عليها، مكتوبة بحروف باهتة. وبدأ يقرأها كل يوم، ست ساعات. ونحن نتساءل مع عبد المنعم الحفني : ” لا يمكن أن يكون “كامي” قد وضع قصة التشيكي في “الغريب” لِلا سبب، فما هو سبب وجود القصة في الجزء الثاني من الرواية؟
نجد أن ميرسول لم يهتم بالعالم ولم يحفل بالحزن أو السرور، بالخير أو الشر، ومع ذلك ناله ما كان لابد أن يناله من العالم-هذه النهاية. و”التشيكي” عكس “ميرسول” تماما. التشيكي قدم من بلاد غريبة باحثا عن أمه كي يشاركها ما ناله من سعادة، وهو يحاور زوجته: أنه لا يستطيع أن يكون إنسانا ما لم ينل أحباؤه بعض الخير الذي حققه من الحياة، ومع ذلك فهو لا ينال من العالم إلا ما ناله “ميرسول”: الموت عن طريق سوء التفاهم. ظنته أمه “غريبا” ثريا، وقتلته. فلو تأخر القتل قليلا لأعترف لها ببنيته، وليشاركها ماله، ولعاش الجميع سعداء هانئين. ولكنه نصيب الإنسان. نصيب المجموعة كلها و “الغريب”/ميرسول يناله نفس الشيء. لم يقصد الغريب قتل أحد، وذهب إلى البحر مدعوا، وأرهقته الشمس، ووضع الأعرابي يده في جيبه، فظنه سيقتله ومن ثم أطلق النار. سوء تفاهم آخر جره إلى إزهاق روح وقتل نفس، وجر على نفسه الحكم بالشنق.
ت- “ما الذي فعلت؟ سوى أني أخذت فكرة في شارع هذا العصر الذي نعيش فيه”/ ألبير كامي.
الفكرة هنا هي العبث أو اللامعقول الذي يندرج النص/المسرحية، في خانته. مسرحية “سوء التفاهم”/مسرحية استاتيكية (ثابتة) وليست ديناميكية. فالمسرحية تدور على حوارات بين الشخصيات – فقط !، هذا من حيث تركيبها، إلا أنها شكلت نقلة نوعية وثورة للمسرح، بنقله إلى الأبسوردية والمسرح اللامعقول. فما نعنيه بمسرح العبث/اللامعقول؟
ث- مسرح العبث [أو اللامعقول] هو وليد تفاعل مجموعة من الشروط الذاتية والموضوعية التي تكاملت فيما بينها لتعطي هذا النوع من المسرح المتمرد والرافض، هذا المسرح الطليعي الذي ركب موجة التجريب ليقدم لنا نمطا مسرحيا يعكس بعمق واقع الإنسان الغربي الذي صار يعيش داخليا واقعا مأساويا رغم المظاهر المادية الباذخة التي تؤثث الوسط الذي نبت فيه.1. لم يطلق الكتاب على مسرحهم –هذا- لقب من الألقاب، وإنما جاءت التسمية من النقاد فبعضهم أطلق عليه (Absurd) وتعني السخف أو البعث، وبعضهم أطلق عليه أسم (Nonsense) بمعنى التفاهة، وبعضهم أطلق عليه (Unconscious) بمعنى اللاوعي، وسماه بعضهم Vanguard أي الطليعة. وكان مارتن إيسلن (Martin Esslin) أول من أطلق مصطلح اللامعقول (Absurde) على الحركة المسرحية التي بدأت في باريس أوائل الخمسينات على يد صموئيل بيكيت [وألبير كامي]، ويونسكو وذلك في كتابه (دراما اللامعقول ) (The Theater of the Absurd)..2
تفرد مسرح العبث بمجموعة من الأساليب في الكتابة الدرامية تختلف تماما مع ما كان سائدا في أدبيات المسرح الغربي, إذ تم إفراغ اللغة الكلامية من كل محتوياتها الدلالية, ولم تعد هناك أية حكاية ذات حبكة محددة, بل هناك عرض لمواقف متضاربة ومتناقضة مما يجعل الخط الدرامي يتراوح بين الصعود والنزول والخطية. كما لم يعد هناك حديث عن بداية وعقدة ووسط ونهاية, بل اختلط كل شيء وتشابك وتعقد. وهو ما يتماشى مع فلسفة العبث التي تتلاعب وتسخر من جميع التقاليد المبنية على أساس عقلي ومنطقي.3. والمحاكاة الساخرة من الأساليب الفنية الأكثر حضورا في هذا النوع الأدبي/المسرحي، بإضافة إلى أساليب فنية/أدبية أخرى، أقحمها الكتاب، كالرمز. كما هو الحال في مسرحيتنا هذه. يقول “عبد المنعم الحفني” في كتابه “ألبير كامي” : “استخدم كامي الرمز في المسرحية مرتين، الأولى عندما يسأل (جان) ويلح في السؤال، وأخيرا يقول “إنني لا أجد هنا أي جواب !” (…)، فالإنسان يتساءل ويلح في التساؤل ولا من يجيب. والمرة الثانية التي يستخدم كامي فيها الرمز، عندما تجثو “ماريا” زوجة البطل في آخر المسرحية تطلب العون من الله، وأن يساعد الضعفاء، ثم لا تجد جواب، ولا يأتيها رد ما تطلب، وتستمر في دعائها إلى الله، فيبدو كما لو كان دعاء إلى البرمان -الشيخ الأصم الذي تعرفت عليه. وتقول-له- ألن تساعدني؟ فيرد : لا. “إن الله لا يرد. السماء صماء. لن تجيب ولن تساعد. ولا مفر من النهاية. والبؤس هو قدرنا والتعاسة مصيرنا”.
2- سوء الفهم والتفاهم:
“أريد أن أفهم كل شيء أو ألا أفهم أي شيء. فالعقل يعجز أمام صراخ القلب […] والعبث يتولد عن هذا الصدام بين نداء الإنسان وصمت العالم اللامعقول”./كامي.
نتساءل عند الانتهاء من المسرحية، لماذا قاد (جان) نفسه إلى حتفه، دونما أي كلام منه؟ لماذا هذا العجز عن الفصح؟ فطيلة النصف الثاني من المسرحية ظل التساؤل المهيمن عليها، هل سيتم قتل (جان) أم أنه سيفصح لهما (أخته و أمه) عن هويته الحقيقية مما سينهي ما تخططان إليه لقتل. أم أنه سيظل صامتا وهو يعرف ما يدبرانه له !! هذه الأسئلة نشاطرها مع الحضور الأول، 1944، الذي حضر لمشاهدة المسرحية أول مرة فوق خشابات المسارح. الجمهور الذي استقبل كامي سائلا: عن القصد الذي يحمل النص؟. هذا السوء الفهم، لا يمكن أن ينمحي ويزول إلا بفهم لمسرح اللامعقول (كما أسلفنا شرحه آنفا) ونظرياته وفهم أو على الأقل إمكانية استقبال فلسفة الأبسورد. مثلما الذين حاكموا الغريب/ميرسول، دونما فهم منهم لدوافعه في إطلاقه الرصاص على العربي.
تحاش ألبير كامي هذا اللبس بفهمه أن المسرح قائم بذاته، عكس الأجناس الأخرى، فهو إما مفهوم أو غير مفهوم. فلو فهمناه فقد حقق رسالته. وإن لم نفهمه فقد فشل في إيصال رسالته. وهذا الفهم جاء واضحا ومتكاملا في مسرحيته التي كُتِب لها أن تتم بعد أن أعاد كتابتها وصياغتها، عاما بعد تمثيل “سوء التفاهم”. كانت هذه المسرحية هي “كاليغولا”، التي سنأتي لمعالجتها في نص قادم.
——–
* راجع مقال : عزالدين بوركة- عبثية الغريب : كامي وسارتر و كيرككورد- موقع قاب قوسين.
1- مسرح العبث، خلخلة فكرية وثورة جمالية- سعيد كريمي.
2-حنا عبود : مسرح الدوائر المغلقة . منشورات اتحاد كتاب العرب. دمشق 1978 ص 142.
3- سعيد كريمي.