حسن شوتام
روى لي صديق مَوْقفا اختبره، فيه من الطرافة والبلاغة ما يُغري بالنّقل والمشاركة. أثلجت سماء المغرب قبل الأوان، فأغلِقت جميع المسالك الطرقية. ولسوء حظ صديقي، اضطرّت الحافلة التي استقلّها إلى التوقّف – قبل بلوغ باحة استراحة أو ملجأ طوارئ – على أوّل هامش مُتاح. دبّ القلق بين المسافرين وماجت تعليقاتهم وتناظروا بوجوه تعلوها الحيرة. لكن ما لبثوا أن استعادوا هدوءهم بعد تأكيد السائق ومساعده أن كاسحات الثلوج في طريقها إليهم. تنفس المسافرون الصّعداء لأن احتمال قضاء الليلة بين جدران وتحت سقف الحافلة المتجمّدة كان واردا. أمّا صديقي، فكانت معدته الفارغة تعزف لحن الجوع؛ إذ صرفته ظروف خاصة عن تناول وجبة الغذاء ولم يُعدّ العدّة لهذه الوقفة الطارئة. الجانب الطريف في القصة أن الطعام يوجد على ذراع منه فقط، بيد أنه لايملك جرأة طلبه وإصابته. أمامه مباشرة كانت سيدتان تتقاسمان ما تزوّدتا به لسفرهما الطويل، فيما صديقنا يُؤمّل نفسه بين اللقمة والأخرى بالتفاتة إنسانية منهما. وظلتا على نفس التركيز من إشباع حاجتهما للبقاء حتى أتتا على كل ما لذ وطاب وما أبقتا في المزود فتاتا. ساعتها فقط أشاح بوجهه إلى زجاج النافذة كمن يستجير ببعض البياض لقهر قتامة الأجواء. وفي مشهد ظنّه في البداية محض خيال؛ تراءت له قافلة سُرُج صاعدة من أسفل المنحدر، تشقّ طريقها ببطء في اتجاههم. لم يتوقّع مَدَداً يأتيه من تحت ومن قلب بيوت صغيرة تهجع على امتداد قاعدة المرتفعات، فاصطنع من حقيبة الظهر وسادة دفن فيها يأسه وغبنه وجوعه واستسلم للنوم. عندما استيقظ صديقنا، استغرب حرارة الأجواء بين الركّاب وإشراقة وجوههم. لكن دهشته لم تطُل لأن معدته الصامدة لساعات متتابعة تمكّنت من تمييز رائحة الحساء اللذيذ المنتشرة…ما استغربه في الحقيقة أو ما اعْتَبَرَهُ بالحري إمعانا في الاستفزاز، هو وجود مزود السيدتين “الضامر الفارغ” على المقعد الخالي بجانبه. لم أفهم ما كان يُلمّح إليه صديقي حتى أضاف إشارات أخيرة تُغني عن البيان…
أطلّ من جديد من خلال النافذة، فتراءت له من بعيد قافلة السرج المضيئة نازلة من أعلى المنحدر، تشقّ طريقها بسرعة في اتجاه البيوت الصغيرة على امتداد قاعدة الجبل… وظلّ يتأمل أنوار القافلة وهي تختفي وتظهر صعودا وهبوطا، مُحتمِلا سياط جلاديه وهم يدعون لمن أطعمهم الحساء والتمر في عزّ القرّ، بالبركة والتمكين والنّصر!