bmd
هذيانك جنون جميل | عبد الجليل ولدحموية
عبد الجليل ولدحموية
لأنني موبوء برهاب الأحلام اقترفت الهذيان كحل بديل، غالبا ما أفاجئني أهلوس بعين مفتوحة. اعتدت تقمص دور البطل في قصص بئيسة نسيت مؤلفها فَنسبتها لنفسي. أترجل عني ليلاً، أمتطي ذواتا أخرى، انتصر على جيوش نائمة، أتربص بالوجود لعلني أجد ثغرة إلى العدم، أقاوم أفكارا أحملها لا تقربني بصلة، أمشي نحو أحلامي، أعبر المسافة الباقية بيننا. أبلل ذهني بِأفكار نبيذية من وحي باخوس، أتذكر وصية طبيب المعدة، ستموت لو استمريت بنفس السرعة، أجفف البلل بأفكار قاحلة. أقف عند سؤال يعاكسني كشرطي: ألن أموت لو عملت بوصية الطبيب ؟ جفاف الذهن يبعد الموت!؟
ربما نعم، كلام الطبيب مقدس كرأي فقيه الدوار، يحضرونه في أفراحهم وأتراحهم لجس نبضها ويعطيهم إشارة الانغماس. لكنه ليس منطقي، ومتى كانت الحياة منطقية كي تكون الأشياء داخلها كذلك؟
الحياة لا منطقية التكوين والوجود، بالرغم من عذابها وجحيمها المزيف، نعشقها ما إستطعنا إليها سبيلا كما جاء على لسان درويش الشعري. يحترق شاعر كدرويش لينسج كلماته موسيقى سماوية تغنيها السحب للذكريات، و تتراقص على أنغامها الطيور الهاربة من الأقفاص، ليأتي أميُ الفكر ليصف الشعراء أنهم مجرد “مخربقين”.
تخطيتُ السؤال المحرج، لكنه فرض نفسه كالجعة في تيكساس، عذابه شر لابد منه. “كم قضينا حوائجنا بتركها” قائل المقولة مات ولم يحقق شيئا. كيف تقضي أمرا بتركه؟
عدتُ إلى ذاتي هاربا من محرقة السؤال. ربما العيش متصنعا الانسجام مع ذات تشظيني، تصرعني داخلها، تصيبني بلعنة التيه، تشكلني بارادوكسا غالبا، أناقض التناقض. لكنني ألفت العيش هنا، كما تقول فنانة العيطة، التي أتصنع نسيان اسمها لأبدو من الأنتلجنسيا لا أحب فناني الغوغاء، “الربطة زعبية”، نعم ربطت هنا، جميع تفاصيلي لا ترضى أن تهاجر إلى ذات أخرى. بالرغم من أنني أصبت بعدة طعنات تضعفني أمام الزمن والتاريخ وحاضري الكئيب.
“هذيانك جنون” جملة خرجت من فم شاعرة صادفتها في محطة الباص، جميلة تحترف الشعر لتوصِل جمال الفؤاد إلى الآخر قبل الصورة. بعدما تحدثنا في أمور جدية تارة، وفي أمور تافهة يمليها الصمت المميت الفاصل بين موضوع وموضوع تارة أخرى. قبل أن يصل الباص إلى المحطة، ارتديتُ ثوب الفارس المغوار، انتفخت كديك، تشجعت للحصول على رقمها على الأقل، “الضربة فالقرع أولا يمشي سالم”. أخبرتني أن هذياني جميل ومجنون في نفس الوقت، لقد صَدقتها وكذبتُ المرآة وسنين العشرة بيني وبين ذاتي. كيف لا أؤمن بما قالت، وشيطان الشعر يسجد لِعظمتها، يذكرها أبولو في مجمع آلهة الأولمب بفخر، هي البشرية التي أخضعت أقوى الشياطين وأعْنتها. من أنا لِأعارض رغبة السماء، وترانيم الطبيعة الفسيفسائية ؟ مجرد شاب شاخت أفكاره قبل جسده، بلغ الستين في ثلاثين سنة، عمر طويلا في عمر قصير. يحلم أن يتخلص من هلوساته بجِريدة قديمة وجدت لمسح زجاج السيارات. لا أقوى حتى على تغيير ذكرى بذكرى جديدة، فكيف أغير نظرة الوجود إلى الجمال؟ لازلت أحلم بزميلة الدراسة الممشوقة القد، عندما شل لساني أمامها هربت إلى الخيال لعلني أقضي منها وطرا، هل سأهرب إليه أيضا للتخلص من طيف الشاعرة؟ لِأختلي بها عارية من قصائدها، وألبسها ثوب إحدى شخصيات هلوساتي.
تجاوزت سن الخيال ربما، أو استنزفتُه عندما اكتشفت كم هو ممتع التلاعب بأثداء جاراتنا ليلا؟ لو التفت لإحداهن نهارا لَحظيت بها عوض تبذير الجهد الذهني في محاولة رسم أجسامهن على حائط الغرفة بعد نوم أعين السلطة.
يقولون أن المبدع يعيش حيوات متعددة، القول صحيح و قاتل، المبدع يعيش كل حَيوات الآخرين إلا حياته، يُبذر وقته محاولا تقمص أدوار أخرى.
خير لي أن أعود إلى الواقع مكتفيا بجملة “هذيانك جنون جميل”.
طرح جسده أرضا، أطفأ عينيه، ودخل في غيبوبة فارغة الأحلام بعد أن عاشها في واقعه مهلوسا، تائها في الظلام بلا رجعة ربما، قد يكون آخر هذيانه، ربما يكون نومه أيضا ضرب من الهذيان…!؟
عبد الجليل ولدحموية هذيانك جنون جميل 2017-11-04