(مونودراما مستوحاة من “ديكاميرون” بوكاشو)
بقلم نينا ماروز
ترجمة د. نوفل نيوف
(غرفة جاكومينا ؛ باب افتراضي يؤدي إلى الشرفة ؛ “نافذة” و “باب” ؛ يظهر جزء من برميل كبير . تدخل جاكومينا ومعها سلّة ؛ تخاطب الجمهور وهي تفرغ السلة )
- فلتقلنَ لي أيتها النساء، ألست أنا على حق! إن الرجال، ولا سيّما الأزواج منهم، يعاملوننا على نحو يجعل من الواجب علينا أن نفرح عندما يُسعد الحظُّ امرأة في عصر من العصور فتخدع زوجها. علينا ألا نكتفي بالفرح، بل وأن نحكي للجميع أن الرجال أدركوا أخيراً أنهم ما داموا مستعدِّين لفعل أي شيء معنا، فإن النساء لن يتوانينَ عن الردِّ بالمثل! ولن يعود علينا ذلك إلا بالفائدة. لأنه عندما يعرف أحدُهم أن ما جرى لغيره لم يكن خطأ، لا بدَّ أن يفكِّر قبل أن يُقدِم على الخداع.
إذن، سأحكي لكم…
(تنتهي من وضع الفواكه في طبق زجاجي، تجلس في كنبتها، تضحك)
عندما تتذكّرين… إيه، فكم كنتُ حمقاء بريئة في صباي!..
(يقطع حديثها صوت فتاة في مقتبل الصبا)
الصوت: ماما ! ماما !
(تُطلّ جاكومينا من “النافذة” )
ماذا تريدين يا كاتِرينا؟
الصوت: لم يغمض لي جفن طول الليلة البارحة بسبب الحَرّ!
- عن أي حَرٍّ تتحدثين يا ابنتي؟ فلم تكن الليلة حارَّة إطلاقاً.
الصوت: هذا ما تتخيّلينه أنت يا أمّاه . ولكن خذي بعين الاعتبار أن دم الفتيات يفوق كثيراً بحرارته دم الوالدين …
جاكومينا :(تتجه إلى الجمهور ): هكذا تظنّ هي …
(لابنتها) :
قد يكون كلامك صحيحاً ، ومع ذلك ، فليس في مقدوري أن أجعل الطقس ، كُرمى لك ، حارّاً تارة ، وبارداً أخرى . لأن الحرّ والبرد متوقفان على الفصول. ربما تكون هذه الليلة أكثر برودة فتغفين …
الصوت : إن شاء الله ، ولكن لا يحدث أن تصبح الليالي أكثر برودة كلّما اقتربنا من الصيف …
- قولي ، ماذا تريدين ؟
الصوت : ليتكما ، أنت وأبي ، تسمحان لي بأن أضع سريري ليلاً على الشرفة لأستمع إلى غناء البلبل ، ولا أختنق من الحر .
- حسناً يا ابنتي ، سأكلّم والدك .
(تمشي باتجاه الجمهور ، وتخاطب أحد المشاهدين ) :
– ما رأيك ؟ لا ؟ فأنا أرى يا سيدي كم تحبُّ ابنتك ! إذاً ، دَعْها تَنَمْ على الشرفة ، ماذا يضيرك ؟ لقد أمضت ليلتها تتقلّب من الحر . ولماذا تتعجّب من أنها تحبّ تغريد البلابل ؟ إن بنيّتنا ما تزال في مقتبل صباها ! والفتيات مثلها يعشقن كل ما يذكّرهنّ بالصبا …
هل أنت موافق ؟ ها أنا أرى أنك موافق ، أرى …
(تلتفت وتصرخ) :
لقد سمح لك أبوك …
(تخاطب “زوجها” ثانية) :
ولماذا رجعت ؟ أم أن العمل قليل ؟ فأنت قلت إنك لن تعود قبل الصباح …
(قَرْعٌ على الباب)
(تخرج جاكومينا من حيرتها سريعاً . تخاطب “زوجها”)
يا للمصيبة ! أيها الغالي جانّي ! وهل أنت تجهل ما هذا ؟ إنه الشبح ! ما أكثر ما عانيت من خوف خلال الليالي الفائتة ! ما إن أسمع القرع حتى أغطّي رأسي باللحاف وأظل على هذه الحال حتى مطلع الفجر .
- (يزداد القرْع قوّة . تندفع جاكومينا راكضة نحو “الباب” . تخاطب “زوجها”):
- سأظل بين الموت والحياة إلى أن نقوم معاً بالدعاء ، مليح أنك هنا .
- (تجرّ “زوجها” إلى خشبة المسرح ، يتقدّمان معاً من “الباب” )
- صفحة واحدة ، – وهذه الصفحات نساء قدّيسات ، – علّمتني دعاء مقدّساً جيداً ، يقال إنه ما من مرّة إلا وكان مستجاباً …أمّا أنت يا جانّي ، فلتكرّر ورائي ، ولتبصق عندما أطلب منك .
(يدنوان من “الباب” ويقولان بصوت معبّر) :
- شبح ، يا شبح !
- لماذا تحرمنا الراحة ؟
- جئت رافعاً ذيلك ،
- وسترحل رافعاً ذيلك،
- فلتذهبْ إلى الحديقة، ولتستلقِ في العشب،
- استلقِ بالقرب من الزجاجة،
- وامضِ في حال سبيلك،
- ولا تلمسْنا، أنا وجانّي !
(تخاطب “زوجها” ):
ابصق يا جانّي !
والآن امضِ وكن مرتاح البال ، اسمع ، لقد كفّ عن القرْع…
(تجلس)
- نعم ، عمَّ كنت ُ أتحدث ؟.. إنني أنتقل من حديث إلى حديث … آه ، أجل ! كنت أريد أن أحكي لكم ما وقع لي قبل الزواج … كان عمري قرابة أربعة عشر عاماً … عندما قال راهب في حضوري إن خير طريقة لنيل مرضاة الله هي الابتعاد عن متاع الدنيا . وفي الصباح خرجتُ من بيتي من غير أن أقول كلمة لأحد. وسألتُ عن المكان الذي يعيش فيه ناسك حتى وصلت إلى شيخ . قلت له : “أريد أن أتعبّد الله ، وأرجو منك أن تنصحني كيف ينبغي عليّ أن افعل ذلك ” . ويبدو أن هذا الشيخ قرّر أن يظلّ بعيداً عن الخطايا ، فقال لي : “اذهبي يا ابنتي ، فغير بعيد من هنا يعيش رجل حياة قديسين ، وهو يحسن نصحك خيراً منّي ” . أمّا أنا ، الغبية ، فذهبت .
وجدت الناسك في ريعان الشباب . قال لي :
- إن خير طريقة لنيل مرضاة الله هي أن تُدخلي الشيطان في الجحيم .
فسألته:
- وكيف ؟
قال لي :
– الجحيم عندك ، وعندي الشيطان . هل ترين كيف رفع رأسه ؟ إنك تتعبّدين الله إذا سمحتِ لي بأن أُدخِل الشيطان في الجحيم ، حيث ينبغي له أن يكون .
وسرعان ما قرنّا القول بالعمل . في البداية لم يعجبني . ولكن ، شيئاً فشيئاً طاب لي الأمر ، وصرت أنا من يذكّر الناسك به ، لأنني ما جئت إلى هنا لأضيّع وقتي سُدى ، وإنما لأتعبّد الله. وما لبث الناسك أن بدا عليه الهزال ، فأصبح جلداً على عظم ، وخمد الشيطان ولم يعد يرفع رأسه…
(تضحك)
رجعتُ إلى البيت وتبجّحت بمأثرتي هذه أمام النساء . آه ، كم تعالت قهقهاتهنّ … ولعلّهنّ ما يزلن يضحكن حتى الآن …أمّا أنا فكان عليّ أن أُدخِل الشيطان في الجحيم أنا وزوجي … ولكننا لم نكثر من ذلك …
(تتوجه إلى الجمهور)
- تظنون مع هذا ، مع جانّي ؟ كلا ، فزوجي الأوّل ، طيّبَ الله ثراه ، كان يكبرني كثيراً . فقلت لنفسي : إذا كان سوء حظّي قد جعلني أتزوّج عجوزاً ، فإنني لن أكون عدوّ نفسي ، وسأتمكّن من إيجاد الطريق إلى السعادة . تصوّروا ، فأنا غنية بكل ما تشتهي امرأة لنفسها ، ولا ينقصني شيء … وإذا بي مع زوج عجوز …
وضعت عيني على شاب وسيم هو ريكاردو ، ولكن ، يا للمصيبة ! فزوجي لا يفارقنا ولو دقيقة واحدة . وحتى في الحديقة ، نتنزّه نحن الثلاثة معاً . وإليكم ما قرّرت …
(تسرّح نظرها عبر “النافذة” )
هل ترون بقية الجذع هناك في الحديقة ؟ هناك كانت تنتصب شجرة إجاص . قلت ذات مرة لريكاردو :
_ إنني مشتاقة كثيراً للإجاص . أرجوك أن تتسلّق الشجرة وترمي لي بضع إجاصات !” . وكنت قد ناولته قصاصة سلفاً أقول له فيها ماذا عليه أن يفعل . ولمّا تسلّق الشجرة صرخ بصوت عالٍ :
_ إي ، أيها السيد ، ما الذي تفعله هناك ؟ وأنت يا سيدة جاكومينا ، ألا تخجلين ؟
فقال لي زوجي :
_ هل هو يهذي ؟
أجاب ريكاردو وهو على الشجرة :
– كلا ، إنني لا أهذي ، ولو كانت هذه الشجرة تهتزّ مثلما تهتزّ أنت الآن لما بقي عليها إجاصة واحدة !
(تتناول إجاصة من الطبق ، تقذفها وتتلقّاها)
هبط ريكاردو عن الشجرة وقال :
- ها أنا أرى الآن أنك تجلس هادئاً يا سيدي ، ولكنني لما كنت على الشجرة رأيتك رؤية العين وأنت فوق زوجتك .
عندها قلت لزوجي :
- لو كان في مقدوري لتسلقت هذه الشجرة حتماً ، ونظرت ما العجائب التي يتخيّلها من هناك .
فتسلّق الزوج الشجرة ، طبعاً .
أمّا أنا وريكاردو فمضينا في العناق،
(تبدأ تأكل إجاصة بشهية )
وإذا بالزوج يصرخ وهو على الشجرة :
– “آه ، أيها الفاجران!” . فقلنا له :
- إننا جالسان بسلام .
ولما شرع بالهبوط عدنا إلى وضعنا الطبيعي . قلت لزوجي :
– هل ترى ما هذه الشجرة ؟ إنها تسبّب خداع النظر . ويجب أن نقطعها لكي لا تكون بعد الآن مدعاة لإهانتي أو إهانة غيري من النساء الشريفات .
فأسرع الزوج في طلب الفأس . ومنذ ذلك الحين ، ما إن أنظر إلى بقية جذع شجرة الإجاص حتّى …
(تتمطّى على نحوٍ معبِّر)
عندما توفّيَ زوجي ، أسكنه الله فسيح جنانه ، سدّدت ما ترتّب عليه من ديون ، وتزوّجت جانّي ؛ إنه معلِّم بصنع البراميل . ونحن نتدبّر أمورنا بصعوبة ، ولكن الحمد لله .
(يتجدّد القرْع على الباب)
- يا له من عقاب ! فزوجي في البيت !
(صوت رجل من وراء “الباب”)
صوت الرجل : لقد خرج لتوّه . أنا رأيته بعينيّ !
- آ ، إذا كان قد خرج ، فإنني سأفتح لك الآن …
(تفتح “الباب” وتخرج)
(صوت “زوجها” يترامى من “الشارع”)
- ما للباب مقفَل يا امرأة ؟ افتحي فقد قصدت جارنا لدقيقة فقط !
(تعود جاكومينا إلى الغرفة راكضة )
- يا إلهي ! فلتبتلعه الأرض ! (إلى الغرفة الأخرى) : لعلّه رآك تدخل ؟ هه ، ليكن ما يكون ! كُرمى لله ، ادخل في هذا البرميل ، وأنا سأذهب لأفتح .
(تصرخ عبر “النافذة”)
ما لك عدت بهذه السرعة ؟ واضح أنك قرّرت أن يكون اليوم عطلة لك ! فكيف سنعيش ؟ من أين نأتي بالخبز ؟ آخ ، كان يجب أن أنزوّج شابّاً ميسوراً، ولكنني عاندت وتزوّجته ، ولكنه لا يقدّرني إطلاقاً ! إن غيري من النساء يُمضين أوقاتهن بسرور مع عشّاقهنّ ، أمّا أنا فلا أبيح لنفسي ما يشين ، ولكن يا لسوء حظّي ! فأنت عاجز عن تحصيل القرش ، وأنا لا أتخطّى عتبة بيتي ، وإذا بنظري يقع على هذا البرميل العديم الفائدة ، فقمت ببيعه لرجل بسبع ليرات ، وقد دخل في البرميل قبل لحظة ليتأكد من متانته . قال إن عليه أن ينظفه من الداخل .
(تتوجه إلى البرميل وهي تحرك يديها وتهمس)
- اخرج من هناك !
وادخل أنت يا زوجي الغالي في البرميل ، خذ المكشطة ، وأنا سأضيء لك بالشمعة …
(تشعل شمعة ، وتنحني فوق البرميل وهي تدير وجهها إلى الجمهور وتشير على المكان الذي يجب كشطه . ثم تنفض ثوبها على نحوٍ معبِّر ، وتُرخي تنورتها ، وتعدّل شعرها وتصرخ باتجاه “الغرفة الأخرى”) :
خذ يا زوجي سبع ليرات من الرجل وضعها في حافظة نقودي ، هناك تحت المخدّة . ثم أرسل البرميل إلى بيت السيِّد .
(يختفي البرميل)
- أُفّ ، يا له من مساء ثقيل ! حقّاً ، إن الجوّ خانق بعض الشيء ! بل أين هذا الوقت من المساء ، فقريباً يطلع الفجر !
- فلأنظر كيف نوم كاتِريناا الليلة تحت تغريد البلابل .
(تخرج إلى “الشرفة” و بطرفة عين تعود مذهولةً ، فتمشي باتجاه “القاعة” ، حيث “زوجها” ).
- انهض يا جانّي ، انهض ! اذهب ، وانظر كم أعجبَ البلبلُ ابنتك ، فقد اصطادته ، وهي تمسك به في يدها الآن . وماذا ، ألا تصدّق ؟ آ ، إنني أرى، فقد حزرتَ أيَّ بلبل أعني…
أمّا الآن ، فاحفظ لسانك: إذْ ما دامت قد اصطادته ، عليها ألا تطلقه . لأن أليسّاندرو فتى ذو شأن ، ولديه مال . حين يعقد على كاتِريناا سيتبيّن أنه وضع البلبل في قفصه تماماً ، وليس في قفصٍ آخر …
(باتجاه “الشرفة”)
نبارككما أيها الطفلان ! ناما ، ناما ! لا بدَّ أنكما أكثر رغبة بالنوم ممّا بالاستيقاظ …
(إلى الجمهور)
لا شيء خير من السعي معاً في الليل والنهار لاصطياد البلابل !
هل توافقونني ؟