قصيدة بقلم فيرناندو بيسوا
ترجمة: جمال خيري
أَنَا لَسْتُ شَيْئاً.
وَلَنْ أَكُونَ لاَ شَيْءَ أَبَدَا.
وَلاَ أَسْتَطِيعُ إِرَادَةَ أَلاَّ أَكُونَ شَيْئاً.
نَاهِيكَ عَنْ هَذَا،
فَأَنَا أَحْمِلُ فِي كِيَانِي كُلَّ أَحْلاَمِ الْعَالَمِ..
نَوَافِذُ غُرْفَتِي،
مِنْ غُرْفَتِي،
وَحَدَةً مَجْهُولَةً، أَبْدُو، فِي هَذِهِ الْمَنْمَلَةِ الإِنْسَانِيَةِ،
(وَإِنْ عَرَفْنَا مَاهِيَتَهَا، فَمَا الَّذِي كُنَّا سَنَعْرِفُهُ أَكْثَرَ؟)
وَأَنْتِ تُطِلِّينَ عَلَى غَيْبِ شَارِعٍ فِي اذْهِيَابٍ (2) مُسْتَمِرٍّ
شَارِعٍ مَنِيعٍ عَلَى كُلِّ الأَفْكَارِ،
حَقِيقِيٍّ حَتَّى الاِسْتِحَالَةِ،
وَدَقِيقٍ، دَقِيقٍ إِلَى التَّخَفِّي،
بِلُغْزِ الأَشْيَاءِ الْمَطْمُورِ تَحْتَ الأَحْجَارِ وَالْكَائِنَاتِ،
بِالْمَوْتِ الَّذِي يَذُرّ الطَّحَالِبَ عَلَى الْحِيطَانِ وَالشَّيْبَ عَلَى الإِنْسَانِ،
بِالْقَدَرِ الَّذِي يَسُوقُ مَرْكَبَةَ الْكُلِّ فِي طَرِيقِ اللاَّشَيْءِ.
أَنَا الْيَوْمَ مَغْلُوبٌ وَكَأَنِّي أَعْرِفُ الْحَقِيقَةَ،
أَنَا الْيَوْمَ صَحْوٌ وَكَأَنِّي لَحْظَةَ النَّزْعِ،
وَلاَ آصِرَةَ تَرْبِطُنِي بِالأَشْيَاءِ
إِلاَّ آصِرَةُ الْوَدَاعِ؛
هَذِهِ الدَّارُ، وَجَانِبُ الشَّارِعِ هَذَا
يَتَحَوَّلاَنِ إِلَى صَفٍّ مِنَ الْعَرَبَاتِ، وَيَنْطَلِقَانِ بِصَفِيرٍ أَتِيٍّ مِنْ عُمْقِ رَأْسِي،
وَارْتِجَاجٍ مِنْ أَعْصَابِي، وَأَزِيزٍ مِنْ عِظَامِي وَهْيَ تَتَحَرَّكُ.
أَنَا الْيَوْمَ مُرْتَابٌ كَالَّذِي فَكَّرَ وَوَجَدَ ثُمّ سَهَى.
أَنَا الْيَوْمَ مُنْشَطِرٌ بَيْنَ وَفَائِي لِلْمَتْبَغِ الَّذِي يُوَاجِهُنِي كَشَيْءٍ حَقِيقِيٍّ بَرَّانِيٍّ
وَهَذَا الإِحْسَاسِ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ وَهْمٌ كَحَقِيقَةٍ يُنْظَرُ إِلَيْهَا مِنْ جَوَّانِيٍّ.
لَقَدْ ضَيَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ.
وَلِأَنِّي كُنْتُ دُونَ طُمُوحٍ، فَلَعَلَّ هَذَا الْكُلَّ الَّذِي ضَيَّعْتُهُ مَا كَانَ شَيْئاً…
الْمَبَادِئُ الصَّالِحَةُ الَّتِي لَقَّنُونِي إِيَاهَا
هَرَبْتُ عَنْهَا مِنْ نَافِذَةِ الْفِنَاءِ
إِلَى الْحُقُولِ بِبَغَايَا جَلِيلَةٍ
وَلَكِنِّي لَمْ أَجِدْ ثَمَّةَ غَيْرَ عُشْبٍ وَأَشْجَارٍ…
وَالنَّاسُ، وَإِنْ كَانُوا هُنَاكَ، فَقَدْ كَانُوا مِثْلَ كُلِ النَّاسِ
أَتْرُكُ النَّافِذَةَ وَأَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيٍّ. فِيمَ يُمْكِنُنِي أَنْ أُفَكِّرَ؟
مَاذَا أَعْرِفُ عَمَّا سَأَكُونُهُ، أَنَا الَّذِي لَا أَعْرِفُ مَا أَنَاهُ؟
هَلْ أَنَا مَا أُفَكِّرُ فِيهِ؟ وَلَكِنِّي أَخَالُ أَنِّي كَذَا وَكَذَا
وَهُنَاكَ عَدِيدٌ مِنَ النَّاسِ يَظُنُّونَ الشَّيْءَ نَفْسَه. فَلاَ يُمْكِنُ أَنْ نَكُونَ جَمِيعاً هَكَذَا
هَلْ عَبْقَرِيٌّ؟ فِي هَذَا الْحِينِ
مَائَةُ أَلْفِ دِمَاغٍ تَرَى نَفْسَهَا فِي الْخَيَالِ عَبْقَرِيَةً مِثْلِي
وَالتَّارِيخُ لَنْ يَحْفَظَ مِنْهَا، وَلَوْ وَاحِداً… وَمَنْ يَدْرِي؟
رَوْثٌ، هَذَا مَا سَيَبْقَى مِنْ كَثِيرِ الْفُتُوحَاتِ الْآتِيَةِ.
كَلاَّ أَنَا لاَ أُومِنُ بِنَفْسِي
فِي كُلِّ مَصَحَّاتِ الْأَمْرَاضِ الْعَقْلِيَّةِ، هُنَاكَ كَثِيرٌ مِنَ الْحَمْقَى مَهْوُوسُونَ بِالْكَثِيرِ مِنَ الْيَقِينِ
وَأَنَا الَّذِي لاَ إِيقَانَ لِي، هَلْ أَنَا أَكْثَرُ اقْتِنَاعاً؟ هَلْ أَقَلُّ؟
كَلاَّ لَسْتُ مُقْتَنِعاً حَتَّى بِنَفْسِي
وَفِي كَمْ سَقِيفَةٍ وَغَيْرِ سَقِيفَةٍ فِي الْعَالَمِ
ثَمَّةَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ عَبَاقِرَةُ أَنْفُسِهِمْ بِهَا حَالِمُونْ؟ كَمْ مِنْ طُمُوحٍ عَالٍ وَوَاضِحٍ وَنَبِيلٍ
أَجَلْ… خَالِصِ الْعُلُوِّ وَالْوُضُوحِ وَالنُّبْلِ،
وَمَنْ يَدْرِي؟ وَرُبَّمَا مُمْكِنِ التَّحْقِيقِ أَيْضاً…
لَنْ يَرَى أَبَداً نُورَ الشَّمْسِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَسَيَسْقُطُ فِي آذَانٍ صَمَّاءَ؟
الْعَالَمُ لِلَّذِي يُولَدُ لِغَزْوِهِ
وَلَيْسَ لِلَّذِي يَحْلُمُ، وَإِنْ حُقَّ لَهُ، وَكَانَ حَقاًّ يَسْتَطِيعُ غَزْوَهُ
لَقَدْ حَلَمْتُ أَكْثَرَ مِمَّا حَلَمَهُ نَابُّلِيُونُ
وَعَلَى نَهْدِيَ الْمُرِيبِ اعْتَصَرْتُ الْإِنْسَانِيَةَ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلَهُ الْمَسِيحُ
وَقُمْتُ فِي السِّرِّ بِفَلْسَفَاتٍ مَا كَانَ لِكَانْطُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَكْتُبَهَا
وَلَكِنِّي، سَأَبْقَى، رُبَّمَا، امْرَأَ السَّقِيفَةِ، مَدَى الْحَيَاةِ
دُونَ أَنْ يَكُونَ لِيَ فِيهَا سَكَنٌ
سَأَكُونُ دَائِماً ذَاكَ الَّذِي لَمْ يُولَدْ لِهَذَا
سَأَكُونُ دَائِماً ذَاكَ الَّذِي كَانَتْ لَهُ الْهِبَاتُ، لاَ أَكْثَرَ
سَأَكُونُ دَائِماً ذَاكَ الَّذِي كَانَ يَنْتَظِرُ أَنْ يُفْتَحَ لَهُ الْبَابُ
عِنْدَ جِدَارٍ لَيْسَ بِهِ بَابٌ
وَالَّذِي غَنَّى مُوَشَّحَ الْلاَّنِهَايَةِ فِي حَوْشِ الدَّوَاجِنِ
ذَاكَ الَّذِي سَمِعَ صَوْتَ الْإِلَهِ فِي بِئْرٍ مَطْمُورَةٍ.
أنْ أُومِنَ بِنَفْسِي؟ كَلاَّ…لاَ أَكْثَرَ مِنْ إِيمَانِي بِاللَّاشَيْءِ…
فَلْتُفْرِغِ الطَّبِيعَةُ عَلَى رَأْسِيَ الْمُلْتَهِبَةِ
شَمْسَهَا، مَطَرَهَا، الرِّيحَ الَّتِي تُدَاعِبُ شَعْرِي
أَمَّا الْبَاقِي فَلْيَكُنْ مَا يَسْتَطِيعُ، أَوْ لاَ يَكُونُ شَيْئاً، بَتَاتاً
رَقِيقُ النُّجُومِ مَقْلُوبُونَ، نَحْنُ
غَزَوْنَا الْكَوْنَ قَبْلَ أَنْ نَتْرُكَ مَخَادِعَنَا
وَلَكِنَّنَا نَصْحُو فَإِذَا هُوَ مُعَتَّمٌ
نَصْحُو فَإِذَا بِهِ غَرِيبٌ
وَنَجْتَازُ عَتَبَةَ الْبَيْتِ فَنَجِدُهُ الْأَرْضَ كُلَّهَا،
وَالْمَجْمُوَعَةَ الشَّمْسِيَّةَ وَدَرْبَ التَّبَّانَةِ وَالرَّحَابَةَ اللَّامُتَنَاهِيَةَ…
كُلِي الشُّكُولاَتَةَ أَيَّتُهَا الصَّبِيَّةُ
كُلِي الشُّكُولاَتَةَ
وَقُولِي لِنَفْسِكِ جَيِّداً أَنْ لَيْسَتْ هُنَاكَ مِيتَافِيزِيقَا أُخْرَى غَيْرُ الشُّكُولاَتَةِ
وَقُولِي لِنَفْسِكِ جَيِّداً أَنَّ كُلَّ الدِّيَانَاتِ بِمَجْمُوعِهَا لاَ تُعَلِّمُنَا أَكْثَرَ مِمَّا تُعَلِّمُنَا إِيَاهُ السَّكَاكِيرُ الْحَلَوِيَةُ
كُلِي أَيَّتُهَا الْقَذِرَةُ الصَّغِيرَةُ، كُلِي..
آهٍ لَوْ كَانَ بِإِمْكَانِي أَنْ آكُلَ الشُّكُولاَتَةَ مِثلَكِ بِنَفْسِ الْإِلْمَامِ
وَلَكِنِّي أُفَكِّرُ، أَنَا، وَحِينَ أُزِيلُ الْوَرَقَ الفِضِّيَّ الذِي يَلُفُّهَا، وَالَّذِي هُوَ عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ قِصْدِيرٍ، أَرْمِي بِالْكُلِّ عَلَى الْأَرْضِ، مِثْلَمَا رَمَيْتُ بِالْحَيَاةِ)
عَلَى أَيِّ حَالٍ، مَازَالَتْ مِنْ مَرَارَةِ الْقَدَرِ الَّذِي لَمْ يَتَحَقَّقْ
كَالِغْرَافِيَةُ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ السَّرِيعَةِ
كَرِوَاقٍ خَرِبٍ يُطِلُّ عَلَى الْمُسْتَحِيلِ
عَلَى أَيِّ حَالِ، وَالْعُيُونُ يَابِسَةٌ، فَإِنِّي أَنْذِرُ لِنَفْسِي الْاحْتِقَارَ
أَنَا النَبِيلُ، عَلَى أَيِّ حَالٍ، وَلَوْ بِهَذا التَّلْوِيحِ الْوَاسِعِ الَّذِي أَرْمِي عَبْرَهُ فِي حَرَكِيَةِ الْأَشْيَاءِ،
وَبِدُونِ فَاتُورَةِ الْغَسِيلِ، الثِّوْبَ الْوَسِخَ الَّذِي أَنَا هُو،
وَأَبْقَى فِي الْمَأْوَى دُونَ قَمِيصٍ.
(وَأَنْتِ الَّتِي تُوَاسِينَ وَالَّتِي لاَ تُوجَدِينَ، وَبِهَذَا كَذَلِكَ تُوَاسِينَ
أَمْ إِلَهَةٌ إِغْرِيقِيَّةٌ عَلَى هَيْأَةِ تِمْثَالٍ يَمْلِكُ النَّفْحَ
أَمْ شَرِيفَةٌ رُومَانِيَّةٌ فِي غَايَةِ النُّبْلِ وَالشُّؤْمِ مَعاً
أَمْ أَمِيرَةُ شَاعِرٍ جَوَّالٍ كَثِيرَةُ اللَّطَافَةِ وَالزَّرْكَشَةِ
أَمْ مَرْكِيزَةٌ مِنَ الْقَرْنِ الثَّامِنِ عَشَرَ قَصِيَّةٌ وَمَكْشُوفَةُ الصَّدْرِ إِلَى حَدٍّ بَعِيدٍ
أَمْ عَاهِرَةٌ مَشْهُورَةٌ مِنْ عَهْدِ آبَائِنَا
أَوْ مَا لاَ أَعْرِفُهُ مِنْ مُعَاصِرٍ – لاَ، لاَ أَفْهَمُ جَيِّداً مَا قَدْ يَكُونُ-
فَلْيُلْهِمْنِي كُلُّ هَذَا مَهْمَا كَانَ وَمَهْمَا كُنْتُ، إِذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ.
قَلْبِيَ دَلْوٌ أَفْرَغُوهُ
وَمِثْلُ الَّذِينَ يَسْتَحْضِرُونَ الْأَرْوَاحَ، أَسْتَحْضِرُ نَفْسِي…
فَلاَ أَجِدُ أَيَّ شَيْءٍ
أَتَقَدَّمُ إِلَى النَّافِذَةِ وَأَنْظُرُ إِلَى الشَّارِعِ بِوُضُوحٍ مُطْلَقٍ
أَرَى الْمَتَاجِرَ وَالْأَرْصِفَةَ وَالسَّيَّارَاتِ الَّتِي تَمُرُّ
أَرَى الْكَائِنَاتِ الْحَيَّةَ وَالْمَكْسُوَّةَ الَّتِي تَتَلاَقَى
أَرَى الْكِلاَب الَّتِي تُوجَدُ هِيَ كَذَلِكَ
وَكُلُّ هَذَا يُزْعِجُنِي كَحُكْمٍ بِالْإِبْعَادِ
وَكُلُّ هَذَا غَرِيبٌ، كَكُلِّ شَيْءٍ)
لَقَدْ عِشْتُ، أَحْبَبْتُ – مَا عَسَانِي أَقُولُ؟ آمَنْتُ كَذَلِكَ،
وَالْيَوْمَ لَيْسَ ثَمَّةَ مُتَسَوِّلٌ إِلاَّ وَأَحْسُدُهُ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، هُوَ أَنَهُ لَيْسَ أَنَا
فِي كُلِّ شَخْصٍ أَرَى الْأَسْمَالَ، وَالْجِرَاحَ، وَالْكَذِبَ
وَأُفَكِّرُ:”رُبَّمَا لَمْ تَعِشْ أَبَداً، وَلَمْ تَتَعَلَّمْ وَلَمْ تُحِبَّ وَلَمْ تُؤْمِنْ”
(إِذْ يُمْكِنُ تَنْسِيقُ وَاقِعِ كُلِّ هَاتِهِ الْأَشْيَاءِ دُونَ تَنْفِيذِ أَيٍّ مِنْهَا)
“رُبَّمَا مَا كِدْتَ تُوجَدُ، مِثْلَ عَظَاءَةٍ قُطِعَ ذَيْلُهَا،
وَمَا تَزَاُل الذَّيْلُ مَبْتُورةً تَرْتَعِصُ بِجُنُونٍ”
لَقَدْ فَعَلْتُ بِنَفْسِي مَا لاَ أَعْرِفُ الْقِيَامَ بِهِ
وَمَا كُنْتُ أَسْتَطِيعُ فِعْلَهُ بِهَا لَمْ أَقُمْ بِهِ
الدُّومِينُو الَّذِي وَضَعْتُهُ لَمْ يَكُنْ صَائِباً
بِسُرْعَةٍ كُنْتُ أُعْرَفُ بِمَا لَسْتُهُ، مَا لَمْ أُكَذِّبْهُ، فَكُشِفَ أَمْرِي
عِنْدَمَا أَرَدْتُ نَزْعَ الْقِنَاعِ
أَلْصَقْتُهُ بِوَجْهِي
وَحِينَ أَزَلْتُهُ وَتَطَلَّعْتُ إِلَيَّ فِي الْمِرْآةِ
كُنْتُ قَدْ شِخْتُ
كُنْتُ ثَمِلاً وَلَمْ أَعْرِفْ الْبَتَّةَ وَضْعَ الْقِنَاعِ الَّذِي كُنْتُ لَمْ أَزِلْهُ بَعْدُ
فَرَمَيْتُ بِالْقِنَاعِ وَنِمْتُ بِمَخْزَنِ الثِّيَابِ
كَكَلْبٍ تَتَسَامَحُ بِأَمْرِهِ الْإِدَارَةُ
لِأَنَّهُ أَلِيفٌ لاَ يُؤْذِي–
وَسَأَكْتُبُ هَذِهِ الْقِصَّةَ لِأُبَرْهِنَ عَلَى أَنَّنِي أَغَرُّ
يَا جَوْهَرَ مُوسِيقَى أَشْعَارِيَ غَيْرِ الْمُجْدِيَةِ
يَا الَّذِي سَتَمْنَحُنِي أَنْ أَجِدَكَ كَشَيْءٍ أَبْدَعْتُهُ،
وَلَا أَبْقَى إِلَى الْأَبَدِ أَمَامَ هَذَا الْمَتْبَغِ الَّذِي يُوَاجِهُنِي
أَدُوسُ بِرِجْلَيَّ وَعْيَ وُجُودِي
كَبِسَاطٍ يَتَعَرْقَلُ فِيهِ سِكِّيرٌ
أَوْ كَحَصِيرٍ سَرَقَهُ الْبُهِيمِيُّونَ وَلَمْ يَكُنْ يُسَاوِي قِرْشَيْنِ
وَلَكِنَّ صَاحِبَ الْمَتْبَغِ وَصَلَ إِلَى الْبَابِ. وَعِنْدَ الْبَابِ تَوَقَّفَ
أَنْظُرُ إِلَيْهِ بِانْقِبَاضِ وَكَأَنِّي مُصَابٌ بِصَعَرٍ نِسْبِيٍّ
وَبِضَيْقٍ رُوحٍ شِبْهِ مُغَشَّاةٍ
سَيَمُوتُ، وَسَأَمُوتُ.
سَيَتْرُكُ لاَفِتَةً، وَسَأَتْرُكُ أَشْعَاراً
وَفِي لَحْظَةٍ مُعَيَّنَةٍ سَتَمُوتُ اللاَّفِتَةُ كَذَلِكَ
وَسَتَمُوتُ الْأَشْعَارُ هِيَ الْأُخْرَى
وَبَعْدَ مُهْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ، سَيَمُوتُ الشَّارِعُ حَيْثُ كَانَتِ اللاَّفِتَةُ مُنْتَصِبَةً،
وَكَذَلِكَ اللُّغَةُ الَّتِي كُتِبَتْ بِهَا الْأَشْعَارُ
ثُمَّ سَيَمُوتُ الْكَوْكَبُ الدَّوَّارُ حَيْثُ حَدَثَ كُلُّ هَذَا
وَفِي كَوَاكِبَ سَيَّارَةٍ أُخْرَى، فِي أَنْظِمَةٍ كَوْنِيَّةٍ أُخْرَى، شَيْءٌ آخَرُ شَبِيهٌ بِالْإِنْسَانِ
سَيَسْتَمِرُّ فِي كِتَابَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْأَشْعَارِ وَالْعَيْشِ وَرَاءَ ضُرُوبٍ مِنَ اللاَّفِتَاتِ
دَائِماً شَيْءٌ أَمَامَ آخَرَ
دَائِماً شَيْءٌ أَقَلَّ نَفْعاً مِنْ آخَرَ
دَائِماً شَيْءٌ أَكْثَرَ بَلاَهَةً مِنَ الْوَاقِعِ
دَائِماً لُغْزُ الْغَائِرِ أَكِيدٌ مِثْلَماَ هُوَ أَكِيدٌ رُقَادُ لُغْزِ الظَّاهِرِ.
دَائِماً هَذَا الشَّيْءُ أَوْ غَيْرُهُ، أَوْ لاَ هَذَا وَلاَ ذَاكَ
وَلَكِنَّ رَجُلاً دَخَلَ الْمَتْبَغَ (أَوَ لِشِرَاءِ بَعْضِ التِّبْغِ؟)
وَإِذَا بِحَقِيقَةِ الْوَاقِعِ تَنْهَارُ عَلَى رَأْسِيَ فَجْأَةً،
فَأَنْتَصِبُ نِسْبِياًّ، نَشِيطاً، مُقْتَنِعاً، إِنْسَانِياً…
وَأَرُوحُ أَتَأَمَّلُ كِتَابَةَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ الَّتِي أُعَبِّرُ فِيهَا عَنِ النَّقِيضِ
أُشْعَلُ سِيجَارَةً وَأَنَا أَتَأَمَّلُ كِتَابَةَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ
وَأَسْتَسِيغُ فِي السِّيجَارَةِ تَحَرُّرِي مِنْ كُلِّ الْأَفْكَارِ
أُتَتَبَّعُ الدُّخَّانَ كَمَسْلَكٍ تِلْقَائِيٍّ، وَأَسْتَجِيدُ، فِي لَحْظَةٍ حَسَّاسَةٍ وَجَدِيرَةٍ،
تَحَرُّرَّ كِيَانِي مِنْ كُلِّ هَذِهِ التَّأَمُّلَاتِ
وَأسْتحْسِنُ الْوَعْيَ بِأَنَّ الْمِيتَافِيزِيقَا هِيَ مِنْ تَأْثِيرِ ضَيْقٍ عَابِرٍ.
ثُمَّ أَسْتَلْقِي عَلَى الْكُرْسِيِّ
وَأَسْتَمِرُّ فِي التَّدْخِينِ.
وَطَالَمَا الْقَدَرُ سَيُسْعِفُنِي فَإِنِّي سَأَسْتَمِرُّ فِي التَّدْخِينِ.
(رُبَّمَا سَأَكُونُ سَعِيداً
إِذَا تَزَوَّجْتُ بِابْنَةِ غَسَّالَةِ الْمَلاَبِسِ)
هُنَا أَنْهَضُ. أَتَقَدَّمُ إِلَى النَّافِذَةِ.
خَرَجَ الرَّجُلُ مِنَ الْمَتْبَغِ (أَلَمْ يَضَعْ بَقِيَّةَ النُّقُودِ
فِي جَيْبِ سِرْوَالِهِ؟)
آهْ… إِنِّي أَعْرِفُهُ، إِنَّهُ “إِسْتِيفُ”. “إِسْتِيفُ” دُونَ مِيتَافِيزِيقَا.
(وَصَلَ صَاحِبُ الْمَتْبَغِ إِلَى الْعَتَبَةِ.)
اِلْتَفَتَ “إِسْتِيفُ” وَكَأَنَّهُ مَوْهُوبٌ بِحَدْسٍ رَائِعٍ، وَرَآنِي.
حَيَّانِي مُلَوِّحاً بِيَدِهِ. صَرَخْتُ نَحْوَهُ “سَلاَمٌ إِسْتِيفُ”، فَاسْتَعَادَ الْعَالَمُ بِنَاءَهُ
لِأَجْلِي دُونَ هَدَفٍ وَدُونَ أَمَلٍ
وَابْتَسَمَ صَاحِبُ الْمَتْبَغِ.
15 يناير1928
————————————
* فرناندو آنطونيو نوغيرا بيسوا الشاعر البرتغالي الكبير(1888-1935 بلشبونة) صاحب كتاب اللا سكينة، وتارك الصندوق الذي يحتوي على أكثر من 25000 كتابة، ومتعدد الأسماء أو بالتدقيق الذوات الكاتبة التي من بينها “آلفارو دو كامبوس”.
(1): لقد قام الشاعر المغربي المهدي أخريف بترجمة لنفس القصيدة محافظا على عنوانها الأصلي: “الطبكيرية”. بينما ترجمها إسماعيل أزيات وعنونها بـ “دكان التبغ”. في حين عنونها وليد سليمان مقتصرا على الترجمة الحرفية بـ “مكتب التبغ”. ونحن نوظف كلمة “متبغ” ونرجوها دقيقة، في مقابل كل هذه المركبات وغيرها. كما نأمل أن يجد القارئ متعة في قراءة عملنا هذا الذي أردناه دقيقا وشعريا في آن.
(2): الكلمة منا، وهي تركيب من كلمتي “ذهاب” وإياب”.