الشاعر المخضرم جمال خيري
أَوَ رَأَيْتَ كَيْفَ تَسَلَّطْتُ عَلَى تَرَقُّبِكَ بِعُنْوَانٍ جَدِيدٍ؟ لَمْ نَزُرْ بَعْدُ، صَدِيقِي، أَيَا الْمُصْدِقُ، مَقْبَرَةَ مُونْبَّارْنَاسَ لِنَقِفَ عَلَى قُبُورِ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ احْتِرَاماً وَإِجْلَالاً. وَلَمْ نَسْتَمِرَّ فِي انْكِتَابٍ مُتَأَلِّفٍ عَبْرَ قَصَائِدِنَا الْمُتَنَاثِرَةِ، وَلَوْ عَنْ طَرِيقِ الْأَثِيرِ، مِنْ حِينَةٍ لِفِينَةٍ، لِنَأْتِيَ بِشَيْءٍ يَسْتَحِقُّ الْقِرَاءَةَ وَالنَّشْرَ. لَمْ نَتَعَرَّفْ بَعْدُ عَنْ بَعْضِنَا الْبَعْضِ؛ تَآلَفْنَا بِشُعِّ الْمَعَزَّةِ، نُحَاوِل، نَجِدُّ وَنَجْتَهِدُ، أَنْ نَتَعَارَفَ وَسَطَ هَذَا اللَّيْلِ الْبَهِيمِ بِاللَّغْطِ وَالرِّدَةِ. أَصِيحُ مَاتَ، وَتَسْمَعُ بَاتَ. أَرُدُّ كَانَ، تُرَدِّدُ بَانَ. حَظُّنَا أَنَّنَا وَلَوْ مَرَّةً فِي الْحَوْلِ نَسْمَرُ عَلَى رَأْسِ قَبْرِيَ الْمُخَضْرَمِ، تَكُونُ فِي تَعَبٍ كَثِيرٍ وَلَكِنْ رَحِيبُ الصَّدْرِ مَعِي، تَسْأَلُنِي حَيْثُ التَّأَنُّقُ وَصَبٌ، وَتَصْمُتُ إِلَّا عَنِ ابْتِسَامَتِكَ الْوَسِيمَةِ اللَّائِحَةِ، وَتَتْرُكُنِي وَكَأَنِيَ فِي هَذَيَانٍ. أَيُّ قَدَرٍ وَجَّهَ قَلْبَكَ وَسَدَّدَ مُسْتَقَرَّهُ بِقَلْبِي. أَلَمِي، يَا الْمُصْدِقُ، قَلَمِي، فَإِنْ أخطأَتُ فَخطِّئْنِي، وإنْ أَصَبْتُ فَصَوِّبني. لِأَنَّنِي لَسْتُ سِوَى تَجْرِي عَلَيَّ قَوَاعِدُ مَا يَقَعُ الْإِسْنَادُ بِمَعْزِلٍ عَنْهُ، خَارِجَ نِطَاقِ أَيِّ حُكْمٍ أَوْ عَمَلٍ، أَجُرُّ بَعْدِيَ بِالضِّيَافَةِ كَيْ، عَسَى يَوْماً، يَشْهَدُ أَنَّنِي عِشْتُ حُرًّا عَلَى مَا يُرَامُ.
أَوَّلُ حُبِّي لَيْسَ أُمِّي، بَلِ ابْنَةُ عَمِّي بِسَبَاتَةٍ. أُمِيَ قْبَلَ فِطَامِيَ كَانَتْ تَبْحَثُ عَنْ جِدْعِ نَخْلَةٍ لِمَخَاضِهَا السَّابِعِ. كُنْتُ مُوَزَّعاً بَيْنَ الْأَحْضَانِ وَالْأَثْدَاءِ؛ كَانَتْ لِيَ أُمَّهَاتٌ، وَظَنِيَ كَثِيرٌ أَنْ كَانَ لِيَ إِخْوَةٌ بِلِبَانِ أُمِّيَ عِدَّةٌ، وَحَتَّى حُبِّيَ الْأَوَّلُ قَدْ تَكُونُ قَاسَمَتْنِي نَفْسَ الْأَثْدَاءِ وَبَعْضَ الْأَحْضَانِ؛ أَذْكُرُ أُمَّهَا تُرْضِعُهَا وَتَلُفُّنِي بِذِرَاعِهَا الْأُخْرَى. يَا تُرَى مَا كُنْتُ أَفْعَلُهُ؟ هَلْ كُنْتُ جَالِساً عَلَى فَخِذِهَا أَتَفَرَّجُ بَيْنَ لَمْظٍ وَانْدِهَاشٍ؟ أَمْ كُنْتُ مُسْتَنِداً إِلَى كَشْحِهَا أَعْبَثُ بِالثَّدْيِ الْآخَرِ؟ وَأَذْكُرُهَا، أُمَّهَا، قَالَتْ لِيَ يَوْماً: أَتَعْرِفُ؟ حِينَ كُنْتَ صَغِيراً جِدًّا عَضَضْتُكَ مِنْ أُذُنِكَ وَشَرِبْتُ عَلَى رَأْسِكَ سَبْعَ جُرْعَاتٍ وَأَنَا فِي وَحَمٍ كَيْ يَكُونَ وَلِيدِي شَبِيهُكَ.
هَلْ، يَا الصِّدِّيقُ، فِعلاً، نَحْنُ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ بَعْدَ الْعِشْرِينَ؟ لَا أَظُنُّ… كَانَتْ طُفُولَتِي وَشَبَابِي إِلَى حُدُودِ الْعِشْرِينَ مِنَ عُمُرِي أَكْثَرَ انْفِتَاحاً وَازْدِهَاراً مِمَّا نَعِيشُهُ الْآنَ. نَحْنُ، وَبَعْدَ الْعِشْرِينَ وَالْبِضْعِ الَّتِي عَمَّرْتُهَا هُنَاكَ، فِي رِدَّةٍ لَا رِجْعَةَ بَعْدَهَا. قُبَيْلَهَا بَدَأَتْ كَرَّاتُ الطَّاقِيَّةِ وَالنِّقَابِ. أَذْكُرُ مُدِيرَ الثَّانَوِيَّةِ فَاتِحَةَ الثَّمَانِينِيَّاتِ، الَّذِي بَيْنَ عَشْيَّةٍ وَضُحَاهَا أَصْبَحَ يُبَكِرُّ قَبْلَ فَتْحِ بَابِ الْمُؤَسَّسَةِ (ثَانَوِيَّةِ الْمُصَلَّى) كَيْ يَمْنَعَ كُلَّ مُحَجَّبَةٍ مِنْ دُخُولِ الْفَصْلِ. أَذْكُرُ حَيَّ الْأَحْبَاسِ الَّذِي تَحَوَّلَتْ كُلُّ مَكْتَبَاتِهِ تَقْرِيباً إِلَى خِزَانَاتٍ لِلْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ. أَذْكُرُ مَسَاجِدَ الْأَحْيَاءِ الَّتِي أَصْبَحَتْ تَسْطُو عَلَى الْفَضَاءَاتِ الْعَامَّةِ أَزِقَّةً وَشَوَارِعَ، بِلَا حَقٍّ شَرْعِيٍّ أَوْ تَرْخِيصٍ مِنْ قَانُونٍ. أَذْكُرُ كَذَلِكَ الْمَقَاهِي الَّتِي دُونَ سَابِقِ إِنْذَارٍ وَعَلَى غَيْرِ انْتِظَارٍ بَدَأتْ تَكْتَسِحُ الْأَرْصِفَةَ إِلَى أَنْ صَارَتْ مَقَاهِيَ بَيْنَ الْمَقْهَى وَالْمَقْهَى، وَرُبَّمَا كَانَ يَمْلَأُهَا الَّذِينَ أُحِلَّتْ لَهُمْ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فَقَطْ بِالشَّوَارِعِ وَالْأَزِقَّةِ، وَلِذَلِكَ، وَهْوَ الْأَعْلَمُ، كَانُوا يَتَسَابَقُونَ عَلَى طَاوِلَاتِ الْأَسَرِيَّةِ كَمَا ذَوُو الْكَبِيرَةِ كَانُوا يَتَنَافَسُونَ عَلَى التَّقَرُّبِ مِنَ الْإِمَامِ وَالصَّلَاةِ عَلَى دَنَاوَةٍ مِنْ هَالَتِهِ. وَكَذَا كَذَا، أَذْكُرُ…
أَعُودُ بِكَ يَا الْمُصْدِقُ إِلَى الْعُنْوَانِ ذَاكَ “بُرْلُوغُ الْغُلَامَةِ أُبْلُوغُ الْجَارِي”؛ إِنَّهُ الْفَاتِحَةُ الْخِتَامُ فِي آنٍ؛ مِنَ الطِّينَةِ الْمُؤَنَّثَةِ الذَّكَرُ، وَمِنْ ضِلْعِ الذَّكَرِ المُذَّكَّرِ الْأُنْثَى، وَمَا ثَمَّةَ سِحَاقٌ أَوْ لِوَاطٌ، وَلَا مُسْتَرْجَلَةٌ أَوْ خُنْثَى، إِنَمَا هِيَ صِبَغُ وَطَبَائِعُ خَلِيقَتِهِ فِي صِيغَتِهَا الْأُولَى، وَآيَتُهَا بِقُدْرَتِهِ مِثْلَمَا فِي وُسْعِهِ إِخْرَاجُ الْمَيْتِ مِنَ الْحَيِّ، مُخْرِجِ الْحَيِّ مِنْ مَوَاتٍ. وَلَكِنَّ الضِّلْعَ وَالطِّينَةَ رُمُوزٌ وَإِحَالَاتٌ، آيَاتٌ، وَأَعْظَمُ النَّاسِ لَا يَعْقِلُونَ. فَإِنِ الضِلْعُ كَانَ فِعْلاً الْعُضْوَ الْجِسْمَانِيَّ لَكَانَ الذَّكَرُ مِنَّا نَاقِصَ ضِلْعٍ. أُثْبِتَ بِمَشِيئَةِ الَّذِي عَلَّمَنَا الْأَسْمَاءَ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَكَرٍ وَأُنْثَى فِي عَدَدِ الضُّلُوعِ أَوْ بَيْنَ عَرَبِيٍّ وَعَجَمِيٍّ أَوْ أَبْيَضَ وأَسْوَدَ، لَا فَرْقَ إِلَّا بِالتَّقْوَى. قَسَماً أَفْسَدُوا أَلْبَابَنَا بِأَحْكَامٍ خَبِيثَةٍ…
عَلَى أَيٍّ قَصَدْتُ الْعُنْوَانَ ذَاكَ “بُرْلُوغُ الْغُلَامَةِ أُبْلُوغُ الْجَارِي”، هَكَذَا كَيْلَا أُقْلِعَ عَنِ الْكِتَابَةِ وَكَيْلَا أُنْهِيَ رِسَالَتِي. أَوَ رَأَيْتَ عُنْوَانِيَ الْجَدِيدَ؟ أَلَا تُحِسُّهُ يُمَنِّي بِكِتَابَةٍ آتِيَةٍ؟ إِنَّهُ رِوَايَةٌ مُقَصَّرَةٌ جِدًّا، وَلَيْسَتْ مُقَصَّراً فِيهَا مِثْلَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي تَمْلَأُ أَسْوَاقَ الْكِتَابِ وَحَتَّى كُتَّابُهَا يُعَامِلُونَهَا كَبِضَاعَةٍ قَابِلَةٍ لِلسُّوَامِ وَلِلاِسْتِهْلَاكِ. وَبِالْجُعَّةِ بَعْدَ الْجُعَّةِ يَثْمَلُ الْإِعْلَامُ فَيُطْنِبُ بِالدِّعَايَةِ وَالْإِشْهَارِ، وَكَيْلَا يَضِيعَ حَظُّهُ مِنَ الْوَزِيعَةِ، يَجُرُّ النَّاقِدُ قَلَمَهُ الَّذِي تَفَقَّهَ فِي عِلْمِ الِاجْتِرَارِ، فَيَبْدَحُ بِالْمَدْحِ، وَيُهَزْهِزُ ذَيْلَهُ بِالنَّبْحِ. فَتُبَاعُ الرِّوَايَةُ وَنَنْسَاهَا إِلَى أُخْرَى ثُمَّ أُخْرَى… وَهَكَذَا لَا نُؤَسِّسُ لِلرِّوَايَةِ الْمَغْرِبِيَّةِ بَلْ لِتَجَارِبَ كِتَابِيَّةٍ تَخْتَلِسُ مِنْ هُنَا وَهُنَاكَ كَمَا الْجَرَانِينُ نَقْرَأُهَا ثُمَّ تَنْتَهِي قِطَعاً فِي حَوَانِيتِ بَاعَةِ الْفُولِ وَالْحِمَّصِ أَوْ بِالْمِرْحَاضِ.
فَاجَأَنِي الْيَوْمَ سَاعِي الْقَلْبِ بِحُبٍّ بَاهِرٍ نَقِيٍّ جَدِيدٍ… كَيْفَ أُغْلِقُ هَذَا الْحِسَابَ الَّذِي يَضْطَرُّنِي إِلَى الْعَيْشِ مَعَ النَّاسِ فِي الشَّارِعِ وَالْمَقْهَى وَالْعَمَلِ، وَالَّذِي يَقْتَحِمُ بَيْتِي عَبْرَ الْقَنَوَاتِ الْمَعْلُومَةِ؟ كَيْفَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَحْيَا حُبِّيَ الْجَدِيدَ خَارِجَ مَكْرِ النَّاسِ وَدَجَلِ الْأَفْكَارِ وَدَهَاءِ اللُّغَةِ…؟ أَرْنُو إِلَيَّ أَدِبُّ بَيْنَهُمْ، لَا كَمَا ذُو الْقَرْنَيْنِ كَانَ يَرْنُو إِلَى النَّمْلِ وَيَتَعَلَّمُ، بَلْ كَيُونُسَ فِي عَتَمَةِ وَنَتَانَةِ جَوْفِ الْحُوتِ، إِذْ رَفَضَ اللَّوْحَ الَّذِي أُعْلِمَ بِهِ؛ أَرْنُو إِلَيَّ أَدِبُّ بَيْنَهُمْ وَأُبَطْبِطُ فِي عَتَمَةِ وَنَتَانَةِ تَفَاهَاتِهِمْ. لَا يُحِبُّونَ، يَا صَدِيقِي، لَا يَعْرِفُونَ الْحُبَّ… لَقَدْ قَتَلُوهُ فِي الصِّبَا وَدَفَنُوهُ فِي الرَّيَعَانِ، وَمَا يُحِسُّونَ فِي نَبْضِهِمْ لَيْسَ سِوَى نَزَوَاتِ الْمُلَاصَقَةِ وَالْإِتْيَانِ. لَا يَعْرِفُونُ الْحُبَّ، حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِبَاءَةِ الْقِرَانِ. وَأَنَا غَيْرُهُمْ أَحْبَبْتُ وَأَحْبَبْتُ، وَمَثْنَى فِي الْآنِ وَثَلَاثَ وَرُبَاعَ، كَأَنْ قَلْبِي مُحِيطٌ يَسَعُ حُورِيَّاتٍ. وَهَا أُحِبُّ مِنْ جَدِيدٍ، يَا الْمُصْدِقُ الصِّدِّيقُ، بَعْدَ نِصْفِ قَرْنٍ وَبِضْعٍ، هَا أُحِبُّ، وَهَا يَخْفِقُ قَلْبِي بِحُبٍّ جَدِيدٍ.
تَذَكَّرْتُ الْحَبِيبَةَ اللَّبِيبَةَ وَأَنَا فِي غَلَيَانٍ بَيْنَ بَرَاثِنِ الْأَلَمِ أَتَلَوَّى فِي ذَاكَ الْمُسْتَشْفَى الْعُمُومِيِّ الَّذِي تَزُورُكَ فِيهِ الْمَكْتَبَةُ الْمُتَنَقِّلَةُ، وَالَّذِي تَطُوفُ عَلَيْكَ مُمَرِّضَاتُهُ بِالْعِنَايَةِ وَالاِبْتِسَامِ وَلَذِيذِ الْكَلَامِ كَمَا الْحُورُ الْعِينِ؛ تَذَكَّرْتُهَا وَبَكَيْتُ لِأَنَّهَا رَفَضَتْ أَنْ أُسَطِّرَ اسْمَهَا الْحَقِيقِيَّ فِي رِسَالَةٍ كَتَبْتُهَا لِلوَدَاعِ. رُبَّمَا هِيَ الْمُمَرِّضَةُ الْعَجِيبَةُ التَّي طَرَّتْ عَلَى جَنَبَاتِهَا أَجْنِحَةٌ مُقَزَّحَةٌ هَفْهَافَةٌ، وَدُونَ سَابِقِ إِشْعَارٍ، رَفْرَفَتْ حَوْلَ رَأْسِي وَلَقَمَتِ الدَّبَابِيرَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ بِيَ السُّوءَ. إِنَّهَا الْفَرَاشَةُ الْبَيْضَاءُ الَّتِي حَطَّتْ عَلَى رَأْسِي ذَاتَ خَطَأٍ رَقْنِيٍّ وَقَصَصْتُهَا فِي رِسَالَةِ الشَّيَاكِينِ.
تَذَكَّرْتُهَا فَمَرَّ شَرِيطُ قَلْبِي أَمَامَ عَيْنَيَّ وَرُحْتُ أَتَفَرَّجُ عَلَيَّ فِي أَوَائِلِ الْحُبِّ وَخَفَقَانِ الْقَلْبِ مُسْتَمْتِعاً بِسِيمْفُونِيَةِ الْحُرِّيَةِ وَالْحَيَاةِ. لَكَمْ لَعِبْنَا وَجَرَيْنَا، ضَحِكْنَا وَبَكَيْنَا، أَنَا وَحُبِّيَ الْأَوَّلَ بِسَبَاتَةَ، ثُمَّ فَرَّقَتْنَا الْمَسَافَاتُ وَالْأَمْكِنَةُ بَعْدَ وَفَاةِ عَمِّيَ إِثْرَ حَادِثٍ مُفْجِعٍ، وَلَمْ نَلْتَقِ إِلَّا لِقَاءَ الْغُرَبَاءِ، وَعُمُرِي يُنَاهِزُ الثَّلَاثِينَ سَنَةً عِنْدَ وَفَاةِ أَبِي. تُرَى كَيْفَ وَلِمَ الْقَلْبُ يَبْقَى مُتَعَلِّقاً هَكَذَا، بِأمْكِنَةٍ وَأَنَامٍ إِلَى آخِرِ خَفْقَةٍ؟ أَمْكِنَةٍ، رُبَّمَا لَنْ يَعُودَ إِلَيْهَا أَبداً، وَأَنَامٍ، وَحَتَّى حِينَ يَلْقَاهُمْ، يَرَاهُمْ لَا يُمَثِّلُونَ عِبْءَ افْتِقَادِهِمْ وَنَارَ الشَّوْقِ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُحِسُّهُمْ سِوَى مُجَرَّدَ نُسْخٍ لَا تُشْبِهُ الْأَصْلَ إِلَّا قَلِيلاً.
سَبَاتَةُ، لَا أَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ جِذْرِ السُّبَاتِ، أو مِنْ يَوْمِ السَّبْتِ. فَهَلْ هِيَ أَصْلاً مِنَ السَّبْتَةِ أَيِ الْمُهْلَةِ مِنَ الدَّهْرِ؟ أَوْ لَعَلَّهَا لَيْسَتْ كَلِمَةً عَرَبِيَّةً، وَلِهَذَا الْأَمْرِ حَاوَلُوا مَحْوَ اسْمِهَا إِدَارِيًّا وَاسْتِبْدَالِهِ بِقَرْيَةِ الْجَمَاعَةِ؟ رُبَّمَا هِيَ مِنْ نُجَارٍ فَرَنْسِيٍّ، وَلِيدَةُ نَحْتٍ مِنْ لَفْظَةِ sabaton وَالَّتِي هِيَ نَفْسُهَا آتِيَةٌ مِنْ مَحْتِدٍ نُرْوِيجِيٍّ أَوْ فِنْلَنْدِيٍّ، وَمَعْنَاهَا مَا كَانَ الْجُنُودُ يَحْمُونَ بِهِ أَقْدَامَهُمْ، وَمِنْهَا تَوَلَّدَتْ كَلِمَةُ soulier وsabat اللَّتَانِ تَعْنِيَانِ الْحِذَاءَ؟ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، لَنْ يَعْتَرِفَ بِهَا أَحَدٌ كَكَلِمَةٍ أَمَازِيغِيَّةٍ. وَأَكْبَرُ الظَّنِّ أَنَّ تَارِيخَ هَذِهِ الْمِنْطَقَةِ لَمْ يُسَجَّلْ أَوْ أُطْمِسَ. لِأَنَّنِي لَا أَفْهَمُ لِمَ جَارَتُهَا الْمَدْيُونَةُ تَفْتَخِرُ بِمَوْسِمِ الْحَصَادِ بَارُوداً وَفُرْسَاناً؟
وَلِأَنَّنِي أُحِبُّ مِنْ جَدِيدٍ، فَقَدْ وَدِدْتُ أَنْ أُطْنِبَ فِي الْحَدِيثِ إِلَيْكَ، يَا الْصِّدِّيقُ صَدِيقِي، عَنِ السَّبَاتَةِ. كَانَتْ فِعلاً قَرْيَةً. كَانَ بَيْنَهَا وَمَسْقِطِ رَأْسِي بِدَرْبِ السُّلْطَانِ، غَابَاتٌ وَخَلَاءٌ وَبَعْضُ الْحُقُولِ. وَكَانَ يَرْبِطُهَا بِالْبَيْضَاءِ الْمَدِينَةِ خَاصَّةً الْحَافِلَةُ الْكَهْرَبَائِيَّةُ الْحَمْرَاءُ ذَاتُ الْقَرْنَيْنِ الطَّوِيلَيْنِ، وَالَّتِي كُنَّا نُلَقِّبُهَا بِالصَّرَّارِ، وَإِلَّا فَالتَّاكسِي الْأَبْيَضُ الَّذِي كَانَ مَيْسَرَةَ الضَّوَاحِي النَّائِيَّةِ. مَنْ يَذْكُرُ عَيْنَ الشُّقِّ، وَلَيْسَ كَلَامِي عَنِ الْحَيِّ بَلْ عَنِ الْيَنْبُوعِ وَالْبُحَيْرَةِ؟ مِثْلُهَا بُحَيْرَةُ دَرْبِ الْكَبِيرِ الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا تَخْطِيطُ الْإِدَارِيِّينَ لِلْبَيْضَاءِ، وَغَيْرُهُمَا كَثِيرُ. وَلَا يَهُمُّ، عَمَّ الضَّيَاعُ مُنْذُئِذٍ، وَإِلَّا لِمَ أَوَدُّ حَدِيثَكَ، وَمَا جَدْوَى الْحَدِيثِ… لَقَدِ اقْتَلَعُوا الْأَشْجَارَ وَسَدُّوا الْيَنَابِيعَ وَطَمَرُوا كُلَّ الْبُحَيْرَاتِ ظَنًّا مِنْهُمُ الْحَضَارَةَ تَعْمِيرٌ بِالْخَرَسَانَةِ الْمُسَلَّحَةِ.
اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ لُغَةٌ تَبُوحُ خَلْفَ حِجَابٍ. لَنْ تَجِدَ قِصَّةَ حُبٍّ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ كَضَرْبٍ مِنَ الْأَمْثَالِ. كُلُّ قِصَصِ الْفُرْقَانِ تَقْرِيباً فِي مَا يَخُصُّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى لَا تُحِيلُ إِلَّا إِلَى الْجِنْسِ أَوْ إِلَى التَّعَفُّفِ أَوِ النِّكَاحِ، وَثَمَّةَ بَعْضُ الْعُنْفِ. فَحَتَّى قِصَّةُ زَوْجَةِ أَيُّوبَ لَا تَتَحَدَّثُ سِوَى عَنْ الْمَرْأَةِ الَّتِي رَغْمَ إِخْلَاصِهَا وَصَبْرِهَا وَعَنَائِهَا، مِنْ جَرَّاءِ مَا أَصَابَ زَوْجَهَا، تَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ لِأَنَّهَا اسْتَسْلَمَتْ لِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ. هَلْ يُعْقَلُ أَنِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أُصِيبَ قَلْبُهَا بِحُبٍّ قَوِيٍ تُنْبَزُ بِالْكَيْدِ؟ وَأَنْ تُرْبَطَ كَلِمَتَا الْحُبِّ وَالشَّغَفِ، بِالضَّلَالِ؟ نَعَمْ، أَخْطَأَتْ زُلَيْخَا وَلَمْ تَسْتَطِعْ كَبْحَ هَذَا الْحُبِّ الْقَوِيِّ، وَلَكِنْ هَلْ كَانَتْ تَعِيشُ الْحُبَّ مَعَ بُوتِيفُارَ الَّذِي يُحْكَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَأْتِي النِّسَاءَ؟ هَلْ كَانَ لَهَا الْحَقُّ فِي طَلَبِ الطَّلَاقِ وَتَقْرِيرِ الْمَصِيرِ؟ هَلْ كَانَتْ زَوْجَةً أَمْ أَمَةً؟ وَكَانَ وَلَا بُدَّ مِنْ مَوْتِ بُوتِيفَارَ كَيْ يُعْتَرَفَ نِسْبِيًّا بِهَذَا الْحُبِّ حِينَ يُزَوَّجُ يُوسُفُ بِزُلَيْخَا بِأَمْرٍ مِنَ الْمَلِكِ وَبِتَدَخُّلِ زَوْجَتِهِ الْأُولَى حَسَبَ الْحِكَايَاتِ، (أَيْنَ الْحُبُّ؟). وَيُزْعَمُ أَنَّهُ حِينَ دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَالَ: أَلَيْسَ هَذَا خَيْراً مِمَّا كُنْتِ تُرِيدِينَ؟ وَوَجَدَهَا عَذْرَاءَ فَأَصَابَهَا… (وَهَا الْحُبُّ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ).
لَيْسَ اللَّهُ الَّذِي أَرَادَ أَلَّا نُحِبَّ إِلَّا إِيَاهُ، بَلْ هُمْ لَحَنُوهُ وَزَيَّفُوا قَوْلَهُ، وَلَوَوْا أَلْسِنَتَهُمْ لِغَرَضٍ بَائِنٍ، وَهْوَ أَنَّ الْحُبَّ ضِدَّ مَصَالِحِهِمْ وَحُبُّ الْمَرْأَةِ بِالذَّاتِ. قَسْراً، وَعَنْ سُوءِ نِيَّةٍ، مُنْذُ نُعُومَةِ قُلُوبِنَا، وَهُمْ يَشْحَنُونَ أَدْمِغَتَنَا بِأَفْكَارٍ خَبِيثَةٍ عَنِ المَرْأَةِ حَوَّاءَ الْأُنْثَى، الضِّلْعِ الْأَعْوَجِ وَالْكَيْدِ الْعَظِيمِ، نَاقِصَةِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ تِلْكَ. وَقَفُوا عِنْدَ النَّصِ، وَلَمْ يَتَزَحْزَحُوا عَنْ حَرْفِهِ أَبَداً. فِعْلاً أَوَّلُوا الْآيَةَ بَعْضَ التَّأْوِيلِ، وَلَكِنَّهُ تَأْوِيلٌ يُلَبِّي نَزَعَاتِهِمْ وَيَخْدِمُ مَصَالِحَهُمْ. يَقُولُونَ مَثَلاً: إِنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ ذَاكَ الضِّلْعِ الْأَعْوَجِ الَّذِي يَحْمِي الْقَلْبَ، لِأَنَّ اللهَ خَلَقَهَا لِتَحْمِيَ الْقَلْبَ، هَذِهِ هِيَ مُهِمَّتُهَا فِي الْحَيَاةِ، فَتَكُونُ أُمًّا حَنُوناً وَأُخْتاً رَحِيماً وَبِنْتاً عَطُوفاً وزوجةً وَفِيَّةً… مَا هَذَا الْكَلَامُ؟ أَيْنَ الْحُبُّ فِي كُلِّ هَذَا؟ أَلَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ حَوَّاءَ إِلَّا لِتَكُونَ أُمًّا وَأُخْتاً وَبِنْتاً وَزَوْجَةً؟ اللهُ خَلَقَ الْحُبَّ وَبِهِ خَلَقَنَا لِنَعُودَ إِلَيْهِ. يُحِبُّنَا اللهُ، وَيُقَدِّرُ حُبَّنَا، وَيُخَيِّرُنَا فِيهِ. وَلِهَذَا تَرَانَا نُحِبُّ الْمَكْرُوهَ أَحْيَاناً أَوْ نَكْرَهُ الْمُحَبَّبَ أُخْرَى. وَالْحُبُّ مَا وَسُعَ وَتَمَطَّى لَا وُجُودَ لَهُ إِلَّا بِالْإِنْسَانِ الَّذِي اسْتَطَاعَ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ رُوحاً وَجَسَداً (ثُمَّ لُغَةً) وَمُنْذُ الْبَدْءِ فَكَانَ مَا كَانَ خَطِيئَةً أَوْ غَيْرَ خَطِيئَةٍ، وَبَانَتْ نُكْهَتُهُ مِنَ الثَّمَرَةِ إِلَى الشَّجَرَةِ، وَمِنْ هِمَّةِ الضِّلْعِ إِلَى ثَوْرَةِ الْوَلَعِ. أَوَ لَمْ يُحِسَّ إِبْلِيسُ أَنَّ خَالِقَهُ يُحِبُّ آدَمَ أَكْثَرَ مِنْهُ؟ أَوَ لَمْ يَكُنِ الْقَتْلُ الْأَوَّلُ مِنْ جَرَّاءِ الْحُبِّ؟
حُبِّيَ الْجَدِيدُ ذَا، حَقًّا، لَيْسَ جَدِيداً إِلَّا لِأَنَّهُ أَصْبَحَ بِالْفِعْلِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَوْجُوداً بِالْقُوَةِ مُنْذُ مَطْلَعِ الْحَيَاةِ، وَعَبْرَهُ وَبِطَاقَتِهِ وَإِرَادَتِهِ أَحْبَبْتُهَا أَوَّلاً، وَتَمَكَّنْتُ مِنَ التَّنَفُّسِ خَارِجَ سُخْدِ الْمَشِيمَةِ؛ بِهِ أَحْبَبْتُ مُنْذُ نُعُومَةِ الْأَحَاسِيسِ خَالِصاً مُخْلِصاً كَيْ أَصِلَ إِلَيْهِ الْآنَ، وَلَوْ شَيْخاً وَهِناً، وَأُقِيمَ بِيْنَ أَمْدَائِهِ الْوَرْدِيَّةِ أَنْعَمُ بِمَا لَذَّ وَطَابَ. وَعَرَفْتُ هَذَا وَأَنَا أَتَجَاذَبُ أَطْرَافَ الْحَدِيثِ مَعَ الَّتِي كَانَتْ خَيَالاً وِجْدَانِيًّا مَحْدُوساً وَغَدَتْ وَاقِعاً مَحْسُوساً مَلْمُوساً، حَبِيبَتِي، نُورَانُ، قُلْتُ فَقَالَتْ:
-
أُحِبُّكِ…
-
أُحِبُّكَ…
-
إِنَّهُ حُبٌّ كَمَا ضَرْبَةُ الصَّاعِقَةِ…
-
إِنَّهُ حُلُولٌ وَانْصِهَارٌ…
-
وَهَكَذَا أَحْسَنُ، سَتَعُودِينَ إِلَى طَبِيعَتِكِ فِيَ ضِلْعاً مِنْ جَدِيدٍ…
-
رَائِعٌ أَنْ أَعُودَ إِلَى الْجَنَّةِ، كَمَا كُنْتُ أَصْلاً فِيكَ…
-
وَأَعُودُ إِلَى الْجَنَّةِ وَحْدِي. وَسَوْفَ تُفَاجَأُ الشَّجَرَةُ، شَجَرَةُ الْمَعْرِفَةِ، وَلَا تَفْهَمُ مِمَّا حَدَثَ شَيْئاً. فَيُعَاقِبُهَا اللَّهُ وَحْدَهَا، وَيُخْرِجُهَا مِنَ الْجَنَّةِ. إِذْ كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ شَجَرَةُ الْمَعْرِفَةِ لَا تَفْهَمُ؟ إِنَهَا خَطِيئَةُ الْخَطَايَا. لِمَاذَا أَقُولُ هَذَا؟ لَقَدْ دَوَّخَنِي هَذَا الْحُبُّ.
-
أَحْسَنٌ لَنَا أَنْ نَدُوخَ وَإِلَّا كَيْفَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نُوَاجِهَ هَذِهِ الْحَيَاةَ.
-
إِنَّهُ مُخَدِّرٌ قَوِيُّ كَمَا أُحِسُّهُ…
-
أَحْسَسْتُهُ يَنْبُتُ عُشْبُهُ بِدَاخِلِنَا بِقُدْرَةِ قَادِرٍ…
-
أُرَجِّحُ أَنَّهُ يَنْبُتُ فِي الضِّلْعِ…
-
يَلْزَمُنَا أَنْ نُصَدِّرَ مِنْهُ…
-
إِلَى الْجَنَّةِ، وَهَكَذَا يَدُوخُ كُلَّ مَا وَمَنْ فِيهَا…
-
لَا، بَلْ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَصْبَحَتْ خَرْقَاءَ، وَكَثُرَ فِيهَا الشَّرُّ وَالْأَلَمُ، وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَسَكِينَةٌ.
-
صَدَقْتِ؛ أَقْصِدُ لِتَدُوخَ الْمَلَائِكُ خَاصَّةً وَتَنْزِلَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْ تَضَعَ حَدًّا لِكُلِّ هَذِهِ الْهَمَجِيَّةِ وَالْوَحْشِيَّةِ. فِكْرَةٌ رَائِعَةٌ هَذِهِ الْعَوْدَةُ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَنْتِ ضِلْعٌ فِيَ…
الشاعر الجميل جمال خيري
شكرا على نصك العميق
شكرا على حبك الباذخ