هدى توفيق:
مال العالم يدفعني إلى حافة الجنون، تلك الأحلام الغريبة والملعونة تملأ حالات نومى ويقظتى بذكريات تلتصق بى كحشرة القراض تنمو وتكبر داخلى كوحش كاسر، لتدفنى فى دوامة من الأفكار المضطربة مع هواجس فراق الشباب، والحيوية والنضارة ليترهل جسدى وتخمد روحي، وفوبيا البحث عن أفضل برامج الدايت، أمام سمانة الردفين، الكرش والنهدين المتهدلين، وظلال سميكة تخفى هالات وتجعيدات كشباك العنكبوت تنسج تحت عينىَّ، وعند جبهتى، سأبدأ منتصف الأربعينات، أعوام النضج، والصمت المرعب، تلك الحقائق المرعبة مثل أحلامى الملازمة لى الآن أشعر بتوسيع دائرة الإشتياه، ليس فقط بإستخدام الحواس الخمسة الموجودة لدى الجميع وإنما تزيدهم الآن الحاسة السادسة، التى تخرج منها تجاوزات الفهم، والإستيعاب لأدرك سبرغور الأشخاص والأمور فى وقت قصير للغاية، وأهزأ وأتعجب من تلك الحاسة الجديدة ذات الإستقصاء البعيد من مجرد مؤشرات مألوفة، وحركات باتت واضحة بكل بساطة لتفهم الأمر والشخص معًا سريعًا، إنها الخبرة الملعونة كأحلامى أيضًا .
أمس حلمت حلمًا غريبًا بل أشبه بكابوس، إنني فى منزل جدى القديم ذي الأبواب الخشبية القديمة الضخمة، والشبابيك الطولية لتلك الحجرات السالفة ذات السقف العالى , وعندما اتجهت إلى باحة المنزل الواسع الخلفية، رأيت أدراجًا كثيرة، وكأننا فى فصل مدرسى هائل لاحدود له، وسرت لنهاية الأدراج، ثم مشيت فى ردهة طويلة حتى وصلت لباب موصد عتيق الطراز مثل أبواب حكايات ألف ليلة وليلة، دفعته بكلتا يدىَّ، وكان فصلاً دراسيا كبيرًا و واسعًا حيطانه رمادية اللون، والسقف معلق به مروحتان قديمتان على التوازى ويتدليان منهما الأسلاك، ويدوران بأقصى سرعة، حتى عندما أطلت النظر إليهما، ارتعبت بتخيل سقوطهما علىّ وقتلى، واكتمل فزع المشهد بالتلاميذ المتراصين فى الأدراج بنظام، ومنكفئين داخل رءوسهم على الأدراج كالنائمين نوم الميتين، هلعت روحى وتشتت أفكارى , وكدت أصرخ وجريت إلى آخر الفصل أحاول الإختباء وأنا أراقب ما يحدث من بعيد، وبعد سويعات من الوقت بدأ بعض التلاميذ يستيقظون، ويخرجون، والباقون مازالوا على وضعية النوم الأشبه بالموت، وتخللت جسدى برودة كالصقيع، جمدت أطرافى، واصطكت أسنانى، وقرقرت بطنى، وكنت أرتجف من رأسى إلى عقب قدمى كغصن شجرة داخل الماء، وسقطت على الأرض أجلس القرفصاء دافسة رأسى داخل ذراعىَّ، وبكيت بكل ما أوتيت من قوة، حتى أجهشت بتنهدات عالية كمَنْ يعدد قهرًا من حزن ساحق وماحق، حتى على غفلة، تسللت فتاة صغيرة بخفة الأرواح عيناها نورهما خابى، وتشع منهما رائحة الموت، الذى عاد إلى الحياة بغتة كروح شيطانية، وطرقت على كتفى وأمرتنى أن أخرج سريعًا من هنا، وذهبت عنى واستجمعت قواى المتخاذلة، وأنفاس لا ألتقطها من البكاء، والفتاة الصغيرة واقفة تنظر إلىَّ نظرات أشبه بالسهام تكاد أن تصيبنى فى مقتل، وبمجرد أن خرجت من باب الفصل لمغادرة المنزل، استيقظ جميع التلاميذ بذات نفس عيون الفتاة الصغيرة ينوون اللحاق بى، هكذا شعرت، وحضرتنى قوة الحياة والمقاومة، فجريت بأقصى سرعة وهم يجروون خلقى فعلاً، استيقظت على صرخة، أشهق كأننى كنت أجرى حقًا , ونهضت فورًا صببت وجهى ورأسى بالماء الساقع، حتى أهدأ، وعدت إلى فراشي يلزمنى الصمت وأنا أحاول أن أتجاهل الأمر وأدعى انه ليس إلا كابوسًا وسأتجاوزه لكن للأسف، بعد عدة أيام، وأنا جالسة بمفردى فى البلكونة أشتم نسمات الصيف العليلة، رفعت سهوًا عينىَّ إلى السماء المظلمة أتامل وجودها وأشاركها اكتئابها عن حالها وحال الطبيعة، الذى أبان عن شحوب بواكير النجوم البازغة فى سماء الليل، ومن بعيد يبدو نور خافت لقمر يتوارى كفتاة خجلة من الظهور كاملاً، ثم ألقيت نظرة إلى أسفل، حيث يعيث البشر على الأرض فسادًا، فرأيتهم وحوشًا ضارية، ورغم كل مايدعونه عن المحبة والمودة الإنسانية، فإن العنف بين البشر هو أساس الإستمرار فى الحياة ذلك الإنسان ماهو إلا كائن قاس بدون رحمة، يحارب أخاه الإنسان، والطبيعة والكون جميعًا من أجل رغائبه وطموحاته الغبية ؛ لذا اعتقدت أننا نحن المخلوقات القاسية فى هذا العالم، إذن من الأفضل أن يدمر هذا الكون، وتنهار الجبال، وتهب الرياح وتعصف العاصفة المدمرة، وتنشق الأرض، وتبتلع البشر، وكل المدن القائمة على أرض وطنى بزهو وتعال أنها من صنع ذلك المخلوق المتعجرف، المتيم بعبقرية الوجود فليذهب إلى الجحيم , وتعود الطبيعة الغاضبة من تخريبها والإستهانة بها بأشجارها الخضراء الوارفة ونقاؤها، وأنهارها الجارية بانسيابية وجبالها الشاهقة خلف التلال مع أربابها، من الحيوانات والطيور.
رجعت برأسى إلى الخلف، وأغلقت عينىَّ من تلك الأحلام الكابوسية، التى تشغلنى، وقررت هذه المرة أن آخذ دشًا باردًا وأضع رأسى وجسدى كله تحته فترة طويلة ربما أفق من تمردى أنا والطبيعة.