سيدي صالح | نجيب الخالدي

نجيب الخالدي:

جالسة على الأرض بجانبه، غارقة في دموع منهمرة لا تنضب، يتصاعد شهيقها متعاليا بين لحظة وأخرى، تمرر يديها عليه تتلمسه، تتحسسه، تتمسح به، تلثمه، ثم تبدأ في الدعاء والتوسل بصوت متهدج منكسر:

– قْصدتك من بعيد، شوف من حالي، راجلي غدي يطلقني، بغي بْنِية ولّوْلِيَد، قصدتك يا سيدي صالح… عْطيني بَراكْتك وقْضي ليَ حاجتي، أنا في عارك يا سيدي صالح…

   لم يكن أحد يسمع بضريح سيدي صالح، ولا بالمنطقة النائية التي يوجد بها، ولم يكن أحد يظن أن هذه البقعة ستصبح ذائعة الصيت وبهذا الحجم الكبير من الزوار، يؤمونها من كل حدب وصوب وخاصة المرضى منهم، لولا هذا الضريح الذي أضحى اسمه يجري على كل الألسن التواقة إلى شفاء، يراه الجميع محققا بين يدي وليّ غدت عندهم كراماته هدايا ثمينة، إلى كل من يتوسل إليه ويتمسح بقبره ويغدق عليه القرابين. هذا ما كان أهل القرية يؤكدونه للزوار وهم يتسارعون لقضاء المآرب والحاجات، أو يبيعون متطلبات الزيارة التي لم تعد مقتصرة على الشموع والبخور والحروز والمساحيق وجلود الحيوانات، بل تجاوزت هذه الأمور البسيطة إلى بيع الخضر والفواكه والمواد الغذائية وتوفير الذبائح والأغطية وكراء بيوت للمبيت…

   ينظر إدريس إلى هذا الكمّ الهائل من الزوار الذين يضعون ثقتهم في الولي، يقاطع تأمله مخاطبا زوجته:

– إنه في الحقيقة ولي صالح، أصلح أمورنا، على يده جاءت هذه الخيرات…

قاطعته الزوجة تؤكد كلامه:

– هذا ما كنت تطمح إليه…

– نعم، انظري، ألم يتغير كل شيء؟

– كاد السكان يموتون جوعا…

ثم تلتفت إليه مبتسمة مواصلة تعليقها:

– لولا سيدي صالح، وليّنا الصالح…

تنظر في عينيه نظرات مفعمة بسعادة، تعقبها ابتسامتها التي يحب، يبادلها بابتسامته التي تحب، يلبس جلبابه الأبيض المخطط بالأخضر والأحمر، يضع القبّ على رأسه، يحك لحيته، ثم يهمّ بالمغادرة قائلا:

– سأتوجه إلى الضريح أتفقد “الربيعة”.

– يا سيدي صالح، جيت نتبرك بمقامك لعظيم، وقفت عْلِي في لْمنام، أنا جيت عندك من بعيد بْعِنِيّ مْغمضين ناخُدْ بَراكتك، أنا عندي الدكتوراه وبلا خْدمة ولا ردمة، لا زواج، لا وْلادْ وْلا وْتاد… شوف من حالي، أنا فْعارَك يا سيدي صالح…

لم يكن هذا الصوت غريبا عن إدريس، يلتفت قليلا وبنصف عين ينظر إلى صاحبته ليتأكد أكثر، متظاهرا بتسوية الغطاء الأخضر على القبر و”الربيعة” المثبة على الأرض بجانبه. يلاحظ الانكسار ينطق على تقاسيم محياها، والدموع تتدفق سيولا من مقلتيها، مندهشا يردد في نفسه بعد شرود:

– إنها هي، نعم هي… زينب زميلتي بكلية العلوم، الطالبة المتألقة والمميزة، ماذا تفعل هنا؟

طفقت القرية تتوسع شيئا فشيئا بانتشار الدور والدكاكين والمحلات التجارية… وبدأ السكان ينتعشون بتربية الدواجن خاصة الدجاج والأغنام والعجول، وهي القرابين المفضلة للزوار، يرون في دمائها المنضوحة بماء الزهر و منقوع الحناء، رَواء لروح ولي يزداد تدفق كراماته كلما ازداد تدفق دماء الذبائح على عتبته، بل أكثر من هذا، لوحظ بعض شبان ونساء المداشر المجاورة يعرضون بضائعهم، ويتسارعون لتقديم مختلف الخدمات التي يحتاجها الزوار، فيؤوبون مساء إلى أهاليهم محملين بما ينتظرونه منهم من أكل وشراب والكثير من “البروك”، بعدما كانت هذه المحمولات مجرد أحلام وردية في ليال دامسة.

– يجب ان نجري بعض الاصلاحات على الضريح…

لم يعلق عليها إدريس، يبدو غارقا في تفكير عميق. تواصل كلامها:

– إصلاحات خفيفة، كتغيير الغطاء بآخَر أجمل منمق بشراشيف براقة، وتزيين الجدران بلوحات قرآنية وأحاديث نبوية…

تقطع كلامها بعد أن لاحظت غيوما سابحة في سماء عينيه الشاردتين ثم تواصل:

– ما بك إدريس هذه الأيام، وكأنك منغمس في هموم الدنيا، عليك أن تسعد بهذا الخير، بدل أن أراك على هذه الحال؟

– ألا ترين هذا الجنون الذي يسكن هؤلاء؟

– لا يهمّنا جنونهم، انظر… الجميع بخير.

– بخير…؟ لم يعد يغمض لي جفن، لم أعد أطيق هذه الفظاعة…

   تلتقط أذناه توسّلها وبعضا من غمغمات زوجها، يرنو إلى دموعها تنسكب من مآقيها، وإلى شفتيها تقبلان القبر في استعطاف وعظيم استرحام:

– أنا وراجلي طالبين بركْتك لعظيمة يا سيدي صالح، شوف من حالنا، ولدنا ضرباتو عين ولّا كيهضر بحْدو، ولْدنا حماق يا سيدي صالح، حماق، حنا فْعارَك، غير يَبْرا ولْدي ندير ليك وعْدة كبيرة سيدي صالح…

   يشعر إدريس بالضيق يجثم بثقله على صدره، تزيده اختناقا روائح البخور المنبعثة من المباخر، يغادر المكان وعيناه لا تبرحان الأرض. تصكّ الأدعية أسماعه، يذبح التوسل إحساسه، تشنق زينب أنفاسه… يحادث نفسه وهو في طريقه إلى مكان لعله يهدئ فيه من حرارة تستعر بداخله:

سأكشف لهم حقيقة صالح طال الزمان أو قصر، سأجهر لهم بالحقيقة، لكن هل سيصدقونني وأنا قيّم الضريح؟ قد يذبحونني ويقدمونني قربانا يتقربون به من وليّهم، سيّدهم هذا اللعين صالح.