قصائد للشاعر الألمانيّ: ريلكه
ترجمة الشاعر المصريّ: محمد عيد إبراهيم
الشاعر الألمانيّ راينر ماريه ريلكه (1875 ـ 1926) ولد في براغ، وظلّ طول حياته “على قلق” كما قال المتنبيّ، فبعد طفولة تعسة وتعليم مهيض، راح يتنقّل عابراً أوربا، حيث قابل تولستوي في روسيا، وعمل سكرتيراً للفنان رودان في باريس، وعمل موظفاً بالنمسا زمن الحرب العالمية الأولى، وقد صادف الشاعر الفرنسيّ بول فاليري فترجم ديوانه “مفاتن” عام 1925، وتأسّى به في ديوانه الأخير “قصائد فرنسية”.
يُعدّ ريلكه أعظم شاعر غنائيّ في ألمانيا المعاصرة، وابتكر “القصيدة الموضوعية” كمحاولة من جانبه لوصف الأشياء الملموسة بأقصى وضوح، أو كما قال “الصمت بحقيقته المركزة”. من أشهر دواوينه: كتاب الساعات (1903)، كتاب الصور (1906)، قصائد جديدة (1907). أما ديواناه “مراثي دوينو” و”سونيتات إلى أورفيوس” فظهرا في عام واحد، 1923.
كان ريلكه يكتب بحسّ صوفيّ عن الله والموت، ويكتب بصور منوّعة من البسيط للمركّب للعميق، ويتميز بالمجاز البصريّ اللافت والحسّ الموسيقيّ الغالب واستخدام الأسماء أكثر من الأفعال. وظلّ الحبّ الروحانيّ والحسيّ بين الرجل والمرأة موضوعه المفضّل. واستعمل الرمزية كوسيلة تعبيرية عن النزعة الخيرية والتسامي الإلهيّ خاصة فيما يتعلّق بالموت.
ونترجم هنا بعضاً من شعره بكتاب “قصائد مختارة” حيث يرى الحياة فيما وراء الحياة:
حياتي
حياتي كلُّها لي، ومَن يدَّعِي غيرَ
ذلكَ سيحرمُني، لأنها أبديةٌ.
رقرقاتُ المياهِ، ظلُّ السماءِ
لي. ولا تزال هي نفسَها، حياتي.
تفتحُني رغبتي: مُشبَعٌ أنا،
لن أختمَ على نفسي بالهجرِ ـ
في إيقاعِ رُوحي اليوميةِ
لا أرغبُ ـ فأنا مُتنقّلٌ.
بتنقّلي، أُجهدُ إمبراطوريتي،
فأحقّقُ أحلامَ الليالي
في جسمي، عندَ قاعِ المياهِ،
أستهوي ما وراءَ المرايا…
الخسران
الخسرانُ يلحقُنا، حتى النسيانُ
له شكلٌ في مملكةِ التحولاتِ.
حين يتركُنا شيءٌ، يدورُ، مع أننا
نادراً ما نكونُ مركزَ الدائرةِ، إلا أنهُ
يرسمُ حولَنا منحناهُ المتّصلَ العجيبَ.
أغنية الشحّاذ
من بابٍ لبابٍ أمضي دائماً،
في المطرِ سواءٌ أو في الحرِّ،
وقد أُرقِدُ أُذني اليمنى أحياناً
براحةِ يدي اليمنى.
يبدو صوتي غريباً وأنا أتكلّمُ
كأنهُ أجنبيٌّ عنيّ،
وأرتابُ من أيّ صوتٍ يبكي:
أهو صوتي أم لغيري؟
أبكي على أجرٍ زهيدٍ يقيني حاجتي.
ويبكي الشعراءُ على مزيدٍ منهُ.
في النهايةِ أُخفي وجهي كلّهُ
وأُغطّي عينَيّ؛
حيثُ يرقدُ وجهي بينَ يدَيّ بثُقلهِ
بادياً كأنهُ سيرتاحُ،
حتى لا يظنّ امرؤٌ أني
لا أجدُ مكاناً أُرقِدُ وجهي عليهِ.
الزمن، ومن جديد
الزمنُ، ومن جديدٍ، مهما خبرنا جيداً مشهدَ الحبِّ،
وكانَ فناءُ الكنيسةِ الصغيرُ بأسماءٍ رثيناها،
والوادي الصامتُ المرعبُ حيثُ ينتهي
الآخرونَ؛ الزمنُ، ومن جديدٍ سنخرجُ معاً،
تحتَ الشجرِ العتيقِ، نرقدُ ثانيةً
بينَ الأزهارِ، وجهاً لوجهٍ نحو السماءِ.
خلف الشجر البريء
خلفَ الشجرِ البريءِ
مصيرٌ قديمٌ يُشكِّلُ بطيئاً
وجهَهُ المتحفّظَ.
ترحلُ التجاعيدُ هناكَ…
هنا طائرٌ يصرخُ، وهناكَ
أُخدودٌ من الألمِ
ينبَثُّ من الفمِ المتشدّقِ بالحقيقةِ.
آهٍ، وأشباهُ العشّاقِ،
في بسماتٍ لا تعترف بالوداعِ! ـــ
مصيرُهم مُحيطٌ معلّقٌ فوقَهم،
بكوكبةِ نجومٍ،
في صفاءِ الليلِ.
مع أنهُ لم يُعرِّض نفسَهُ لخبراتِهم،
فيظلُّ هناكَ،
يحوِّمُ فوقَ دروبِ النعيمِ،
بشكلٍ أثيريٍّ.
لا يجب أن تفهم الحياة
لا يجبُ أن تفهمَ الحياةَ.
عندئذٍ يبدو كلُّ يومٍ سهرةً.
دعْ كلّ يومٍ بسيطاً، كوليدٍ وهو يمرّ
يتلقّى أزهاراً من الرياحِ.
لا تجمعها الحياةُ أو توفّرها،
قد لا يتَسنّى لها.
وقد تتوهُ عن شَعرها
حيثُ رتّبَت أمرَها في سعادةٍ
وخلالَ أعوامِ شبابِها الفرحانِ
تمدّ أيديها لتحضنَ كلّ جديدٍ.
الشاعر
حلّت ساعةُ الإلهامِ، فلماذا تهجُرينني،
تجرحينني من خفقِ أجنحةٍ بطيرانكِ؟
وحدي: في ماذا أستغلّ فمي للكلامِ؟
وكيفَ أصرفُ أيامي؟ ولياليَّ؟
فلا أحدَ أحبّهُ. ولا بيتَ لي.
وما من مركزٍ قد أسُدّ بهِ رمقَ حياتي.
كلّ ما أمنحهُ نفسي يكبُر وفيراً،
ليتركَني مُستَنفَداً، وحدي، جديبَ الخيالِ.