الرئيسية | سرديات | الغرفة | طاهر الزارعي

الغرفة | طاهر الزارعي

طاهر الزارعي:

 

 

أيها النوم إنك تقتل يقظتنا.

” وليم شكسبير “

 

وضع رأسه على المخدة وحاول أن ينام. أنوار الغرفة تتناسل بعضها مع بعض لتكوّن له هالة من الضوء، لم يغمض عينيه، ظلتا معلقتين في السقف تقتفيان الذكرى الأليمة التي مرت به خلال أيام. فموت زوجته بعد إصابتها بمرض السرطان أحدث ثقبا في حياته، فأصبح جسده خاملا وعقله محشوا بالحزن.

يتحرى صوتها في كل خطوة يخطوها داخل منزله الكبير.. في المطبخ المصمم على الطراز الأوربي.. في غرفة الطعام.. في مكتبته الخاصة حينما تطلب منه قراءة أبيات من ديوان الأمير بدر بن عبد المحسن يتناول الديوان وهي تراوغ بتقبيله، وتنشب أظافرها في رقبته، ويتأمل هذه الأبيات ويقرأ:

ادفن يدي.. تحت الثرى.. 
واسقيها من جفني ارق. 
يذبل مابين أصابعي... 
عشب وورق.. 

أمعنَ النظر مرة أخرى لتأمل كل شيء في الغرفة، الستارة التي تلقاها هدية من أصدقائه، دولاب الملابس الذي اشتراه من محل سنتر بوينت، أدوات الميك أب من محل محمود سعيد., أسطوانات الفنان محمد عبده وفيروز، قطع الحلوى من محل أباتشي. لم يكن يتأمل كل تلك الأشياء عبثا ففي كل لحظة كانت تتعانق معه زوجته ويشعر بجسدها الجميل يتسلل خفية ليلامس جسده حيث يرقصان كليهما على  أغنية رابح صقر “منتهى الرقة “، ويشعر بعطرها يصعد إلى أنفه ورغبة جامحة في التبول.

 آه.. التبول ! يالمثانتي الغبية.. أخذ يخاطب نفسه حيث تجتهد هذه المثانة كلما تراءت صورة زوجته أمامه.. يخلع سرواله الداخلي، ويتبول في الغرفة، لا تسعفه خطواته للذهاب إلى الحمّام فيهدرها أحيانا في مكانه., يحاول أن يطفئ ضوء الغرفة فربما ينطفئ معه الشعور بالألم، تمتد يده لكنها ترتج.. يأخذ مصفف الشعر ويقوم بتشغيله، فالضجيج غالبا ينسيه كثيرا من الصرخات المكتومة.

المخدة التي يرقد عليها تطفر منها رائحة اللعاب والعرق ,وسريره مشبع برائحة البول، وأجواء الغرفة تكابد رائحة كريهة شبيهة برائحة الخفافيش الميتة، يتمدد على السرير عاريا، يمسك بلعبة البلوت بعدما استخرجها من الدرج يوزع الكروت على اللاعبين، كان يتخيلهم وهم بالقرب منه،  يحك شحمة أذنه، ثم أرنبة أنفه، ويجاهد في التغلب على سلوكه الذي يعطيه انطباعا بأنه حزين، يتدلى صوته : أنا لست حزينا.. لست حزي.. لست حز.. يتصبب عرقا.. يلعب لوحده ويحسب نقاط اللاعبين في الدورة الأولى، لقد وصل إلى 152 نقطة إنه الفائز، ينثر الأوراق في أرجاء الغرفة ويتمدد على سريره يلتقط رواية بائتة كانت على المنضدة القريبة منه، يقرأ اسم الرواية  :”  المسخ لفرانز كافكا ” يفتح الصفحة الأولى يتقيأ دما., يأخذ منديلا يمسح فمه ويرميه جانبا.. استمر هكذا لعدة مرات حتى بكى، خاطب نفسه : ليتني كنتُ حشرة., ثم يتأمل المرآة يقوم من سريره ويخمش المرآة بأظافره كرر ذلك أكثر من مرة.. لقد تورط بوحدته.. بجسده الذابل.. ببوله.. بدمه، لم يعد قادرا على إجهاض هذه الكآبة بكل سهولة. عاود خمش المرآة كقط ، ظهرت له صورة زوجته مثل ملاك.. سمع طرقات على باب غرفته.. تشتد الطرقات.. تتوقف، ثم تعاود حدتها : طق..  طق.. طق، كان بالقرب من الباب لكنه كان متسمرا كتمثال، رجع للوراء.. خطوات هادئة تسير  باتجاه السرير.. تناول قداحة وأشعل سيجارته وتوسد مخدته.

لايزال يتأمل سقف غرفته.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.