أيمن عبد العزيز – مصر
الحلقة الأولى : البداية والوصول
ما إن تصعد درجات السلم وصولا لباب الطائرة وتنظر للوجوه ذات الملامح المغربية المميزة التى تستقبلك عند باب الطائرة وتسمع كلمة مرحبا باللهجة المغربية”بفتح الميم وتسكين الراء الحاء وفتح الباء” إلا وينتابك إحساس بأنك فى مكان مختلف وأنك فى طريقك لرحلة مميزة بكل المقاييس.
وبالنسبة لقاهري النشأة مثلي يعانى من صخب المدن الكبيرة المزدحمة كمدينة القاهرة بكل إيجابياتها وسلبياتها، ما إن تعلن مضيفة الطائرة أننا نحلق فوق الأجواء المغربية وإقتربنا من الهبوط بمطار محمد الخامس الدولي في الدار البيضاء إلا وتتأكد أنك فعلا فى مكان مختلف حيث يبدأ العرض المبهر للجغرافيا.
ما إن هبطت الطائرة وبدأت تسير باستقرار على الممر الطويل بالمطار حتى بدت من النافذة ملامح الأماكن مختلفة عما ألفته وودعته لحظة الإقلاع من مطار القاهرة من زحام ومباني إسمنتية كالحة بلا ملامح تبدو من الطائرة كمكعبات إسمنتية قبيحة تتجاور فى نفور وعشوائية مستفزة .
وأول ما تلاحظه العين على الأرض حتى من داخل الطائرة هو الإتساع الشديد والإحساس بالإمتداد المكاني حيث أن المطار فى مكان فسيح جدا وبعيد تماما عن المناطق السكنية ولا يحيط به على امتداد الرؤية البصرية فى الأفق إلا مساحات شاسعة جدا من الحقول والأراضى الزراعية المحروثة والتى اكتمل اخضرار بعضها بوضوح ويجاورها قطع أخرى في انتظار الزراعة في مشهد يبدو من أعلى كرقعة ضخمة للشطرنج بلونيها المتمايزين الفاتح و الغامق.
ويمتد عبر هذه الأراضي الشاسعة كخيط أسود طويل الخط الحديدى الذى يربط المطار بمدينة الدار البيضاء، وغيرها من المدن، وهو ما يبعث فى النفس شعورا بالراحة والصفاء ويدفعك للإحساس التلقائي بأن رئتيك قد اتسعتا وامتلأتا عن آخرهما بالهواء المنعش الممزوج برائحة العشب في الأراضي المزروعة.
أقلعت الطائرة حوالى الساعة 6 صباحا بتوقيت القاهرة واستغرقت الرحلة ما يقارب الـ 5 ساعات، وصلنا بعدها إلى مطار محمد الخامس بالدار البيضاء وكانت الساعه حوالى الحادية عشر صباحا حيث أن التوقيت المحلى للمغرب يقل بساعتين عن التوقيت المصرى شتاء، وثلاث ساعات صيفا عندما يبدأ العمل فى مصر بنظام التوقيت الصيفي.
لم تكن الشمس قد بدأت تسخن فى الأفق بعد، وهو ما منح الجو لمسة باردة قليلا فى وجود دافئ الشمس البازغة فى الأفق، إلا أنها كانت منعشة بعد الخروج من الطائرة بهوائها المصطنع خاصة وأن رائحة الجو عند الوصول كانت ممزوجة برائحة العشب من المناطق الخضراء حول منطقة المطار على عكس ما يحيط بمطار القاهرة من زحام تبدو غاية فى القبح من أعلى.
يستوقف النظر و يسترعى الانتباه أولا عند اقتراب الطائرة من الهبوط الأبنية البسيطة الموجودة داخل المطار بألوانها المميزة وطرازها المغربى المميز وخاصة اللون الأبيض والأحمر والأخضر وهو ما يشعر النفس بالراحة والاتساع و الهدوء المعطر برائحة الطبيعة المغربية.
لحظات ونقلنا الأوتوبيس إلى صالات الوصول بالمطار و بعدها وصلنا لمكاتب الجوازات ، وقفت أنا وصديقى فى الصف إلى أن وصلنا فى ثوان أمام شباك الجوازات وبينما أخذ أحد الموظفين يراجع بيانات ” الباسبور” و كارت البيانات الذى ملأناه داخل الطائره قال لي الآخر مبتسما: “انتا مصرى مرحبا بيك”, وقال لي ضاحكا بعد إجابتى له عن أن سبب زيارتى للمغرب هو السياحة هل ستذهب لشرب عصير العنب فى عين دياب ؟ ونظر إلي هو وزميله ضاحكين ضحكة لعوب مستفسرة فتعجبت لبعض ثوانى وقلت فى نفسي ولماذا عصير العنب بالذات ما سأل عنه صاحبنا، وهل يشتهر المغرب بشكل خاص بعصير العنب؟ إلا أن المعنى الذى قصده ضابط الجوازات قفز إلى ذهني في التو فإنفجرت ضاحكا بدوري مع الضابطين الناظرين إلي في مكر ومرح وأجبته بالنفى وأن هذا ليس هدفي من الزيارة و كان يقصد هل ستذهب لشرب الخمور كما يفعل السياح كثيرا فى تلك المنطقة التي توجد بها المطاعم و الكازينوهات… وكان ذلك أول لقاء لنا مع خفة الظل للإخوة المغاربة.
عرفنا بعد ذلك لماذا حدثنا الضابط عن عين دياب بالتحديد حيث توجد تلك المنطقة على البحر فى الدار البيضاء وفيها تكثر المطاعم والكازينوهات السياحية، وفى طريقنا قال لي صديقي محمود لا بد أن نزور عين دياب هذه لنتعرف عليها وعلى ما يجرى فيها طالما أنها مشهورة إلى تلك الدرجة المثيرة .
وصلنا إلى مكتب الاستعلامات وطلبنا بعض المعلومات عن فنادق ذات أسعار معقولة وقريبة من وسط البلد، وانسب المواصلات إلى هناك وإلى بعض المدن المغربية الأخرى و كان أنسب الاختيارات بالنسبة لى أنا وصديقى هو القطار، توجهنا لشباك التذاكر وفي ثوان حصلنا عليها وكان لافتا أن الحجز يتم آليا من خلال الكمبيوتر فقط دون الكتابة بأية أقلام كما يحدث عندنا، حيث أن موظفى حجز التذاكر فى مصر يقومون بكتابة بعض البيانات على التذاكر المطبوعة آليا وغالبا ما يكون ذلك بخط غير مقروء، وبعد ذلك رحنا نجذب حقائبنا بهدوء بينما ننظر بشغف للمسافرين من حولنا وخاصة النساء بملامحهن وأزيائهن المغربية المميزة خلال جلوسنا فى انتظارنا القطار الذى كان موعد وصوله بعد حوالى نصف ساعة. استغرقنا النظر لما حولنا من مشاهد مختلفة وخاصة النساء، وما كنت قد قرأته سريعا عن اختلاف وتميز المرأة المغربية عن غيرها من النساء العرب، كما رحت أتفحص محطة القطار وأنظر للرصيف ولاحظت أنه منخفض عما اعتدناه فى بلدنا، وعرفت من شبكة الكهرباء بأعلى المحطة أنه من النوع الكهربائي ولا يسير بزيت الديزل.
وقطع انهماكنا الصامت فى التفرس فى الوجوه والأشياء من حولنا صوت وصول القطار، وبدأ الجميع يتأهب للركوب، وما إن استقر القطار على الرصيف وكنا بقرب مقدمة القطار عندما دخل إلى المحطة، وما ان اقتربنا من كابينة القيادة حتى لمحت بداخلها شعر أصفر طويل ومعقود على شكل ذيل الحصان اعتقدت أنه ربما يكون رجلا قد ترك شعره يسترسل على كتفيه أو ربما سيدة بجوار سائق القطار لأى سبب كان، إلا أن صاحبة الشعر الأصفر الداكن لم تكن إلا قائدة ذلك القطار وهو ما كان مفاجئا تماما بالنسبة لي وتأكدت حينها أن المرأة المغربية لا بد وأن لها فى هذا البلد مكانة مميزة مكنتها من غرفة القيادة بالقطار كأول امراة عربية فى ذلك المجال منذ عام 1999، تلك المهمة التى تتطلب من الرجال فى مصر أعواما طويلة من الخبرة والتدريب فى العمل كمساعد لقائد القطار قبل أن يجاز لأداء هذه المهمة منفردا.
ركبنا القطار وتحرك بنا إلى محطة الدار البيضاء ووصلها بعد حوالى 40 دقيقة مر خلالها على العديد من المناطق السكنيه التي تشبه مناطق فى بلدنا، ومر كذلك أيضا على مناطق عشوائية قرأت عنها من قبل ، تسمى فى المغرب مناطق الصفيح وهى مناطق يسكنها بعض الفقراء والمهمشون،و كان ملحوظا جدا اتساع الأماكن وعدم اكتظاظها بالناس كما عندنا، وكذلك كان ملحوظا انتشار الأعلام فوق العديد من الأبنية وهو مشهد كان جديرا بالملاحظة نظرا لعدم انتشار الأعلام فوق المباني عندنا بنفس الكثافة.
وفى تلك الأثناء مر موظف التذاكر أو”الكمساري” كما نسميه فى مصر وطلب التذاكر وأعطيناها له وكان فى يده آلة صغيرة أحدث بها ثقبا فى التذاكر كدليل على فحصها، وكان ذلك أيضا يحدث عندنا فى مصر فى قديم الزمان قبل أن يتغير ذلك إلى أن يقوم الكمسارى برسم “شخابيط” أو خطوط غير مفهومة على التذاكر للغرض نفسه.
وصل بنا القطار لمحطة الدار البيضاء المسافرين أو” كازا فواياجور” كما تسمى هناك، وهي بالفرنسية، وعلمنا باقترابنا من الوصول إليها من خلال الإذاعة الداخلية بالقطار حيث يتم التنبيه على الركاب قبيل دقائق من وصول القطار إلى المحطة التالية بصوت نسائي قوى وواضح ونقي باللغة العربية أولا ثم بالفرنسية وتذكرت خفوت وعدم وضوح صوت الإذاعة الداخلية عندنا ليس فى محطة القطارات المركزية في ميدان رمسيس بالقاهرة وإنما حتى بمطار القاهرة نفسه أحيانا.
ويوجد بالدار البيضاء محطتان للقطار قريبتان من وسط المدينة ولا تبعدان عن بعضهما كثيرا، أولاهما تسمى الدار البيضاء المسافرين والأخرى الدار البيضاء الميناء، وكان علينا أن ننزل فى الأولى.
نزلت من القطار أنا وصديقى وجلسنا قليلا على المحطة نتأمل الأشياء وندخن سيجارتين ونتأهب للخطوة القادمة وخلال ذلك كنا نستمع إلى الإذاعة الداخلية وهى تعطي المعلومات للمسافرين فى كل الاتجاهات، ونشاهد الطراز المعمارى المميز والأنيق للمحطة نفسها بأرصفتها التى لا تعلو عن الأرض إلا بنحو 20-30 سنتيمترا فقط وعندما يتوقف القطار فى الرصيف وبمجرد أن تجذب مقبض الباب لتفتحه ينزل من القطار فى نفس اللحظة سلم حديدي ويستقر أعلى الرصيف بسنتيمترات قليلة ليتمكن الركاب من الصعود أو النزول من القطار.
كما توجد على أرصفة القطار فى مختلف الاتجاهات لافتات إليكترونية تبين مواعيد القطارات القادمة على كل رصيف، وجميع محطات القطارات فى المغرب لها تقريبا نفس النموذج المعماري الموحد و المميز، وبينما يجلس المسافرون على المقاعد الحديثة في انتظار القطار تهب عليهم نسمات منعشة محملة بروائح أشجار البرتقال التي تحيط بالمحطات وتزين أرصفتها في الشتاء والخريف.