بقلم: موريس بلانشو
ترجمة: سعيد بوخليط
كتب بلانشو : “يستبعد الأدب التاريخ، مراهنا على لوحة أخرى”. هاهو إذن ناقد تفضل بمنح عطلة للتاريخ، لكن هذه المرة، ليس من أجل إبراز جمالية التجربة، وفق طريقة بيكون Picon، ولا الاستفسار عن أفخاخ الكتابة، كما فعل جان بولهان، ولا قصد التذكير بعدو ودود، مثلما الحال عند بارت، لكن فعلا من أجل مواجهة لغز الأسلوب لدى هولدرلين أو كافكا، لوتريامون أو روني شار. لننتظر كي نرى مافعله هذا المختص في سراديب الكتابة متصديا في نهاية المطاف لقضية جوهرية.
نلاحظ على الفور بأن أسلوب بلانشو، يكشف عن المسار الأساسي للناقد كما جسده :وإن اختار فلسفة، فانحيازه ذاك يعتبر جماليا في ذاته، متنكرا بالتالي للفلسفة. إذا أراد بلانشو أن يكون الأسلوب”حقا في الموت”، فإننا نفتتن بذلك ضمن نطاق أن أسلوب بلانشو، تحديدا، بمثابة ”حق في الموت”مقترحا علينا بحسبه، ”شيئا أبعد من الكتابة”يعتبر شخصيا بالنسبة إليه. لكن شكرا للسماء أن الكتّاب وقد تعلموا في مدرسة الفيلسوف، كون الأسلوب بمثابة ”حق في الموت”، لم يشرعوا في الاعتناء بهذا “الحق في الموت” الشهير، الذي لايهمنا سوى عند الكاتب موريس بلانشو.
يلزم إذن أولا الحديث عن بلانشو باعتباره كاتبا :جورج بولي، باشلار، ألبير بيغان، يكتبون وفق هذا الأسلوب دون أسلوب، والذي ليس سوى باللغة الصحيحة خلال حقبة ما. أحيانا، كما أظهر بيكون بين طيات نص بارع الأسلوب، بأن مالرو فريد مطلقا، ويختبر بارت إدغاما محايدا ومكثفا، أما جان بيير ريشار فهو صانع مذهل:لكن وحده بلانشو اليوم، من بين النقاد، يوظف أسلوبا يتجاوز الكيفيات ، والحيل، والعادات ، واللقاءات السعيدة، يتجاوز النوع والكيفية التي تستعملها لغتنا المتعبة – مانسميه موهبة- سنصادف هذا “المابعدي”، ثم”طفل الصمت”، و”المُضَاعف” الذي تركناه بما يكفي قاصدا تأسيس ماهو خاص بالأسلوب. ويتأتى لنا التساؤل، إن كانت ملاحقة ”ميتافيزيقا اللغة”عند بلانشو في أعمال كافكا، باسكال أو فاليري ، بمثابة فعل كاتب يبحث عن أسس أسلوبه الخاص، ويكدّ من أجل تعضيده كونيا. المؤكد، عثوره على أسلوبه الخاص، وبأن هذا الأسلوب على وجه التحديد يعتبر حقا في الموت بحيث يلتمس له الدعم أو الحجة لدى باسكال أو روني شار.
إذن، ما هو الأسلوب عند بلانشو؟ هو عمل مذهل في إطار الارتقاء بالكلمات والتحول بها عن موضعها. بالتأكيد، تعلق الأمر دائما بتوافق الكلمات مع المعنى الذي يمنحها لها المعجم الصغير. لكن سيتعلق الأمر أيضا بأن يتواصل انسياب مجموعها على امتداد الصفحات ضمن اقتراح شيء جيد أكثر عمقا، وضعية أو موقف أمام هذا ”الصمت”وهذه “الليلة” اللذين انتزع منهما بلزاك أفكارا وكلمات. الكلمات التي لم تنتزع من هذا العدم الأصيل، محيلة على هذه الوضعية الأولى للكلام لا تنفذ نحو أسلوب. إلى حد الآن، لاشيء خاصا جدا :نجد عند راسين أو جاك بوسيت، أو شاتوبريان، هذا البعد الغريب لكلمات يجد من خلالها عَالَم أدبي نفسه منضَّدا على الشيء الذي قيل :الروعة عند جاك بوسيت، الشفافية لدى راسين، ثم الطيّة عند شاتوبريان، بحيث تبذل منهجيتنا قصارى جهدها كي تظهر بأنها رموز سلوك أصيل يميز الكاتب. لكن عند بلانشو، لا يتعلق الأمر بشفافية أو روعة يلزم إدراكهما بالأسلوب، مهما كانت الدلالة الرمزية لهذه السلوكات الأصيلة(شفافية، روعة، الخ). بل يتعلق الأمر أولا عند بلانشو ، محو عالم الأشياء وعالم الكلمات :هذا الأسلوب بمثابة عملية محو. لنقارنه للحظة مع سلوك باحث عن الذهب يتأبط غربالا. المؤمن بأفكار التيار البرناسي سيرجّ الغربال كي لا يحتفظ منه سوى بالتبر الذي يرصع به قصيدته :تطفو كلمات قليلة وعجيبة بعد فرز دقيق. فلوبير سيحرك الغربال، ثم يلقي به مع التبر; لأن ما يهمه، الاكفهرار الذي مر عبر الغربال، حيث الكلمات بمثابة حبات مستديرة جدا ومتساوية الحجم. بينما الجوهري عند بلانشو، ليس ما يحتفظ به الغربال- التبر- ولا الذي صار كومة مثالية، بل الاختفاء المدهش للمادة المألوفة خلال التصفية، ثم هذا الابتلاع اليقيني المتواصل الذي يطمس الحقيقة المشتركة للمادة المضطربة منتهيا عند ترك الغربال شفافا. ليس الأمر باليسير، لأنه أثناء الفرز، يعمل اهتزاز الكلمات وسط الغربال على تبلور تراكمات شاردة ، وأنواع من الشموس متوهجة ومعطلة. بالنسبة لبلانشو، لا كلمة مميزة إذا لم تُدحض على الفور، ويمحوها الترنّح. يلزم كي يوحي بمحو العالم المشترك، تواصل هذا الفرز المتتالي للسكب على الغربال الذي يقذف بها صوب هاوية .
لكن لما هذه الحاجة إلى إزالة العالم والكلمات؟ألا يتعلق السعي ببلوغ تلك العذرية، والبراءة الآدمية التي حلم بها رولان بارت. بلانشو شاعر مفرط كي يقف عند الاكتفاء بتثمين بعض من “درجة الصفر في الكتابة” للكتابة، لأن العلامات المجتمعية أودت إلى تحجر اللغة، وفسدت مع ألف معتقد ضمن حدوده الجازمة. حتما، بالنسبة إلى بارت كذلك- لقد قرأ بلانشو- فالأسلوب لا يمحو سوى ليضيء، فينبغي لسلبه أن يكشف عن الشمس. لكن بلانشو أبعد ، من الإبهام الأساسي لبارت، وهذه اللغة الآدمية التي حلمت بها ماركسية مستحيلة.
مع بلانشو، إذا لزم التخلص من البنيات المستهلكة للجملة، وإعادة توزيع الكلمات غير المنتظرة، ثم العمل على إبرازها وفق تحولات طارئة، كي تنسج شبكة تعمل على احتوائك، فمن أجل بلوغ حقيقة لغة صارت ، مادة، موضوعا، ومعجزة. ينبغي التخلص من”النثر الدال”. لكن بغية العثور على القصيدة، هذا”الرافد الثاني”للأدب : ((بكيفية عامة يتجمع في إطارها مانسميهم بالشعراء. لماذا؟ لأنهم يهتمون بحقيقة اللغة، ولايهتمون بالعالم، لكن ماذا ستكونه الكائنات والأشياء إذا لم يوجد عالم، لأنهم ينقادون وراء الأدب مثل سلطة لاشخصية لاتبتغي سوى الابتلاع والاكتساح . إذا كانت القصيدة كذلك، فعلى الأقل، هل تمثلنا لِما عليها الانسحاب من التاريخ، وتسمع على هامشه طنينا غريبا لحشرة ، وسندرك أيضا بأنه كل عمل سمح لنفسه الانسياب فوق هذا المنحدر نحو الهاوية لايمكنه أن يسمى عملا نثريا)).
هاهي أخيرا القصيدة قد تموضعت في بؤرة أبحاث حول الأسلوب :لم يبتغ بلزاك في نهاية المطاف أساسا سوى أن يكون شاعرا. يبقى أن نعرف إن كانت القصيدة فقط، انزلاقا دائما نحو الهاوية حيث تكمن وظيفتها في ”الكشف”بالمعنى العميق.
إن أهمية النقد عند موريس بلانشو، ضمن المنظور الذي يشكل موضوعا لهذا البحث، تتأتى من كونه كرس نفسه تماما لقضايا الأسلوب. قبله، اهتم فاليري كثيرا بهذا الأمر. لكن تم ذلك في إطار البحث عن وظيفة فكر، وليس سعيا نحو البحث في ماهية الأدب. تكمن جدارة بلانشو في انكبابه على هذا الشيء الرهيب الغامض متقصيا طبيعته. بالتأكيد، لا يوجد مسلك بالنسبة للنقد المعاصر لم يرسمه فاليري :صلات المؤلف بالقارئ، جانب الغش في الإبداع، ثم مقتضى”أدب صعب”، والتمييز بين مؤلف يستهلك لغة مشتركة، وآخر يوظف لغة خاصة، كل ذلك حظي سلفا باهتمام فاليري، مع تنازل عن المنهجية البيوغرافية وكذا التاريخ. غير أن إسهام بلانشو تمثل في بحثه ضمن طبيعة الكلام نفسه عن هذا السلب الجذري وأحيانا الحماسي للوجود الذي ينتهي إلى الأسلوب. بالنسبة لفاليري ، الأسلوب هو عبقرية أن تتفرد وفق الإخلال بآثاره، إنه خاصية آسِرة للكتابة، وثمرة تأثيرات متشابكة جدا لا تتجلى قط للعيان :باختصار، الأسلوب ”خلق” ، إذن معرفة عليا، نبلغها بمناهج يقينية ثم وعي رفيع بالذات :لاتوجد ميتافيزيقا بهذا الخصوص. عند بلانشو، إذا لامس الكاتب مابعدية الكتابة، فلأنه يكسر قشرة الكلمات المخادعة للغة مشتركة، موحيا بحضور الموت في الكلمات وكذا اكتساح نور انطلاقا من انكشاف الموت. تعود جدارة بلانشو إلى بحثه في القضية العامة للأسلوب أبعد من هذا ”الخلق”المنهجي، لكنه مجزأ وحِرفِيا عند فاليري :من هنا، يجري وراء الخطر الأساسي بالانغلاق ثانية ضمن فلسفة واقتراح جمالية انطلاقا من هذه الفلسفة، مجازفة تجنبها فاليري بنوع من الشغف طيلة كل حياته، مختبرا فكره بالمناهج والقدرات، لقاء لعناته ضد باسكال، الصفحات الوحيدة المفتقدة للعمق في عمله . لكننا سنُستدرج كي نتساءل عن ماهية المجازفة الأكبر :التمسك بالمناهج والوسائل، مما يمنع كل بحث عام حول الأسلوب، أو تشييد فلسفة ستُدحض دائما خلال يوم أو آخر. حيث نجد مرتكزا يكون عبره للفن مبررا في الوقت نفسه باعتباره واحدا وعاما؟.
لقد أردنا أولا توضيح فلسفة بلانشو من خلال أسلوبه ذاته. لكن الموضوع مهم جدا كي نتناوله ثانية من زاوية أخرى. هاهو أخيرا ناقد يميز فطريا، اللغة المتداولة والأسلوب. لقد سبق لبرجسون، أن شكل بهذا التمييز جانبا من فلسفته :لكنه إذا اعتبرها مخادعة تلك اللغة المتداولة، فلأن المعتاد أفسدها(رولان بارت)وأنه يكفي تهشيم شوائب النمطي حتى تصير ثانية الكلمات بطراوتها نوافذ مفتوحة على الحقيقة. كل كلمة عند بلانشو، بطبيعتها كذبا، فاللغة المتداولة هي فقط التي تخفي كذبها عن ذاتها :((يكمن الهدف في التعبير عن الأشياء وفق لغة تحددها حسب معناها. الجميع يتكلم هكذا، فالكثيرون يكتبون مثلما يتكلمون. لكن، دون ترك هذا الجانب من اللغة، تأتي لحظة يدرك خلالها الفن عدم استقامة الكلام الشائع ثم يتنحى عنه. ماذا يؤاخذ عليه؟افتقاده المعنى :يبدو له جنونا الاعتقاد بأنه مع كل كلمة سيكون شيئا حاضرا على الوجه الأكمل)).
باستمرار يلح بلانشو على هذه النقطة. لذلك يورد استشهادا لبيير نيكول، استقاه من كتابه المعنون ب :” Traité de la grâce générale” ، وتوخى إعادة توثيقه:((ليست الكتب غير ركام أفكار، فكل كتاب هو بشكل من الأشكال مضاعفا، يلقي في الذهن نوعين من الأفكار. يرسخ داخله ركاما من الأفكار التامة ، تم التعبير عنها وأُدركت على نحو جلي ، ثم علاوة على هذا، يرسخ تركيبا آخر من الرؤى والأفكار المبهمة، التي نحس بها، ونصادف صعوبة للتعبير عنها، بالتالي من المعتاد أن تقوم جمالية الكتب وماهو مكتوب تبعا لهذه الرؤى التي أثيرت دون التعبير عنها)).
إذا كان الأدب إذن بمثابة اللغة التي تخلق غموضا، فهذا لايعني أن اللغة الجارية تتخلص من الغموض الأدبي، فهناك أحيانا”سوء تفاهم”و”التباس”بالمعنى العميق للكلمة. لكن اللغة المتداولة تحد من الالتباس : ((إنها تحتجز بمتانة الغياب ضمن حضور، وتضع أجلا نحو التوافق. الأخير محدد لكن سوء التفاهم كذلك محدد)).
أن تكتب بمثابة شيء ثان، أي العمل على إخضاع اللغة لتحول جذري :((لا يدرك قط الكاتب الكبير الأمر بهذا المجهود المتفق عليه الذي تكلم عنه فاليري :يمكنه توجيه مجهوده جهة موضع آخر ويبلغ مع ذلك، تقريبا دون أن يعلم، هذا التحول المدهش)).
إذا قارنا رأي فاليري حين حكمه على فلوبير باعتباره شخصا غير متفق عليه بما يكفي، افتقد ”آلة كبيرة ”، مع رأي بلانشو حول كافكا، سنرى هنا سمو، نقد يبحث عن أسس أسلوب ضمن طبيعة الكلام ذاته عوض المجهودات المقصودة للكاتب :((إن روائيا يكتب وفق النثر الأكثر شفافية ، يصف أشخاصا يمكننا أن نلتقيهم، وحركات هي حركاتنا;يتمثل هدفه وقد أفصح عنه، في التعبير حسب طريقة فلوبير، عن حقيقة العالم البشري. والحال، ماهو في النهاية، الموضوع الوحيد لعمله؟فظاعة الوجود الخاص بالعالم، المحاكمة التي من خلالها يستمر في الوجود ما توقف على أن يكون موجودا، ثم الذي مات لن يلتقي سوى استحالة أن يموت، والذي بوسعه إدراك المابعدي ودائما من جانب آخر . هذه المحاكمة، معناه أن اليوم صار لعنة، ثم وعي لم يعد نوره صحوة أرق بل سبات غياب النوم، إنه الوجود دون أن يكون مثلما تريد القصيدة بإعادة تملكه وراء معنى الكلمات التي تستبعدها)).
* مرجع النص :
Manuel de Diéguez :l écrivain et son langage ;Gallimard ;1960. PP149- 17
http://saidboukhlet. com/